إذا لم يخدعني حدسي فسيكون لهذا الطفل شأن هامّ...
في مدينة اللاذقية كان سكن العائلة حول الساحة الرئيسية الوحيدة في ذلك الوقت ساحة (الشيخ ضاهر)، وفي بيت يقع في المدخل الشرقي لزاروب ضيق "زقاق الخرنوبة"، يكاد الناس في المنازل المتقابلة يتصافحون دون أن يجتازوا عتبات بيوتهم، وتكاد الأحاديث داخل البيت الواحد تسمع لدى الجميع، ويكاد الباعة على عرباتهم لا ينقطعون.. وثمّة شيء مشترك بين الجميع بامتياز وهو استضافة قطعان الفئران والجرذان التي تخرج إليك من الحيطان ومصارف المياه، والنوافذ، وتتسلّق أسلاك الكهرباء، حتى تشعل أعصابك قرفاً واشمئزازاً... مابين الزقاق والساحة مئتا متر كأنها تختصر الدنيا.. في نهايتها محطات سيارات السفر إلى المدن والمحافظات، في الوسط مقاه ومطاعم وفنادق، في جهته الجنوبية شارع الأقمشة والملابس الجاهزة، والصيدليات، والأحذية، وليس بعيداً عنها (سوق الصفن) الشهير...بقناطره وأقبيته ومصرف الماء في وسطه.
وفي الشارع مكتبة ومطبعة ودار للسينما كان اسمها (سينما فاروق) ثم غاب فاروق وظلت (سينما اللاذقية).. ومن زوايا المثلث الضوئي: محطة السفر/ المكتبة/ السينما/ ينطلق الولد الناشئ إلى آفاق الحياة، وتخومها وأمواجها..
يا ابني اذهب إلى السوق واشتر لنا خبزاً ولحماً وخضاراً.. كانت الأم تعرف أن ابنها مسلح بفطرة يقظة، في اختيار الأفضل وفق أنسب الأسعار.. لكنها لم تعلم إلا في وقت متأخر أن هذا الابن (الشاطر) شاطر أيضاً في إنقاص ثمن بعض المشتريات ليوفّر ثمن المجلة والجريدة وبطاقة السينما.. وحين لا ينجح في التوفير كان يكتفي بالوقوف أمام بائع الجرائد والمجلات وينتظر دون ملل حتى ينشغل البائع في الداخل بأمور هامة.. فينزع لاقط المجلّة، وبنهم شديد يلتهم حروفها وصفحاتها، فإذا سمع نحنحة أو حركة تصدر عن البائع.. تظاهر كأنه عابر طريق.. في أحد الصباحات غرق شغفاً فيما يقرأ فنسي حذره وترقبه.. فإذا يد تربت على كتفه وبصوت البائع يقول: معك فلوس اشترِ، مامعك الله معك..
لكن ليونة البائع أعجبته وكان يخشى أن يطلق عليه زعيقاً مرعباً، وربما جرى في إثره حتى لا يعود ثانية.
في الغرفة الكبيرة كان ينام أفراد العائلة جميعاً الأب والأم وأربعة أولاد.. وعلى الطاولة الخشبية جهاز راديو ماركة (فيليبس) التي تفكّكَتْ على أيدي المقلّدين والمزوّرين في الدول الناشئة إلى (فيل/ وبس). هذا الجهاز الإذاعي كان نافذة الولد الظامئ على العالم ومرآة صوره التي يراها بأذنيه.. يتظاهر بالنوم حتى يغرق الجميع فيه، فينهض خلسة على رؤوس أصابعه كراقص البالية.. يستلقي بجذعه على الطاولة.. يفتح الراديو على محطة (صوت أمريكا)، التي كانت تبثّ أسبوعياً ملخصاً لبعض القصص والروايات العالمية مشفوعة بتأثيرات موسيقية معبرة.. وهو لا يزال يذكر انفعاله الشديد بإحداها: (انهيار منزل آرثر) جاهداً ألا يتجاوزه صوت الراديو إلى والده ووالدته فينهرانه للنوم أسوة بأخوته..
