|
همــسة اللجّـــة
الناقل :
mahmoud
| العمر :35
| الكاتب الأصلى :
ابراهيم كبة
| المصدر :
www.awu-dam.org
...بينما اعتبر ناجى أنّ توفيق الحكيم يعيش بعقله الباطن ومن خصائص العقل الباطن الرمز والايحاء والاخفاء والتعمية.)
سامي الكيالي
أبتاه.أين أنت؟ولم لا أسمع سوى أزيز الصمت وعواء الرّيح؟
اضطرّ الى تهيئة المنزل للاقامة.مثلما اضطّر للاستغناء عن دراسته الأكاديميّة.وما جدوى دراسة الموسيقى اذا كان أبوه قد لاقى حتفه نتيجة الخيانة والعبث.
استحم واحتسى الشاى بأناة.بدّد الصمت قرع قطرات المطر على نافذة الحجرة.واصطلاء اللهب في جوف المدفأة.حبا الليل وئيدا.عكس عارضه الأيمن تماوج سنا اللهب.
علق بصره على لوحة قرآنيّة وقل ربّي زدني علما) تهدّل منها نسيج عنكبوت،غلّ ذبابة سوداء ضخمة ذات طيف أزرق.عجزت عن الحراك والطيران.أبتاه.انّي عاق حقّا،ولكن أنّى لي أن أعلم.لن ألوى أن أقتصّ لك.عندها أقيم العزاء اللائق،لكي تطمئن نفسك الحائرة.
سوّى شعره وارتدى ملابسه ثمّ تأهّب للخروج.جرحه ينزف ويأبى أن يلتئم.و سرحان الحاوى) يغطّ في اغفاءة هانئة عميقة.
جثم الليل على المدينة.الظلام عين دعجاء هائلة ترصد حركاته وسكناته.وتثير الرّهبة في أعماقه.جال في الظلام حول فيللا سرحان) .الحي هادئ وخال من المارّة.لازالت الأضواء تتلألأ في غرفات الدّور الثاني.
لقد تزمّل الآن في عباءة حجازيّة ثمينة.يحتسي مزاج شمبانيا مع براندى ردئ.عينان جاحظتان وفودان أبيضان.يصغي الى سفاسف جبران الأشرم) وترّهاته وقد شاعت آيات الرّضا والاغتباط على محيّاه.الحلم منار حياتي الآن.أين أمضي بقية المساء.تناول طبق حلوى لدى اللبّان) ،واحتسى فنجان بنّ في الواحة) .البرد والفزع ألدّ أعدائه. شرع تلفزيون المقهى يبثّ احتفالات الميلاد.احتفالات تتمّ في أثباج السياسة.حصن الاشتراكّية هوى.والعالم في دوّامة مروّعة.شتات دويلات.ويلات ومحن.لامراء أن السياسة لا تعنيه.لكنّ الأنباء تترامى. نكات وهمس واعلانات في الجرائد وأنباء في الاذاعة والتلفزيون وأقاويل على ألسن النّاس .انّ الأنغام والأغاني لاتهزني قدرما يهزّني جريان مياه نهر،وتغريد طير،وعزيف ريح.الحياة باتت حمّى ولظى وأتّون.احلم وأنت وسنان يا سرحان) ، وهيهات أن يترامى الى أسماعك صراخ روح حائر يتلاشى مع ريح عاتية. لفح الرّيح كلسعة سوط.والألم عين الأمل.عاج على حيّ الثّكنة) جال مرّة أخرى حول فيللا سرحان الحاوى) ثمّ جثم في الظلام وعيناه ترمقان المبنى بلا كلال.غنّى مطرب قزم في حندس كثيف.بثّ منظره الرّعب في فؤاده.تدفّق الزمان مثل مياه نهر.أشعل لفافة ولزم الصمت والسكينة.
أبتاه.أين أنت؟ولم لا أسمع سوى أزيز الصمت وعواء الرّيح؟
تمايلت أغصان الأشجار واصطفقت.سرى البرد في عظامه.مريم تغطّ الآن في النوم.ليتني أستطيع أن أقتحم الأبواب اليها.عندما افترّت شفتا مريم عن ابتسامة رضا جرى الدّم في عروقه.وانجابت غاشية عمياء عن عينيه.ثم وافته الى المنزل القديم حيث تنسّم أريج الجنّة وعبق الأزهار.اعتلى شعاع نجم وغرّد قلبه اغتباطا ونشوة.انّ مريم خمر وزهر.استهواه قوامها الأهيف وهالة وضاءة على المحيّا.ثمّ تردّدت مريم الى المنزل حتى غدت احدى معالمه تحت وابل مطر عارم جمد بصره على شرفة فيللا سرحان الحاوى) وتراءى الغبش كأشكال خرافيّة وأطياف هائمة حائرة.
