بتـــــاريخ : 11/22/2008 9:15:15 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1492 0


    ليلة وتنقضي

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : غسان حنا | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    قرّر الشاعر تلبية الدعوة التي وجّهت إليه من جهة ثقافية في مدينة داخليّة... لإلقاء بعض قصائده... الدعوة ضمّته وشاعراً من مدينة ساحليّة أخرى.. الزمن كانونيٌّ... والطقس بارد ماطر... على أنَّ الشعر لا يعترف إلاّ بطقسه ولا يستجيب إلاّ لزمنه...

    السيّارة المنتخبة للرحلة الشاعرية لم تسمع بيت شعرٍ في حياتها لكنَّ مقاعدها فُصّلَتْ على خطّين متوازيين كأشطر القصيدة الكلاسيكيّة. في كلِّ خط مقاعد مقفّاة... يسع كلُّ منها راكبين مصابين بسوء الامتصاص تركت هذه السيّارة الأوتستراد الساحلي العريض واتّخذَتْ لسيرها طريقاً واسعة شُقَّتْ في وسط الجبال الساحليَّة تختصر الزمن والجهد، وتواكبها لوحات طبيعيّة مشرّبة بألوان الحياة المكافحة ومع الخطوات الأولى للرحلة بدأت الأمطار أناشيدها... وراحت خيالات الضباب ترتسم على مساحب الأفق كلّما ازداد الارتفاع... والقُرى تتالى على الجانبين في تجاور غير منسجم بين قصورٍ منيفة، ومنازل متواضعة وعلى غير استئذان بدأت حُبيبات المطر الدالفة من سقف السيّارة.. تقرع نافذة الذاكرة‏

    فأطلَّ عليَّ بيت جدّي ومحدلة السطح... وكانون الحطب وصوت الميازيب... كان على الركاب أن يتفادوا الدلفة.. بتحريك الرؤوس في اتجاهات مختلفة.. فإذا هم يدخلون في وصلةٍ من التناطح العفويّ أوقع بعض الكدمات.. لم أتمالك نفسي عن مداعبة السائق فطالبته بالتوقف لدحل سطح السيارة المثّقب من الاهتراء... ضحك الركاب للمداعبة واستمرّت ضحكاتهم حين شرع أحدهم يعدُّ النطحات بصوتٍ عالٍ... تكاثفت الأمطار.. وتحوّلت الدلفة إلى سقسقة.. وتشوشت الرؤية أمام السائق.. وساد جوٌّ من الصمت الحذر لم يقطعه سوى نداء أحد المسافرين بتلاوة صلوات الاسترحام والندم على الخطايا.. الشاعر يسأل جاره في المقعد عن شعوره.. في هذا الطقس العاصف.. الجار يجيب أنَّه معتاد على مثل هذه الظروف.. لكنَّه أكثر خوفاً من أيّة رحلةٍ سابقة... السائق يميل إلى أقصى اليمين.. ويتوقّف.. تجنّباً لأيّ خطرٍ محتمل.. تجدّد المزاح الساخر مع التوقّف.. اقترح أحدهم أن نقطع المسافة سيراً على الأقدام... والثاني أنْ نجرَّ السيارة إلى حافة وادٍ قريب... ثمَّ ندفعها إليه كي لا تفعل بنا الأمر نفسه.. شكا الثالث أنّهم أرسلوا في طلبه لأنَّ زوجته على وشك أن تضع طفلاً.. وقد تضع الطفل الثاني قبل أنْ يلتحق بها.. وعلى غير انتظار التفْتُ بلا تركيز ذهني فرأيتُ مشهداً عجيباً من النادر أنْ يحدث.. كأنْ تكسر حجراً فتجد في أعماقه دودةً على قيد الحياة... أو أن تقع من الطابق العاشر فيستحيل التراب تحتك إلى ماء.. يقيك من الصدمة القاتلة.. شابٌ وفتاة معزولان كلّياً عن سياق الأحداث بتوتّرها ومخاطرها.. ذراعه حول عنقها كشالٍ من فَرْوٍ ناريّ... ويده الأخرى تقبض على إحدى راحتيها وتوسعها شمّاً وقبلاً.. وهي ساهمة فيه ترعى وجهه بعينيها... هذان العاشقان المحروسان من أيّ خطرٍ أو مطرٍ أو رياح... دفعاني إلى التفكير بعيداً عن أيّ منطق.. وأفهماني قدرة الحب الهائلة في حماية نفسه... وتحدّيه الهجمات الخارجيّة برفع الأسوار حوله إلى حدّ أن تصبح حصناً أو قبراً. شعرْتُ في هذه اللحظات أنَّ يداً ثقيلة تضغط على عنقي من الخلف.. وأنفاساً كاوية تلفح رأسي... إنَّها يد المسافر في المقعد الجاثم ورائي وأنفاسه.. لعلّه في تمثّله السريع الجامح لما يرى من أمر العاشقين.. اختلطت عليه المشاعر والأحاسيس فلم يعد يميّز بين ملمس الرجل وملمس المرأة.. توجّهت إليه في دعابة خانقة. من أيّ المدن أنت؟... وما شأنك بأحوال الناس؟ احترقت موجة صوتي بمجرّد احتكاكها بأنفاسه اللافحة.. رفعْتُ يده عن عنقي وتركتها فسقطت على جنبه كعضوٍ مشلول... حرّكت كفي أمام عينيه فبدا لي أنَّها أصبحت شفّافة كلوح الزجاج لم تحل دون التهامه المشهد العشقيّ.. ساورتني نفسي أن أرفع محفظتي إلى أعلى ما أستطيع وأهوي بها على رأسه كي أرجعه إلى ذاته أو أخرجها منه إلى الأبد لكنَّ صوت السائق أعاد ترتيب الأمور لتسلسلها السبّبي حول الحبكة الأساسيّة: السماء استجابت لدعواتنا فخفّت حدّة الأمطار وسنكمل الرحلة بإذن الله.. كان محرّك السيّارة مايزال دائراً ففرك عجلاتها ودرجت ترتقي المسافة الأخيرة من ارتفاع السفوح.. لتدبَّ بعدئذٍ في هبوط السفوح المؤدّية إلى السهول الداخليّة.. فالمدينة المستهدفة.. التي بدأت تتلامح معالمها وتكشف عن طابعها القديم المتجدّد باعتدال.. وأخيراً رست السيارة عند أحد الأرصفة في وسط المدينة.. وتبادل ركابها مشاعر التهنئة بسلامة الوصول.. ولم يخل الوداع من نكهة المداعبات الساخرة...‏