في مدرسة (الأرض المقدسة) التي تلقّى فيها علومه حتى الشهادة الثانوية.. قاعة للسينما تعرض إدارة المدرسة فيها الأفلام الاجتماعية والقومية الرصينة، ما كان بدأه مع الراديو يستمرّ به هنا بإطار مرئي أعمق دلالة.. وفي هذه المدرسة اكتشف الموجهون طاقته الفنية الكامنة عبر التمثيل والغناء، ولم يطل الزمن حتى أطلت عليهم موهبته الشعرية.. لكن اجتهاد الطالب لم يكن على وتيرة واحدة، فإما أن يسبق الكل أو أن يتخلف عنهم جميعاً.. إدارة المدرسة امتعضت لهذا التفاوت الشديد، فبلّغت الأهل وجاءت الأم إلى المدرسة، لأن الوالد في عمله وحين يتغيّب الوالد بدافع العمل أو الإهمال يكبر دور الأم ويتضخم، ويتخذ طابع القسوة والطغيان أحياناً، تلقّى الطالب دفعة من العقاب على الحساب، وتصفية الحساب في البيت..
بدأ مع الأفلام العربية، والأصح المصرية: دعاء الكروان/ موعد غرام/ بفكر باللي ناسيني/ صراع في الوادي.. وتطول السلسلة...
بكى مع عبد الحليم حافظ حين ودع حبيبته مريم فخر الدين قاصداً أوروبا للعلاج من المرض الخطير الذي أصابه.. المطرب الحزين يسير على الشاطئ في مساء يوم خريفي قانط.. وعيناه تتشحان بالكآبة، وصوته لوحة زيتية نازفة وهو يردد (في يوم.. في شهر.. في سنة.. تهدا الجراح وتنام.. دا عمر جرحي أنا أطول من الأيام..)
مع الأفلام الهندية كانت الدموع أغزر، والمصاعب أفدح .. فالمصريون يفبركون النهايات السعيدة، ولا بدّ من قبلة ختامية طويلة بين البطلين قبل استعراض الأسماء، أما المخرجون الهنود فكانوا يتركون للمأساة حرية أن تفعل أي شيء.. (من أجل أبنائي) عرض سينمائي هندي شاهده ثلاث مرات.. وقد بكى في الثالثة أكثر من الأولى ربما داخله وهم أن الإعادة تمحو المشاعر تدريجياً، أو أن يداً قدرية تمتد إلى بعض المشاهد فتبدلها أو تطورها.. وإذا عاد إلى البيت كانت عيناه تفضحانه إذا أخفى الحقيقة عن أمه..
-كنت في السينما.. أليس كذلك.؟
-كيف عرفت؟
-من عينيك الحمراوين.
ترك أقرباء العائلة منزلهم في حي آخر من أحياء المدينة البحرية، وقد قبل المؤجّر نقل استئجاره إلى والد الشاب الصغير.. كان الوداع مؤثراً وتحسّر أهل (زقاق الخرنوبة) على رحيل عائلة محببة.. ولكن ما العمل؟.. هذه حال الدنيا.. وكبر الشاب ولم ينس منزله الأول في المدينة وكان كلما عبر الزاروب.. وقف طويلاً أمام الباب الخشبي.. ولم يتجرأ أن يفتحه ليقبّل بعينيه المشتاقتين كل ركن في البيت، وما من مرة على كثرة تعمّده المرور فيه وجد هذا الباب مفتوحاً..
في هذه المرحلة حدث تحوّل فيما أصبح يشاهده من أفلام يتناسب مع تفتح عواطفه والحرارة الفائرة في جسده كلما جاور فتاة أو نظر إليها.. لقد أضحى فمه يرعاه، ويداه كطائرين لا يهنأان إلا إذا تمرّغا على أملودين بشغف الحرير، ونداء الجمر.
