وبعد فهذه شرفتك التي لم يبق لك غيرها في غربة الصوت والروح والتوقع... ومن حولك تستلقي الأشجار والدروب والأبنية غارقة في الانتظار.. يحمل إليك الوقت أمسية ترفل في ثياب الحداد، ومرة أخرى تجد نفسك مرمياً على ضفاف هذا الاغتراب الموسمي، كسجين يسند رأسه إلى جدران زنزانته ويُسرِّح عينيه وأحلامه في الأفق المضاء... مرة أخرى تستظل بهذه الحيرة التي ألفت صمتك الطويل، وحيدين في شرفة الليل والمنفى...
تقول هذا زمن منذور للتبعثر والغياب، يبدو الإنسان فيه كحبة رمل تمعن في الهجرات.. وتقول سحبتُ من الانتظار ظلي وأسلمت وجهي للرحيل.. إن فلوات الروح واسعة والمدى بلون الرماد... فامضِ بعيداً كالصدى، ظمآن في زمن السوائل... وقل لرياح الأقاليم إنك من ملة يوم صادروا الفرح، استطابت أحزانها، وعَوَّدت لسانها أن يشيح بعيداً عن قول ما بالنفس بغير الغناء الشجي.. الغناء الشجي الموصول...
قل هذا زمن يتبرأ ممن أنكر ذاكرته وزعم أن الحزن هجين... ممن أنكر مرآه قادماً من البحار والبوادي ومتوغلاً في نسيج الروح والذاكرة، مرسلاً صداه يتردد من شواطئ اليونان إلى تركيا فإيران فالباكستان والهند... حتى خباء الخيمة العربية.. من "إلياذة" هوميروس تغنيها "إرين باباس" إلى أشعار عبد يغوث الحارثي وابن الدمينة، والصمة القشيري، وابن الريب، والشريف الرضي.. حتى مظفر النواب.. من المرتحلين في بحار الغربة مغادرين شواطئ اليونان وتركيا نحو المجهول.. إلى المرتحلين براً بالظعائن مخلفين أطلالهم نهباً للبلى وبكاء الشعراء.. ضاربين في صحارى الكلأ والغزوات وحيرة الروح.. أمن هذا الترجيع والتداعي يهمي على شرفتك هذا الغناء الشجي المختنق بضباب أسيان لا تدري كيف ينشأ كل مساء؟
قلب زاهد في الرعشة والنبض في الزمن اليباب.. ملقى ككتاب تمّت قراءته.. حالة تنتقل من الزرقة الفسيحة إلى كدرة الانكفاء، متطهرة من فكرتي الخفاء والعلن، ومكتفية بالبحث في مرآة الليل عن منابع الغناء الشجي.. حالة أطفأت قناديل الطرق، وأجّلت يقظة الأصوات المستعارة، وأسكنت أنهارها بحيرة مغلقة.. تستعيد تاريخ القبائل مبرأ من الأحلاف والقتل والانتصارات...ومثخناً بالأغاني الحزينة.. تصير بك شرفة الليل زورقاً ينسل من مرساته ويخلف المرافئ الصاخبة ساحباً صمته بغير شراع.. تصير نورساً يهجر الشواطئ ويمضي طاوياً جناحيه وصوته ومبحراً فوق سواد الماء نحو مولد الموج.. يرتحل وحيداً كالصدى... هجرة طائر لا وطن له، يعصف بقلبه شوق الرحيل، ويثقل الحزن جناحيه وهو يمضي شهقة من العذاب، تتقاذفه الريح من تعب إلى تعب في خضم حيرته النازفة... يمضي لا يحصي النجوم، ولايعدّ الأيام ولا الأمواج ولا الجزر... تطول الرحلة كظل من الكآبة المؤبدة... وشيئاً فشيئاً تستحيل إلى دوائر متداخلة تلفه في متاهتها.. ويغفو النورس فوق بحيرة من دمه الحبيس...
تهبط عليك خيام الليل طباقاً.. تتراكم وتزحمك كتضاغط الأضرحة في مقبرة ضيقة.. وفي مشقة تتنهد... تصير المشاعر كالشجر المختنق يحلم بتألق ضوء لتسري في ظلاله رعشة الحياة، أو تخرجه الريح من غيبوبة الكمد... تهز هذا الشرود، تحاول أن تخرج من إساره وتسأل نفسك من أين لهؤلاء الشرقيين كل هذه الأحزان التي استوطنت حناجرهم المجرحة؟! وتستعيد أغانيهم الطالعة من صدر الخيبة، والفقد، والهجر، والاغتراب.. تتحرى في تاريخهم ونفوسهم ذلك الوجع الإنساني القديم، وتقول هذا إرث طالما رددته رياح الأماسي في البوادي وشعاب الأودية وحفظته الخيام والسهول والشطآن، وتناقلته الذواكر والدماء فأقام في النفس كجذور النعناع في الأرض ما سقيت لا تموت...
فلتغتسل بالحزن الجميل إذن تلك النفوس التي تتأثر وهي تستعيد أسئلة الآخرين وتتأمل في مرآتها عذابهم...وفي وجوههم المتعبة، وعيونهم الدامعة، وصمتهم وحيرتهم وأوجاعهم التي لو أباحوا بها لتطهروا، واستحالت في أماسيهم الموشحة غناءً شجياً تأتنس به شرفة الليل، وتتخفف به الأيام من مرارتها.. ويقترب الإنسان من الإنسان بعفوية حميمة كما تتعانق خضرة الأشجار على غناء الماء عبر الزمن...