    في المركز الذي ستقام فيه الأمسيّة الشعرية كان اللقاء حارّاً بالشاعر الشريك في الأمسية.. وبالمسؤول عن استقبالنا وبعض العاملين في المركز.. بعد ساعةٍ من الانتظار كان الوافدون لحضور الأمسيّة أقلّ من الشاعرين والعاملين في المركز.. وبعد تجاوز الموعد المحدّد بربع ساعة انشقَّ الأفق عن قادم واحد وبعد عشر دقائق إضافية ساورتني رغبة الاعتذار... لكنَّ نباهة مقدّم الأمسية قطعت الطريق عليَّ بالتعريف بنا ودعوة صديقي القادم من مدينة ساحلية أخرى إلى دوره في الإلقاء.. ارتقى الشاعر السبعينيّ الصديق المنبر وألقى نصف ماكان يودُّ إلقاءه.. ثمَّ ارتقيته بعده فألقيت نصف ما ألقاه.. شعر الحاضرون القلائل ببرودة الإلقاء.. وانتظر شابّان خارجاً لإخباري أنَّهما قرأا لي تحقيقاً واسعاً مشفوعاً بالمقاطع الشعرية.. نشر في مجلّة دورية تصدر في بلد شقيق. وقد جاءا لمكافأتي على ما تضمّنته مجلة حزبهما عنّي.. فمازحتهما معاتباً: ألا يضمُّ. ذلك الحزب في هذه المدينة إلاّكما ولم يبخلا في الدفاع العاطفيّ المنحاز عن رفاقهما بدعوى عدم إخبارهم بالمناسبة.. شعرت وزميلي الشاعر أن الوقت موحش على غير عادته في نهاية المناسبات الشعرية.. حيث تتناثر الآراء والانطباعات وتعبق الأحاديث بالأحكام النقدية اللاذعة أو المرحّبة... ويُدْعَى المسؤولون والمبدعون إلى السهرة الجماعيّة الحافلة بالطعام والكلام تهامسنا عن إمكانية العودة كلٌّ إلى مدينته.. لكنَّ همساتنا تغشّت حسرةً حين تأكّد لنا أنَّ إمكانية السفر معدومة في مثل هذا الوقت.. نظرت إلى صديقي وقلت: لا بأس.. إنها ليلة وتنقضي... هزَّ رأسه بالإيجاب وأعلن بدماثته الراقية.. طالما أنت معي فكلُّ شيء يهون.. وقف المسؤول عن استقبالنا بمعطفه الذي لم يخلعه منذ ربع قرنٍ ونيّف... ودعانا إلى العشاء.. بادرته على الفور: العشاء الآن والساعة لم تتجاوز الثامنة إلا بقليل... فأجاب بلهجة الواثق أنَّ كلَّ شيء سيجري كما يريد:‏

