يسود العالم الآن نوع من الأخلاق النفعية وهي نظام من السلوك يتبعه الفرد ليس إيماناً بحسنه أو قبحه، وإنما لمعرفته بأنه يحقق المصلحة،
وهذا النوع من الأخلاق منتشر في الغرب بوجه خاص، فتجد مثلاً التاجر صادقاً وأمينا ولطيفاً، وتجد الصانع دقيقاً ومخلصاً، ولكن مشكلة هذا النوع من الأخلاق هي عدم ثباتها، فإن صاحبها يكون مستعداً للانقضاض عليها واستبدالها بنقيضها أحياناً إذا وجد مصلحة في ذلك، وربما نعرف جميعاً كيف أن الإنسان الغربي الذي يتميز بالعدل والأمانة والصدق في بلده كان يتحول إلى الظلم والكذب والخداع في تعامله مع الآخرين خارج حدوده خاصة أيام الاحتلال.
وعلى العكس فإن الأخلاق المطلقة مصدرها الأساسي هو الدين، وهي تتميز بالثبات والأصالة فهي موجودة في كل الأحوال والظروف، ولقد جسدها المسلمون الأوائل فكانت أخلاقهم إسلامية مطلقة داخل حدود وطنهم وخارجه، وكانت هذه الأخلاق هي مفتاح قلوب البشر في كل مكان خاصة وأن البلاد التي فتحها المسلمون كانت تعانى من الظلم والخداع وسوء الأخلاق من حكامها فإذا دخل عليهم المسلمون فاتحين وجدوا فيهم العدل والإنصاف وحسن الخلق.
وللأسف فإن نسبة غير قليلة من المسلمين المعاصرين قد أهملوا البعد الأخلاقي، فهم لم يلتزموا بالأخلاق الإسلامية المطلقة وفشلوا حتى في الالتزام بالأخلاق النفعية، وقد نشأ عن هذا نوع من عدم التناسق في الشخصية والذي يصل في بعض الأحيان إلى التناقض الشديد بين الاهتمام بالعقيدة والعبادات وبين المعاملات والأخلاق وكأنها أقسام مختلفة لارتباط بينها في وعي هؤلاء الناس فتجد الواحد منهم يصلى ويصوم ولكنه في نفس الوقت يكذب ويغش ويظلم وكأن هذا شيء وذاك شيء آخر.
لذلك فالمسلم المعاصر يحتاج أن يعيد لوعيه قول الله تعالى ممتدحاً أخلاق رسوله:
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم 4) وأن يعيد لوعيه قوله تعالى ممتدحا أخلاق المؤمنين : وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ (آل عمران 134) . وقوله تعالى آمراً إياهم : وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (النساء 58) .
وأن يعيد إلى وعيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وأن الله يبغض الفاحشين البذيء (رواه الترمذي).
وحين نقول بأن الخلق الحسن هو مفتاح القلوب ورسول السلام إلى البشر جميعاً فإننا نقر سنة كونية صرح بها الله تعالى في كتابه الكريم مادحاً وموجهاً لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكل من يحمل رسالة الخير للناس من بعده : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ (آل عمران 159) .
فقد ثبت في كل مراحل التاريخ وفى كل المجتمعات البشرية أن الناس تنفض عن كل قاسٍ خشن غليظ القلب، وتنفض عن كل حاقد مستبد، وتلتف بعقولها وقلوبها حول كل رحيم لين طيب رقيق عفو يحترم عقولهم وآراءهم.
وللأخلاق جمال أخاذ ربما يفوق جمال الطبيعة وجمال الوجوه فللكلمة الطيبة سحر لا ينس وللموقف النبيل أثر رائع يزداد توهجاً مع الأيام, فتظل تلك الكلمة أو ذلك الموقف يجلجلان في صفحات التاريخ على مدى آلاف السنين تتناقلهما الأجيال بكل الإعجاب والانبهار