صفحةٌ من كتاب العمر توشك أن تُنْهَى لتُطْوَى... سفينةٌ تهمّ بالرحيل نحو ميناء آخر.. مسافرٌ يتفقّد حقائبه على الحدود.. بابٌ على عتبته كلام وبعد قليل يُغلق... وأنت بين شفتي العامين، بسمة، أو قبلة، أو شهقة، أو أغنية.. وربّما صرخة وجع.. ولكنك تنتظر أن تنفرج شفتا العامين عن كلمة...
أنت عين إلى الخلف تستعيد مايستعاد، أو عين إلى الأمام تستنطق الآتي وتستدفئ بناره المشتعلة في البال... والمطر في الخارج كالرحمة يهمي يغمغم في صدر الأرض كأغنية قديمة، ويصعد صلاة مبتعدة عن كوكب السمع والنظر... وقت كالتوديع، بل وقت كالانتظار..وقت تتقاصر فيه الظلال كالظهيرة، يتزاحم فيه العرض والجوهر، وتتهافت فيه الناس على الأضواء كالفراشات الحمقاء، وتستحيل فيه الجدران والنوافذ والكؤوس والكلمات إلى "مرايا" للذات.. تصير الذات حالة: من رأى النشور أو شهد جهنم؟!.. وثمة مطر يهمي خلف البيوت، وثمة من خلف البيوت يسهر.. متطهراً من زحمة الأسماء، يستطيب خفقة قلبه في الظل، وانسحاب الأسماء من الذاكرة... ويسهر... لهؤلاء يقول القلب سلاماً..
سلامٌ كالثلج نقيٌّ وصافٍ، سلامٌ كدمعة الفرح تسخى بها عينٌ مُحِبّة.. سلامٌ لليد التي لا تفارق الزناد كي ينعم وجه الوطن بنومةٍ هانئةٍ آمنة... سلامٌ للقامات المنتصبة كالصنوبر تحرس المستودعات والمداخل ونوم الأطفال، وتسهر.. سلامٌ للأيدي التي ترتّب أسرّة المرضى، وتمسح عن جباههم عرق التوجّع، وكالوجوه والعيون تبتسم... لأولئك الذين يجمعون من الشوارع أوراق الشجر ومارماه المترفون من نوافذ البيوت والسيارات.. لهم وهم يغسلون أرصفة الشوارع في الليل ويمشطون شعرها، كي لا تُصاب أعين المدن في الأصباح بالرمد.. سلامٌ لأولئك المتراقصين أمام لهيب الأفران سحابة الليل ليُعِدّوا للأطفال خبز الصباح الحارّ كمشاعر الفقراء والأمهات.. سلامٌ لأولئك الذين يفيقون مع عودة الساهرين من فنادق المدن الكبيرة... سلامٌ لهم منصرفين إلى تفقّد مواشيهم ومزروعاتهم، خارجين من الظلمة إلى النور كالمؤمنين.. سلامٌ للشفاه التي تطرّز زوايا محالج القطن ومعاصر الزيتون بالأغنيات.. للخطوات التي ترافق المياه إلى الأغراس العطشى.. سلام للأيدي التي ترسم وتخط وتصون الآلة، وتقيم الجسور وتبني السدود وتنظم السير وتجري العمليات الجراحية وتسأل في لهفة عن الأسرار والمعرفة.. للتي تشد الأسلاك وتمد الأنابيب وتسقي الورد والعُجَّز، وتنسج السجاد وتصنع الكراسي والأبواب والأحذية والأدوية..
سلام لمن تستدفئ صدورهم بالأمانة، لحملة المشاعر النبيلة المترفعة عن الصغار والمغافلة والانتهاز.... لمن يعبرون بالجرح فوق الجرح ماضين نحو النهار وثيابهم تستضيء بفيض من الوضوح والعلن.. لمن تغمرهم طمأنينة المُلْك والرضا بأن كل الأبناء أبناؤهم، وكل الممتلكات ممتلكاتهم، وفي كل دروب الوطن ومياهه وجباله وشمسه لهم حق لا ينتزع.. بل لهم اليد العليا، اليد المعطية المنتجة البانية، ويستظلون بظل خيمة الوطن.. لهؤلاء الذين في صدورهم متسع للبسمة والتنهد والصفح... للذين نزعوا من قلوبهم أشواك الصبار، ومن تحت وسائدهم خنافس الضغينة والقلق.. لهؤلاء الطيبين المتعبين أضاميم الورد المتفتح مع بسمة العام الجديد..
أما تحية الإجلال والإكبار والعرفان، فلأولئك الذين لم تغادر ذواكرهم لحظة واحدة صور الشهداء الذين قضوا في سبيل هذا الوطن.. لا تنقصهم الحياة، ولا تكفيهم الأغاني