    أعشيكما.. وأوصلكما إلى غرفتكما في الفندق.. وأنصرف إلى عائلتي.. صديقي الشاعر السبعينيّ بدا غير مبالٍ بأن نتعشَّى الآن.. أو بعد غد.. أو لا نتعشّى أبداً... غالبني شعور مبهم بأنّنا محكومون بما لا قدرة لنا على ردّه.. ومغلوبون على أمرنا وأنَّ الإصرار على تأجيل العشاء لن يحمل معه مفاجأة سارّة من أيّ نوع كان يضاف إلى ذلك شعوري بأنَّ المسؤول عن استقبالنا بدأ يتضور من الجوع، العشاء الآن فليكن.. إنها ليلة وتنقضي.. في الطريق إلى المطعم المخصّص.. لإطعام ضيوف المناسبات التقينا صديقاً شاعراً يقيم في هذه المدينة الداخليّة طالما بلّغنا رغبته العارمة في أنْ نزور مدينته... فنكرّمها شعراً ويكرّمنا سهرةً يتردّد صداها في الوجدان زمناً طويلاً.. نعم التقيناه فظنْنتُ أنَّ المفاجأة السارّة وقعت على رغم أنف القدر.. لكنَّ أنف القدر لا يقهر هذه المرّة.. اعتذر.. ليس عن دعوته السابقة لنا فقط..بل عن عدم مشاركتنا العشاء وأطلق ساقيه هارباً... تأمّلتُ ملامح صديقي الشاعر فوجدتها منسرحة لا احتقان فيها ولا استغراب قلت له: هوّن عليك.. ليلة وتنقضي... تناولنا الطعام كواجب آليّ لابُدَّ منه.. لم نكن نختلف عن البهائم المجتّرة.. التي تبلع أوّلاً.. ثمّ تسترجع الطعام إلى فمها لتمضغه.. المسؤول عن استقبالنا اعتذر عن كلّ أنواع الخمرة... لأنَّ الصفة الرسميّة للمكان لا تحتمل مجازية الخمرة واستعاراتها البعيدة الشاردة.. وقد قطع الشكُّ بشأن تقدمّيته المعتدلة الراسخة.. لكنّه بحكم موقعه شديد الحرص على تنفيذ الشروط المرعيّة في احترام اللياقات الاجتماعيّة... وسكَتْ دون أن ينتظر ردود الفعل..نظرت إلى صديقي الشاعر وهمهمت: ليلةٌ وتنقضي.. عدنا القهقرى إلى الفندق المتوسّط في شارع رئيسيّ.. كتلامذةٍ يعودون إلى المدرسة بعد صيف رائع.. ودَّعَنَا المسؤول عن استقبالنا بقبل تفوح منها رائحة اللحم المشويّ مع البصل ولهاثُ الفول والحمص واللبن المدخّن.. متمنياً لنا ليلة هانئة.. واستدار كعربة نقل وخبَّ في الشارع نصف نائم.. نظرت إلى الساعة فوقنا.. فلدغني عقربها بامتعاضٍ مقرف.. حملقْتُ في صديقي الشاعر السبعينيّ غير المتذمّر أبداً وقلَّبْتُ بلساني أحرفاً كالجمر: انتظرنا.. وقرأنا شعراً.. وشربنا شاياً ثمَّ تعشينا في المطعم... والتقينا الشاعر المتهرّب.. ولمّا تبلغ الساعة العاشرة قهقه صديقي الشاعر قهقهة ممزوجة بالتثاؤب وهزَّ رأسه قائلاً: هوّن عليك.. ليلة وتنقضي.. هجسْتُ في مواجهة وجهه المتغضّن.. المسكون بخدر النوم العميق: ما ذنبُ هذا الإنسان المسكين حتّى أزجه في تيار اضطرابي وتطرّفي.. إلى الآن لم تندّ عنه كلمة تذمّر واحدة ولم يُبدِ احتجاجاً أو تساؤلاً على ما يجري.. يجب الإفراج عنه.. لاسيَّما أنَّ تهذيبه العالي يأبى عليه الانفراد بمشاعره وسلوكه...‏

