مكتب ضيق تتضاغط فيه ثلاث طاولات، تتوزع حولها مجموعة من الزملاء، وتدور أحاديث متنوعة، محاذرة.. وفي بعض الأحيان حزينة مثقلة بشيء لا يسمَّى.. وعندما تكون الجلسة حميمة تتحول الأحاديث إلى بوح نتوهم فيه بعض السلوان. وفي بدايات الأعوام الدراسية خاصة تصير الأحاديث أكثر حرارة، وقرباً من خفقان القلب، لأن اللقاء يكون بعد فراق قصير، أو انقطاع مؤقت عن تبادل الأفكار والهموم...
منذ أيام كانت جلسة من هذا النوع، ولأن العمل سيبدأ قريباً تذاكرنا مسألة توزيع المواد أو المهام، وتذكرنا بشيء من المودة والأسى أسماء بعض الزملاء الأعزاء..
بعض الزملاء الذين خرجوا من الجامعة في صمت، ومضوا خارج أسوارها في هدوء، من غير أن يتلفتوا كثيراً، من غير أن يودعهم أحد، وفي صدورهم مشاعر حائرة بين الارتياح والاغتراب. الأصوات التي ترد صداها في القاعات والمدرجات تستأذن، وتأوي إلى الكتب. كتبهم الباقية في المكتبات والبيوت. بعد أكثر من ثلاثين سنة لا يبقى سوى غبار الطباشير العالقة بالثياب الوطنية، وبالذاكرة.. الدكتور محمود الربداوي، الدكتور عبد الكريم الأشتر، الدكتور مازن المبارك، الدكتور محمد رضوان الداية... حاولنا أن نتمسك بهم ونستزيد من خبرتهم ومعرفتهم أيضاً... ولكن... نحن لا نملك من أجلهم سوى المشاعر الطيبة... لقد خرجنا من زمن الإجابات والأسئلة.. ونوشك أن نلج واحة النعاس..
وتشعب الحديث عن مثل: كيف يدخل الأساتذة إلى الجامعات أو كيف يعينون، وكيف يعاملون، وكيف تنتهي حياتهم العملية أو صلتهم بالجامعة؟! وهل حقاً يبحثون عن الإعارة إلى الجامعات الأخرى أو أن الجامعات الأخرى تبحث عنهم؟ وهل القبول بالعمل في الجامعات الأخرى، خارج القطر أو داخله يكون استجابة لرغبة قومية في العطاء، أو بحثاً عن انتشار السمعة، أو نزولاً عند رغبة الأطباء في اختيار المكان المناسب لهم صحياً؟! لأن بعض الأجسام لا يناسبها المناخ الجاف، أو المناخ الرطب، أو الأماكن المرتفعة.. أو لعلهم يختارون ذلك لأن ساعات العمل في بعض الجامعات أقل منها في جامعات أخرى أو ربما لأن عدد الطلاب يكون أقل؟
ولكن البعض تساءل مستنكراً: من يخرج من بلده ويغترب عن أهله، ويشتت أسرته ويترك أولاده من غير رعاية أو إشراف مباشر تمشياً مع الأغراض أو الأسباب التي ذكرت! تحدَّثَ البعض الآخر عن إرهاقه بالرسائل الجامعية مناقشة وإشرافاً وتراكماً في البيت ضايق الزوجة وأربك حركتها، وأوشك أن يقول إننا نبالغ في هذا الميدان كما نبالغ في إجراء الامتحانات حتى كدنا نصبح جامعة امتحانات لا غير.
لكننا أوقفناه، وقلنا له أن مثل هذا الحديث غير مسموح به! وأجرى بعضهم مقارنات لها صلة مباشرة بشراء الكتب، وبشراء الورق، وبالرحلة إلى الخارج للاستشفاء، ولها صلة بالبحر وبالجبل وبالشعر والسياحة والاصطياف... وكانت مقارنات شبيهة بحالة استماع إلى وزير لا يعرف إلا القليل من أسرار وزارته، وليس لديه الملكة اللغوية على التعبير، فلا يصلك منه سوى الغصة تلو الغصة وبلع الريق..
كانت دائرة الحديث تضيق، وتتسع كأخلاق الناس، أو كمجاري الأنهار، ومثلها كانت تبطئ أو تنحدر مسرعة، لكنها كانت تفضي بنا إلى بحيرة واحدة... بحيرة إن ألقيت فيها حجراً صنعت مويجات واهنة.. تتسع، ولكنها لا تصل إلى الضفاف..