أنت تنام بلا توجّس ولا مبالاة.تئنّ بهجة وتتلوى حين تتلقى فكاهات جبران الأشرم) وأماليحه.وتنسى أنّ الموت يتوارى خلف لحظات الزمان وبرهاته.
اخضلّت عيناه وذرف دمعا غزيرا من البرد والألم.لم تبد على سيمائه اختلاجة ما.لقد عاقبه أبوه عقابا عنيفا على هفواته حتى برح به الألم لكنّه لم يستأ ألبتة من فظاظة أبيه وعنته ولم يبغضه.
زلزل كيانه فجأة حين بدا سرحان الحاوى) على شرفة فيللته.
سدّد مسدسه وضغظ على الزناد.تلوّى سرحان) حين ألهب الرصاص جسده وهوى من علياء الشرفة الى أرض الحديقة.قصف أغصان شجرة الليمون.عندئذ اندلعت نيران وحمم اندلاعا هائلا نحو عنان السماء.وسال الزمان سيلانا سريعا.صحا الأب من ضجعة الموت.احمرّ الكون وادلهمّ.نزف جرح سرحان) نزيفا متصلا حتى استحال الكون برمّته الى بركة دماء تضطرم.وصحا النّاس من اغماءة عارضة.هاجت مثانته فجأة.الموت ينبجس أيضا من الباطن مما دون الأسلاك الشائكة.وحين حنا الأب على سرحان) اذا به نيران تتأجّج.وشعلة لهب عارم.تنهّد ثمّ فاء الى منزله.أوغل الليل وهجع الأحياء.وقد أهرقت الليلة عبرات الغضب والحزن.ألفى المنزل غارقا في الظلام.دلف الى جوفه وقد هاج في نفسه شجن غامض المأتى.
أعدّ لنفسه العشاء وفنجان بنّ ثمّ أصغى الى أغنية ألمانية تنبعث من مذياع هولندىّ قديم.أعجبته لثغة الغين وبحّة الجرس.
أبتاه.أين أنت؟ولم لا أسمع سوى أزيز الصمت وعواء الرّيح؟
أنا الآن حطام انسان وسكرة منيّة.لاتجزع.صحا في العاشرة صباحا.السماء غائمة وداكنة.وبرد تشرين كالأغلال.عانى من خمار في دماغه وحثاثة وسن في عينيه.ويل لك يا سرحان) وويل للكون برمّته ان اقتضى الحال.أعدّ طعام الافطار.شرائح زبدة ومربى وكأس لبن.اصطفق سعف شجرة النخيل مع هبّ الرّيح.وتناهى أنين الرّيح كأغنية جنائزّية حزينة.بينما صدح عصفور دورى.لاتتبرّم.ولا تقنط.
الحياة جناح حلّق به الانسان بلا وعي.ونشيد النصر هو نشيد الموت والفناء أيضا.
تناول طبق فول.زحف بياض الشّيب على شعره.ما الزمان؟انّه عاديات الطبيعة.ورقّاص ساعة الحائط في مطعم قوس قزح) هو منجل ملاك الموت.رتّل شحاذ أعمى بصوت منغوم:
طول ليلي فيك أسهر
زاد شوقي ونحيبي.
سأل صاحب المطعم:
-أين ينام؟
-في المطعم
-وأين يأكل؟
-في المطعم أيضا
ثمّ أردف:
-انّه صوفيّ عارف أيضا، ويدّعي أنّه يرقب معجزة
تفرّس فيه مليّا.شعره أشعث أغبر.وأسماله رثّة.وقد هام الذباب على وجهه.وبدا أنّه لا يكترث لشيء.