    اقتربت منه وهمسْتُ: لا حلَّ إلاّ بالنوم.. كلانا مرهق.. وليس من المجدي الاستمرار بهذه الحالة... قال على بركات الله.. ليلة وتنقضي.... حمل بعضه البعض الآخر وراح بما تبقّى لديه من قوّة يرفع قدميه بصعوبة على الدرج القصير المفضيّ إلى الطابق الثاني... فتح لنا الدليل باب الغرفة وولجنا... سريران فقط.. بل غشيت عيناي لثوانٍ فخلتهما سريراً واحداً... سريران.. لا خزانة.. ولا كرسيَّ.. ولا عارضة لتعليق الثياب ولا مدفأة... ولا صورة على الحائط.. أين نحن؟.. من أنا؟... من أنت؟... لعلّنا في منزل انتقل ساكنوه ونسوا هذين السريرين... ولابُدَّ سيعودون لاستردادهما... صديقي الشاعر السبعينيّ لم يعد يعبأ بما أقوله وليس معنيّاً إلاّ بنوم يعفيه من التفكير بما يجري لفترةٍ من الزمن... ويريحه من شجني وقلقي... وضعْتُ محفظة أغراضي القليلة جانباً وتقدَّمْتُ من السرير لأتبين نظافته.. وحين رفعت طرف اللحاف عن الوسادة رأيتُ ما جعلني أتوهجُ اضطراماً كوشيعة كهربائية.. وأنتفضُ كمن أوشكَ أن يدهسهُ قطار.. شعرٌ من رؤوس متعدّدة.. بألوانٍ متعدّدة.. بأطوالٍ متعدّدة... يتمدّد فوقها ويتقاطع.. وجه متبقّع بالغامق والأغمق... طرف ممزّق تطلُّ منه أحشاؤها القطنيّة الكامدة كلوحة سرياليّة استخدم رسامها ذيل حصانٍ في رشق الألوان على الخشب أو القماش.. الكيس القماشي الذي يوضع فيه اللحاف لا يختلف عن الأكياس المستخدمة في نقل الحبوب أو الخضار... وما زالت أصابع الأطفال المغمّسة بالدسم مطبوعة عليه... لم أعد أستطيع إكمال الوصف... منشغلاً عن صديقي الشاعر بضع دقائق كافية لأن أسمع شخيره الموزون المقفّى.. وإليكم المشهد كما هو: اندسَّ في السرير بكامل أناقته وقيافته ما عدا الحذاء والجاكيت لم يكترث بوسادة أو لحافٍ أو بقع أو شعر أو لطع... التفَّ بكل ما وجده على السرير بشهيّة نادرة... لقد اكتشفت في تلك اللحظة كم كنت عبئاً عليه.. وكم كان يجاملني.. وكم أضحى بشخيره ونومه الهانئ.. يهزأ منّي بصمت.. ويشمت بسرّ.. ويقهقه دون أن يحرّك شفتيه... وقفْتُ إلى جانب سريره مذهولاً.. كتمثالٍ من لحم آدميٍّ مقدّد أو متجمّد... وفجأة ولد التحدّي الكبير في أعماقي.. لن أدعه يفعل هذا وحده طالما أن المجازفة لا تنطوي على أيّ خطر يتهدّد الحياة... من العيب الفادح أن يقف رجلٌ أمام سرير عاجزاً .. أو أن يخشى ما بإمكان الماء والصابون أن يُزيله بدقائق... لو كان المرء جنديّاً وفرض عليه القتال في وسط الغابات والمستنقعات والحشرات.. والديدان والأوبئة.. أينسحب من المعركة؟... ومن سيستجيب إلى رغبته؟... أيصرُّ على نقلها إلىفندق بعشر نجوم؟ أ.... لبست بيجامتي... قطعاً ليس فوق ثيابي الرسميّة.. علّقت بزّتي بخيط يتدلّىمن حديد النافذة لففْتُ الوسادة بمنشفتي.. رفعْتُ طرف اللحاف بحذر شديد حتّى لا أثير مكامن العطن والعفن.. مدَدْتُ جسدي تحت اللحاف متحاشياً الاحتكاك البالغ.. تجرأتُ بعد إنزالٍ متدرّج على إسناد رأسي إلى الوسادة.. كمن داس على لغمٍ وهو يتحرّج من أيّة حركة تؤدّي إلى انفجاره.. و... ولكنَّ الانفجار جاء من الغرفة المجاورة المفصولة عن غرفتنا بحائط لم أدرِ إذا كان من الخشب المضغوط أو من حجارة مصنّعة فاضحة للصوت.. الانفجار جاء بصوت طفلٍ إمّا أنَّه موجوع وهو غير قادر على تحديد مكان الوجع... أو أنَّهُ يعاني من أرق طفوليّ يداهم الأطفال بين الحين والحين.. وفي كلتا الحالتين بدأ سجال رهيب يحطّم القلوب بين بكاء الطفل ومحاولة الأب إسكاته بالضرب.. كلما ازداد الضرب ازدادت حدّة البكاء.. فيزداد الضرب تبعاً لذلك.. ويصل البكاء حدَّ الاختناق.. فيزمجر الأب ويهوي بكفّه على البدن الطري... والأم مكتومة الصوت.. لعلّها نائمة أوكلت أمر الطفل إلى هذا الأب المثاليّ... أو مفجوعة وتخشى أن ينالها ما نال الطفل وفي ثوانٍ انهارت عملية التطبيع مع الفراش بعامل خارجيّ عن إرادتي وعنه ألقيْتُ كلَّ شيء عنّي ونهضْتُ كأني أحمل وزر معاناة الإنسانية كلّها ارتديت ثيابي وهُرعت إلى الشارع.. وشرعتُ أمشي وأمشي لأطرد نحيب الطفل من ضميري وذاكرتي أو أطرد نفسي منه.. أصبح ذلك المشهد الفاجع رمزاً للقهر الإنسانيّ برمّته: ثمّة في هذا العالم من يمنع طفولتك من التفتّح الحقيقي... من الاستيقاظ الحرّ.. ثمّة في هذا العالم من يستعبدك ويقهر إرادتك ويسلب حقوقك.. ويسرق لقمة عيشك فإذا تذمّرت أو احتججتَ أو طالبت بحقوقك.. انقضّ عليك بكلّ ما يقوى عليه من قمع وقهر وإبادة.. وأظهرك خارجاً على المنطق والقانون... لستَ عابئاً بأسباب الأمن والاستقرار.. حاقداً على العقل الحضاريّ الموجّه لسفينة الوجود...‏

