ما الذي يحمله المساء غير المطر؟!
يحمل الصوت والصدى.. ولصوت الريح في الأعالي وقع خاص..وللأشجار، كما للناس ذاكرة.. ومع الأماسي المعتكرة يبدأ الترجيع.. تصير الصدور والعيون خليجاً من «المونولوج الداخلي» وتستحيل أماسي القرى شفاهاً تنفخ الرماد من خبيئه الحار، ثم تقص ماتعتق بالذاكرة...
هاهو ذا مرة أخرى تراب العمر مرمي هنا، تعركه أظفار الفصول، تمزقه المعاول المتعاقبة ليتفكك ويتشرب تسكاب المطر، ليتجرع الشراب الموسمي الذي تعاود الأيام صبه..
والروح موزعة أكثر من تراب العمر! يجرفه السيل ويلفظه في البحر، أو يصير وحلاً تسحقه حوافر الخيول الصاهلة، ويصير غباراً تذروه الرياح، يتحجر وهو يشوي بهجير الشمس، يغيب مع القبور في جوف الأرض، ويصير ضميراً..
أجل، الروح موزعة كهذه النوارس القلقة فوق زبد الموج، كهذه الغربان التي تستغيث أجنحتها، ونعيقها يغمد في الصدر كخنجر... تشهق ظلال الغيوم، وحبال المطر مسرعة نحو الشرق كأن في إثرها صاعقة ولا تدري أين تحتمي... والبحر يرغي ويزبد...
لأنك مراراً اختنقت بالكوابيس في هذا البيت الحريد على التلة.. ولأنّك ارتعدت أمام اختلاط دمدمة الرعد بعواء الذئاب... أو خيل إليك ذلك ووحشة الليل سحيمة... ولأنك مازلت تسمع أنين "بلال" ينحدر إليك من الغابة التي خنقته الجن فيها منذ سنين.. لأنك فطمت على الخوف وقصصه ينبغي ألا تخاف... لكنّ خوفاً آخر يخترق الجدران وقفص الضلوع ويسري في الصدر كرعدة الحمى.. فكيف استباح الخوف ليلك الدفآن!
في المساء، ويدك في يدها، استنار وجهها بابتسامة كنهار نيساني... قالت: عجل، وجه مطر قادم، ولن يطول.. أدهشها جمودك كأرومة سنديان مقطوعة.. تابعت هي: والله لن يطول.. انظر إلى الأفق:
بعيداً، في الغرب، كان جفن الأفق يكتحل بغيوم انسفح فيها الرصاصي والبنفسجي.. وكانت مقلة الشمس من خلف ملاءة الغمام الرقيقة ترسل أشعة كليلة مجهدة، تصوّبها نحو الظلال الواهنة لأشجار البرتقال والزيتون، وتقرؤها سطراً سطرا... وتمسح عن أصداغها آخر قطرات المطر.. كانت آخر الأشعة.. وأمام عينيك مباشرة كانت أصابع «واعدة» ماتزال مبسوطة في اتجاه الأفق كأزهار المضعف البري.. وكان وجهها موزعاً بين الشمس والمطر، وأنت: خرجت من إطباقة الصمت والخوف وقلت: وماذا لو طال المطر؟ ما الذي سيحدث لو استطاب هذا المدى البليل قيلولته الوادعة في رحمة المطر؟! ألم نكن جزءاً من هذه اللوحة دائماً.... من هذه "الطبيعة الميتة" كما يقول الرسامون..!؟ لقد أدمنّا الانتظار هنا منذ سنين... ومنذ انتهينا من الجامعة... وألفنا تأمل هذا المنظر الأنيس، وتنعمنا بتجلياته وموحياته... وهانحن نتهيأ لدخول دورة الأرض والأفلاك... للخلود في سجل الديمومة...وسنكون الظاهرة الاستثنائية المغفلة...
***
متئداً.. يجلجل صوت الرعد، ويبرق خط متعرج يتلامع كغمزة خاطفة في ثنايا كحل المساء الممدود من فوق البحر إلى الجبال.. ويَقْوَى صوت المطر... تتدفأ الراحة بالراحة في ظل التسكاب.. وتستحم الأرض نشوى.. ومن الجسد الذي تعمد بالمطر يخرج الصوت:
لم يبق غير الأرض... فلنتبارك معها بهذا المطر النبيل.. فلنشاركها مواسم الإنبات والإثمار والحصاد والزلازل والمطر.... ولنقم معها حواراً، ومعاتبة، وعشقاً.... إنها تجيد تقبُّل الشكوى، وتصفح عن الملامة والتجريح... تفلسف الأسئلة والأجوبة وتتقن الاستماع والجدل.. في حضنها كنوز الحكمة والخصب وماء الحياة ومبعث النماء... فلنحسن استنباط روح الأرض الآمنة التي لا تموت أبداً وهانحن أمام قدرة الأرض تتشرب فيض المطر... تنعم بفضل مازاد فتُرِيقُه كالعطر ينساح على جسدها الحي... وستعيده إلينا غناءً حميماً يتزخرف أمام السمع والعين والذاكرة... فلنتقن -كالمطر الجميل- قراءة كتاب الأرض.. ولندخل محراب حكمتها.. ونبقى...
ومطر ساحلي ينهمر... على وقعه الشجي يتوالى زفير البحر وشهيقه، وعلى أوتار المطر السديل تعزف الريح أغنية لا ترحل.. والأرض تستمع.. فوق راحتها وجهان يتنضران بالمطر... دافئان... والمطر ينهمر...