-هل هو أعمى حقّا؟
-منذ ثلاثين عاما
خامره ظنّ طارىء انّه من رجال الشرطة.لعل صاحب مطعم قوس قزح) ارتاب فيه وأفشى أمره للشرطة.الضحى في حيّ الثّكنة) جميل.حيّ راق بلا أكدار.لاحت مريم على النّافذة شبّ شباب اللهفة في أعصابه.تأهّب للقاء.غمز صاحب المطعم باسما.بادله الابتسام ومضى،فيما علا صوت الأعمى مترنّما:
طول ليلي فيك أسهر
زاد شوقي ونحيبي
تبدو الحياة شركا.ورصاصة قد تحقّق الطمأنينة أو تودى به الى هاوية الهلاك.عانقته مريم.طوّق جيدها ولثم ثغرها وخدّها.
-أنت هديّة السماء.ولولاك متّ من الوحدة
-ماهذا؟مسدس؟
-أبادرها بما ملكت يدى
-لاأصدق عينيّ
-وأنا أيضا ولا أذنيّ
حين استيقظ في الثامنة مساء ألفاها تعدّ البنّ.غسل وجهه ويديه
بثّ مذياعه ألحانا شائقة.تاه في أعطاف الأمس وذكرى الطفولة.ومبدأ هاجس العناء حين تساءل عن الموت ومغزاه.ومعنى الحبّ ومغزاه.ومعنى الجنون ومغزاه.
الموت والحياة.العقل والجنون.الحبّ والبغضاء.واحساس العجز الذى نجم من الباطن،فأعياه وحال بينه وبين معرفة نفسه.
-أنت حقّا بلا أهل ولا معارف
-مات الأهل جميعا،أمّا المعارف فأنا لاأحب الاجتماع
-لاتحبّ النّاس؟
-لاأقصد ذلك
بحث عن صوت هاني شاكر) عبثا.قالت له:
-أخي يرتاب
-مريم.أنا بلا حاضر ولا مستقبل
-لايعوزك شيء
-المال ينفد،وأنا بلا عمل
-لدينا الارادة
ثمّ أضافت:
-أخي يرتاب،وأنا حائرة
-الحيرة داء الضعفاء والمساكين
-لكنّك لغز.وأنت عصي
-أنا عاجز
-أنت تحبّ الكسل
-أنا لاأحبّ العسف والاصطخاب
-ربّما غدوت أمّا
-اللعنة.
. . .
استقلّ سرحان الحاوى) سيّارته.الساعة العاشرة صباحا.احتسى الشاى بلا مبالاة ظاهرة.انّه رئيس الجمعيّة الخيريّة للعميان غنّى الأعمى:
طول ليلي فيك أسهر
أين جبران الأشرم.لا ريب انّه عريف الاحتفال.
قال للأعمى:
-صوت بديع
بدا أنّه بلا آذان أيضا.
-انّه مطرب أعراس وختان
سار الهويناء في ممشى الحديقة.انقضّ عليه انقضاضا صاعقا.تبادلا اللكمات والشتائم حتى تهاوى أخيرا من الاعياء رغم عنصر المفاجأة.
-أيّها الحيوان..لامنجاة لك
توارى عن الأنظار.شهد فيلما سينمائيّا عن الصراع على الذهب في الغرب.تناول العشاء في مطعم الجندول) ثمّ آب الى منزله.
ألفاها نائمة في الحجرة.
-ألا تخشين أن يتعقبّك؟
-انّه مريض وطريح الفراش
-هل اصاباته بليغة؟
-أنت قوىّ حقّا.
لن يتأتّي لي رصد حركات سرحان) في أويقات النّهار بعد الآن
-انقضّ عليّ بلا انذار.
-انّه غائب عن الوعي
فأرغدا جرذا.أيّها المأفون.أنا هنا في قلب الظلام،اترقّب فرصة سانحة.ومض البرق وقصف الرّعد.انهلّ مطر غزير.طفت فقاعات هواء على وجه برك الماء.دبّت الحياة في بوابة الفيللا تأهّب وأصاخ.يده على الزّناد.خرج سرحان الحاوى) وهو يقهقه ضاحكا.تلاه جبران الأشرم) وقد طوى أعلى جذعه ملقا. صرخ بلا وعي:
-سرحان.انّه أنا
-من؟
انهمرت رصاصاته تترى.ندّ صراخ جهورىّ عن جبران) وتهاوى احتمى سرحان) به.أضاء النّور في نوافذ الأبنية.أسلم ساقيه للريح.بينما علا صوت الأعمى:
طول ليلي فيك أسهر
زاد شوقي ونحيبي
|