    دموع كاوية حفرت في وجهي مأساتها بدأتُ بها المرحلة الأولى من هذا السير النازف... وكأنَّ السماء تعاطَفَتْ معي... فأفرجَتْ عن أمطارها بهدوء موقّع.. الشارع العريض الذي أسير فيه.. يرتقي بتؤدة مادّاً ذراعيه نحو الأفق الجنوبي المترامي.. حركة السيارات تراجعت.. أغلقت معظم المحال أبوابها إلاّ التي تختصُّ بالساعات المتأخرة من الليل.. كلّما التقيتُ عاملاً حيّيتُه أو حيَّاني.. انحلّت الدموع بالأمطار.. وغاصَتْ عميقاً في مسامي حتى استقرَّتْ في الحنايا الداخليّة... وقفْتُ في نقطة تقاطع هامّة وتأملّتُ في الجهة الغربية.. هل أستطيع العودة إلى مدينتي سيراً على الأقدام؟....‏

    لم أستبعد أن تتوقف سيارة قربي، فيناديني سائقها باسمي.. ثمَّ يخبرني أنَّه ماضٍ في طريقه إلى البحر.. المفاجأة ستكون موازية لنحيب الطفل... وصرخت كأنّني طُعِنْتُ : ذلك الطفل المسكين هل نام تحت تأثير الضرب المبرّح...أم أنَّ المساجلة الفجائعية ما تزال قائمة؟.. ربّما تلقّفتّه أمّه وهربت خارجاً... وهل سيسمح لها بالخروج والفندق مأهول بالرجال..؟‏