السينما في تلك الأيام كانت ملكة بلا منازع، لم تكن الشاشة الصغيرة قد شكّلت جبهة معارضة استفحل أمرها، وتكاثر أنصارها، وزرعت لها في كل بيت عيناً تستقطب حولها أفراد العائلة، وهم مستلقون، هاجعون، لا حاجة بهم إلى الثياب الرسمية، وبرد الانتقال أو حرّه.. ومعاناة الزحام إذا كان الفلم مشهوراً، أو الحجز المسبق قبل ساعتين أو أكثر.. لذلك كانت تلتقي في دار السينما مختلف الشرائح الاجتماعية، من الأجير المعتّر حتى المتموّل الذي يرى القمر بين عينيه وأنفه، وكم ستكون محظوظاً إذا قادك عامل تنظيم الجلوس إلى مقعد مجاور لفتاة.. راجياً أن تتوجّه إليك بأي سؤال حتى لو قالت:
كم الساعة..
يبدأ الفلم.. فتنحاز بشكل سافر إلى "كيرك دوغلاس" في القطار الأخير، حين يرهن حياته للانتقام من مغتصبي زوجته وقاتليها.. بلى.. تتّحد به حين يطلق النار من مسدسه السريع على الممثل "أنتوني كوين" والد القاتل فيرديه صريعاً- وكم تتمنّى أن تكون الحياة كالسينما تموت وأنت حي، لذلك ينهض أنتوني كوين من موته السينمائي ليرقص رقصته الشهيرة في فيلم (زوربا).
"بريجيت باردو" في فلم "وخلق الله المرأة" تعرّيك من عقلك حين تتعرّى، وتأسف لأنك لست فرنسياً.. فربما أتيح لك أن تحترف التمثيل وتلعب أمامها دوراً يغنيك عن شخصك الحقيقي...
"كلارك جيبل" في "ذهب مع الريح" يقف في قلب الحرب الأهلية الأمريكية وسيماً، فظّاً، يعتقد أن كل النساء يحببنه - ولا خيار لهنَّ في الاقتران به إن أراد.. يعود الطالب إلى دروسه. لكنْ كيف يمكن لدروسه أن تنتظم إذا كان نصف ما يتعلمه خارج الكتب المدرسية.. وأية وظيفة يلتزم بها. إذا كان بطل الفيلم الذي شاهده بالأمس قد سيطر عليه بحفظ المواقف والأحداث، واسترجاعها عشرات المرات؟.. الأفلام الفرنسية لم تكن تستهويه عميقاً ويصرّ على حضورها كلها.. ما طال به الأمر حتى قلّد "برت لانكستر" في لكماته الطاحنة..
السريعة.. وقد نال رفاقه ما نالهم بسبب هذا التقليد.. يتعجّب كيف اقترنت "صوفيا لورين" بمخرج أفلامها "فيتوريو دي سيكا" وهي ما هي عليه من الجمال، وهو الأصلع البدين، خشي في أحد الأفلام التاريخية على البطل من سهم أطلق عليه فصرخ تنبيهاً له من الإصابة...
دور القديس بطرس في فلم "الصياد الكبير" الذي لعبه "هوارد كيل" يسعده ويشقيه.. فالصياد النزق لا يستسلم بسهولة حتى لو كان المستقبل سيجعل منه الصخرة التي ستبنى عليها الكنيسة، وهو يهاجم بسيفه الجنود الذين اعتقلوا سيده وساقوه إلى محكمة الموت. لكنه سينكر معلمه ثلاث مرات قبل صياح الديك..
في بعض ما شاهده لم يبق عالقاً في الخيال إلا مشاهد ولقطات متناثرة.. أما الموضوع والهيكل.. وملامح الشخصيات فقد تلاشت.
(الشيخ والبحر) (وداعاً أيها السلاح) (لمن تقرع الأجراس) جمع فيها بين الشاشة والرواية، وكان كلما اشتاق إلى الفلم قرأ الرواية.. وعاش مع هذه الشخصيات الإنسانية بنموذج الصياد الكوبي الذي لا يستسلم لكلاب البحر، ولا لكلاب القهر/ والثائر الأميركي المنضوي في فصائل الجمهوريين اليساريين الإسبان ضد الجنرال فرانكو المدعوم من الألمان النازيين يومئذ/ والضابط الفار من قبضة الإعدام، الهارب إلى معجزة الحب، المتحطّم على صخرة المأساة.
وبدأت رحلة المقارنة بين النماذج السينمائية واللوحات الحياتية.. رحلة الشاب الباحث عن دور البطولة في كل ما يسعى إليه، لقد شحن قلبه بالمشاعر وخياله بالصور، وعقله بشهوة الاختبار واكتشف مبكراً أزمة العشق المزمنة مفجوعاً أن الوفاء وجه ملازم لحرارة التعلق- وأن أية برودة ناشبة تجعله عديم الجدوى بليد الإيقاع، وأن الشجاعة ليست دائماً في متناول اليد، بل تخونك وأنت في أمسّ الحاجة إليها.. وقد يبقى إيمانك داخل الصلاة حين تنتهي منها ولا يرافقك إلى ضيافة بعض الأشخاص والمناسبات.. في دراسته الجامعية سلك طريقاً متعرّجة قبل أن يستقر فيما اعتبره مناسباً له، وكان طرفاً في مناقشات جريئة فحذّره زملاؤه وزميلاته أن النجاح مع هذه الوقاحات (كما يراها كثير من الأساتذة الجامعيين) شبه مستحيل.
ليل دمشق بارد..وفتياتها على ما يظهر لسْنَ مولعاتٍ بالغرباء، إلا إذا كانوا أثرياء وهو لا يمتلك المال لدعوتهنّ إلى أحد البارات الدافئة، ولا الديباجة الدمشقية الأخاذة في إطرائهن حتى الاستسلام.. دائماً عبر الانقلابات الاجتماعية يزحف أبناء الريف إلى المدينة بأسلوبين: استعبادها.. أو التعبّد لها.. لم تعد الأشباح والظلال البطولية قادرة على انتشاله من دوّامات العزلة أو طغيان الواقع.. صوته جميل، وعالم الغناء يتلألأ بالثروات والشهرة، والفتوحات النسائية: هناك من أوصله إلى الإذاعة وتركه.. سمعوا صوته وقالوا له: نخبرك في وقت لاحق عن النتيجة.. لكن رجلاً طيباً أشفق عليه ونصحه: يا بنيّ الإذاعة أخطبوط ودهاليز، وأنت على ما أراه شاب نقيّ، موهوب، ولكن غير مدعوم، اهتم بدراستك وإلا أضاعوك.. رغب في إعطاء دروس خصوصية للتخفيف عن والده في نفقات إقامته.. البداية كانت مع فتاة رسبت في الشهادة الإعدادية لمرض داهمها قبل الامتحان بقليل، فعقد القهر لسانها، وعذّب روحها.. أيعلن الشاب الجامعي فشله قبل أن يبدأ؟.. قبل التحدّي وراح يقوم بدوري الأستاذ والطالبة معاً.. في أكثر من حالة اعتقد أنه يعلّم تمثالاً، ولكن جرى الامتحان، وأعلنت النتائج، وهرع إلى منزل الفتاة في حي القصور المعروف.. وضع إصبعه على الجرس وانتظر قليلاً.. لا.. الأمر لا يصدق.. لقد كانت وراء الباب..ولما رأته زقزقت لـه بمفردات عربية وفرنسية..ميرسي أستاذ.. ميرسي بوكو..نجحت..فرح مرتين: بنجاحها وانفلات لسانها.
موهبته الشعرية لم تعد تتحمّل الكمون.. ولا الانحناء لشؤون الحياة الأخرى.. كلية الآداب تفتقر إلى الإختراقات اللاهبة، وعبق الأنثى المهيّج، وبناؤها ممرّ لكل الكليات.. إذاً لا بديل له من ارتياد الجناح الجامعي الجديد الذي يضم فرعي: الهندسة واللغات الأجنبية، وفيه مختارات ممتازة من حسناوات دمشق والمحافظات الأخرى، يؤلفن مع أترابهنّ من الشباب مجتمعاً جامعياً يهاجمه بكل الأسلحة الممنوعة والمسموحة، فلا يمتلك من ذاته إلا أن يكتب دفاعاً عن النفس، وتوريطاً لها حتى الهلاك.