    تضاعف هطول الأمطار وتحوّلَتْ إلى سواقٍ تأخذ مجاريها إلى المصارف الناشبة في جسد النهر... لم يعد السير ممكناً إلاَّ إذا رغبت في أنْ يُعَلّقَ على سلوكي من سائقي السيارات العابرة... بعبارة: مجنون.... أبله.. شارد آخر في هذه المدينة.. إلى ما هنالك من تسميات مناسبة لمثل هذه الحالة.. استردّت الأمطار وتيرتها السابقة ودعتني إلى العودة .. الفندق كان بعيداً.. لكن الليل والأمطار دليلي... والبرد انحنى أمام حرارة الضمير... ولهفة القلب... وانطوى الشارع تحت قدميّ حتّى وجدتُ نفسي مقابل شاب جامعيّ يستقبل زبائن الفندق بعد منتصف الليل.. فيحضّر مواده للامتحان... متقاضياً أجراً يعينه في مصاريفه الجامعيّة... سألته في صيغة اختبار لما يجري في الفندق:‏

    ـ كنت أتمشّى لأهضّم وجبة العشاء.. هل في الفندق ما يستحقُّ الاعتبار؟.. فأجابني على الفور: ذلك الحيوان في الطابق الثاني...‏

    ـ ما شأن ذلك الحيوان...‏

    ـ لقد ضجَّ نزلاء الفندق بما أنزله بطفله الذي لم يتجاوز السنتين من ضرب وشتائم..‏

    ـ مادور إدارة الفندق في مثل هذه الحالات...‏

    ـ لا إدارة فندق ولا من يحزنون.. صعدت إليه.. قرعت الباب.. فتح لي كوحش مستثار....فرأيتُ الطفل ملطخ الوجه بزرقة كامدة بسبب الصفعات التي تلقاها وهدّدته بالطرد من الفندق إذا استمرَّ في ذلك..‏

    ـ وبماذا أجاب..‏

    ـ شخر ونخر وأغلق الباب..‏

    ـ إذاً سأكون جارك فيما تبقّى من ليل...‏

    ـ الباقي طويل يا أستاذ... وتقاسيم وجهك تدلُّ على إرهاق شديد ..‏

    ـ أشكرك على عاطفتك النبيلة.... لكنَّ قراري بالبقاء هنا حاسم... والإرهاق العصبيّ أفضل من الانهيار بكثير...‏

    ـ كما تشاء...‏

    ـ هل أطلْلتَ على الصديق الشاعر الذي يقاسمني الغرفة..‏

    ـ إنَّه ينام كالحمل الوديع...‏

    استرجعت محاولتي تقليده.. وقد كان من الممكن أن تنجح لو لم يكسر صوت ذلك الطفل زجاج السماء فوق عينيَّ أسندت وجهي إلى كفي وأغمضتُ عينيَّ محاولاً استدراج بعض أطياف النعاس إلى أعصابي.. لم أكن أختلف عمَّنْ يريد النوم فلا يجد مكاناً.. وإذا عثر على مكان افتقد النوم.. ارتسمت في مخيّلتي صورة المرأة التي صادفتها بعد منتصف الليل في وسط مدينتي الساحلية تخرج من فندقٍ شعبيّ وهي تردّد لكي تُسمعَني:‏

    ـ ما هؤلاء الناس الواطيين... استقبلوني بالتأهيل والترحاب لكي ينالوا منّي.. كأنَّ كلَّ امرأةٍ تخرج ليلاً ساقطة.. وتدخَّلتُ بحذر شديد دون أنْ أجرح شعورها بأسئلةٍ محرجة عن أسباب التجائها في هذا الوقت إلى فندق شعبيّ لا يؤمّه إلاّ المقطوعون.. ومظهرها يدلُّ على النعمة أرشدتها إلى فندق لا يبعد كثيراً عن المكان الذي خرجت منه.. فعرفت أنّها من بلد شقيق مجاور.. وعرفْتُ من موظّف الاستقبال أنَّ نزولها في الفندق متعذّر لأسبابٍ محدّدة.. وهو غير مستعدّ لتحمّل مسؤولّيتها حينذاك انخرطَتْ في البكاء وهي تستغيث: ارحموني... جازى الله من فعل بي هذا الفعل.. أكاد أموت من التعب والنعاس.. ولم ينقذها ممّا هي فيه إلاّ موقف إنساني من أحد العاملين في الفندق إذ عرض عليها النوم في بيته مع زوجته باعتبار أنَّه مناوب في عمله... وافقَتْ دون‏