المشكلة أحياناً ألا يكون هناك مشكلة.. كما تكون المشكلة في كثرة المشاكل.
كان الموعد أن يلتقوا في محطة الحجاز ليستقلّوا القطار القديم ويقضوا عطلة نهاية الإسبوع في الزبداني خطر لـه أن يضع أذنه على سكة القطار لعله يسمع وشوشات الرمال في نجد وتهامة وعسير، القطار المسنّ يسير على قدميه وليس على عجلاته..
بعض سكان القرى ما بين دمشق والزبداني يعتبرونه وسيلة سفر وتسلية، يقفزون إليه ومنه دون استئذان.
ويعتمده الطلاب الجامعيون في رحلاتهم لأجرته المناسبة، ودوره الرومانسيّ في توصيل الرسائل الغراميّة.
.. في مثل هذه الرحلات كل شاب يريد أن يثبت جدارته، وكل فتاة تريد أن تكون محطّ الأنظار، ومهوى الأفئدة دون سواها، طالب الشريعة بدا مرحاً ومستعداً لتنازلات سلوكية تعطي الانطباع بمرونته وانفتاحه، الراهبة المشاركة في الرحلة، أطلت من شرفات الثوب الأسود على الجو السائد.. ورددت أغنيات فيروزية ونزلت إلى الدبكة، الطالب المتحفظ، يساهم ويراقب، لم يكن حيادياً نحو زميلاته، فواحدة منهنّ تستهويه، ولكنه ولأمرٍ لم يبرح أعماقه أبداً كان يتورع عن التودد إلى فتاة بوجود أخريات.. الرحلة انتهت بتأثيرات متباينة.. وثمة موقف كان يمكن أن يقدم عليه تأجل...
الطريق بين دمشق وبيروت عبر سلسلة جبال لبنان الشرقية فرصة نادرة للاستمتاع بالخطر وجمال الطبيعة في الشتاء وقد تكون فرصة مؤاتية للمصادفات. كانوا أربعة.. سيدة حجزت مكانين إلى جانب السائق، سيدة عن يسار الطالب الجامعي في الخلف، ورجل عن يمينه لن يتجاوز في سفره "ضهر البيدر".. السائق يبالغ في تكريم السيدة الأنيقة، يفتح لها الباب، يطمئن على راحتها، يستأذنها للانطلاق، السيدة إلى جانبه لم تكن مكترثة كثيراً بما يجري. فلديها ربما ما يشغلها، السيارة الأمريكية الصنع تلتهم الطريق بسرعتها كعادة الأمريكيين في التهام كل شيء، بعد أربعين دقيقة كانوا في "شتورا" أول مدينة بعد دخول الأراضي اللبنانية، يتوقف السائق أمام إحدى الاستراحات النظيفة، ينحني بإشارة من السيدة الأنيقة المعطرة إلى جانبه، ثم يتوجه إليهم قائلاً: السيدة الفنانة "ميادة تدعوكم إلى فنجان قهوة.. قبلوا الدعوة بامتنان.. المفاجأة لم تكن منتظرة، وفتحت ميادة قلبها للطالب الجامعي من أنها شقيقة المطربة طروب وهما من أصل تركي، طروب شكلت ثنائياً غنائياً مع زوجها محمد جمال. أمّا هي فقد تزوجت عازفاً ألمانياً غاب في رحلة موسيقية ولم يعد..
لقد أشعلت هذه الوقائع ذاكرته مرة واحدة فاسترجع أدوار البطولة التاريخية والعاطفية التي تغذّى على مائدتها في عشرات الأفلام التي شاهدها، يبدو أن الشاشة قد اتسعت واختلط الحابل بالنابل، وخرجت الأحداث عن سيطرة المخرج، وتمادى الممثلون في أدوارهم أو انسحبوا منها.. لكن الطريق بين دمشق وبيروت لمّا ينتهِ بعد.. والمسافة المتبقية هي الأصعب لأنها تشبق ارتفاعاً، وتلفح برودة، وتهددها الانزلاقات، والسيارة ليست مُدَفّأةْ.
نزل الراكب الرابع في "ضهر البيدر" كما هو مقرّر وتحركت السيارة من جديد إنما ببطء وحذر لكن السيدة الهادئة إلى جانبه بدت غير مرتاحة وها هي تفتح زجاج السيارة على برودة الطقس وتتنفّس بعمق وبصعوبة.. ظنّ أنها ضجرت وضاق صدرها من جو السفر. إلا أن حالتها تطورت بعد ذلك، وهاجت أمعاؤها وتعرّض رأسها لوجع ممضّ. حاول السائق التوقف قرب استراحة أو منزل لتقديم المساعدة لها.. لكنها نصحته بالمتابعة لأن ما تعانيه ناتج عن تأثير الارتفاع الشاهق على جسدها.. ورجته أن يوصلها إلى بيتها في "الحازمية"، وهي زوجة أحد الأساتذة الأكاديميين في الجامعة اللبنانية.. وبترجّل السيارة عن صهوة الجبل هبطت حالة المرأة إلى مرحلة الاستقرار، مسحت بمنديل أبيض العرق عن وجهها وجبينها، وشكرتهم جميعاً على لهفتهم في التخفيف عنها، ودعتهم إلى العشاء بودّ وإلحاح.. اعتذروا بلطف، وأنزله السائق في ساحة البرج، وأكمل طريقه لإيصال ميادة إلى منزلها.
ساحة البرج يومئذ هي مركز الدائرة التي تنطلق منه إلى أنصاف أقطار كل اللبنانيين، وهم كفيلون بإطلاعك على كل أهل الأرض.. في الوسط التجاري شعر أن كلّ ما في العالم معروض للبيع، وأن جسد المرأة يتمدّد فوق أرصدة البنوك، والصفقات المالية، وأن أشد الأطراف والأحزاب تنازعاً وتناقضاً يمكنهم التوافق إذا تمَّ اقتسام المصالح والنفوذ.. الفضول وحبّ المعرفة يقودان الشاب الطموح إلى التسرّب في الشوارع والأسواق الجانبية.. وبسرعة يجد نفسه محاطاً بمنازل وفنادق متواضعة تعترض أبوابها وشرفاتها الصغيرة نساء بثياب فاضحة وأثداءٍ متدلية وأجساد شبه متهدلة.. وشاهد رجالاً يلجون الأبواب، ويتسلقون الأدراج، ورجالاً يصلحون أوضاع ثيابهم.. وروائح زنخة خانقة تخترق حتى مسام الحجر..
قرفٌ عارم أصابه فراح يبتعد في خطوات واسعة حتى خرج من هذه الموحلة الغريزية القذرة.. الفيلم الذي شاهده لم يكن بمستوى الدعاية المبهرة التي أحيط بها.. وكان العنف الساديّ مادته الأساسية.. وحين وصل بيت أقربائه القديم المواجه "لبرج المر" الشهير استقبله سيد البيت بدعاباته الساخرة وكانت ليلة خاض فيها مع قطط البيت معركة كرّ وفرّ حرمته النوم إلا لفترات متقطعة كان يسهو فيها انتظاراً لجولة أخرى.
في اليوم الثاني ساح جنوباً، وفي اليوم الثالث أقلع إلى الجبل، وفي اليوم الرابع اندفع شمالاً.. ولو قدر لركب البحر..
زيارته هذه تمّت بناء على هاتف تلقاه من صديق ترك مكانه شاغراً في إحدى المدارس الإعدادية، إذاً لا بد من العودة إلى دمشق.. دون ميادة والسيدة المبتلية بداء الارتفاعات والقمم.. تقاسمه الأقرباء والأصدقاء فأوصلوه إلى الأنوار والنهار ولسان الحال وهي جرائد يومية تصدر في بيروت.. النهار نشرت له مقطوعة في ملحقها، ولسان الحال صدرت صفحتها الثقافية بأول قصيدة كاملة له وعنوانها (أين أنت).
لقد فتش عنها طوال طريق العودة.. لكنه لم يجدها.. وما زال يفتش حتى الآن..