    تردّد... وأكملتُ مسيرتي إلى منزلي على هَدْي ألم حائر.. بل داخلني وهم كالحقيقة في أنّني أشاهد عرضاً سينمائياً ما إنْ انتهى حتى أُضيئت مصابيح الصالة واستيقظ المشاهدون على النهاية ليمضي كلٌّ في سبيله.. فتحت عينيَّ فرأيت الشاب مستغرقاً في دراسته والساعة زحفَتْ ستين دقيقة.. مازحْتُ نفسي مفترضاً، ماذا لو وفد الصباح وذاكرتي تستعيد قصة بعد قصة ومصادفة تلو أخرى.. إذاً لهانتِ الأمور عليَّ، وحسن الانتظار.. لم تكتمل المزحة حتى انسلَّت إلى الفندق فتاة متبرَّجة حيَّت باقتضاب فأسلمها الشاب مفتاح غرفتها فأوصته قبل صعودها بأنها لم تأتِ بعد إذا سأل أحد عنها.. نسيت كفّي تحت ذقني طويلاً فتيبّسَتْ لانحباس الدم في عروقها فعدّلت جلوسي لأتابع مفاجآت هذا الفندق الأسطوري... ودخلت فتاة أخرى ترتدي هذه المرّة غلالة رقص وفوقها معطفٌ.. أبيضُ ناعمٌ مدّت يدها دون تحية فأسلمها الشاب مفتاح غرفتها دون أن يرفع رأسه عن الكتاب.. أدهشني اجتهاده الذي لا يتأثر بما حوله.. وجدّيته في التعامل مع النساء. خمشْتُ صمته بسؤال مختلف: ماذا أرى؟... إنّه فندق الغرائب والعجائب.. فأجاب بصوتٍ عميق النبرات: حين تجوع وتحتاج لا مجال لأن تختار عملك ... إنّها لقمة العيش يا أستاذ.. كان لجوابه أثر حزين في نفسي لما يتضمّنه من دلائل أزمته الشخصيّة.. أكبرت فيه شجاعته في اختيار أيّ عمل يؤمّن له دخلاً يرفع فيه بعض العبء عن أهله..‏

    لم نكد نصمت حتّى سمعنا وقع أقدامٍ تقترب من مدخل المسمّى فندقاً.. فإذا الداخلون ثلاثة عرّف أحدهم عنهم: ضابط في الشرطة، محامي، مقاول...تشرّفنا قال الشاب: كيف أخدمكم..؟ فأجابه الضابط نريد الفنّانة (فلانّة):‏

    ـ هي في غرفتها تستريح من عناء العمل وقد طلبت ألاّ أزعجها...‏

    ـ نحن لا نريد إزعاجها بل حلّ قضية عالقة معها...‏

    ـ الآن والساعة الثالثة صباحاً...‏

    ـ الوقت الآن مثاليّ في هدوئه وطوله..‏

    ـ أعتقد أنها نامت بمجرّد ملامستها الفراش..‏

    ـ أمثالها لا ينامون في مثل هذه السرعة.. فهناك شؤون لابُدَّ من قضائها قبل الاسترسال في النوم.. ثم إنَّ المحامي لا وقت لديه إلاّ الآن..‏

    ـ سأبلغها ولكن أخشى من عودتكم خائبين..‏

    ـ أمثالنا لا يعودون خائبين.. أفهمت الآن(قالها بصيغة تهديد مبطّنة)..‏

    ـ لابأس سأبلغها..‏

    نهض الشابُ إلى غرفتها وعاد بعد قليل ليقول في لهجة خائبة: إنَّها قادمة. هبطت الدرج بدلالٍ محرور.. صافحتهم... دخلت بهم غرفة داخليّة.. بدأ النقاش على الفور.. تنوّعت فيه أساليب التعبير: حوار.. صمت.. وإشارات وقوف.. جلوس.. انفعال... محاولات تهدئة.. قبلات استرضاء.. وضع نقود على الطاولة.. تهديد. بالانسحاب.. إغلاق الباب وفتحه عدّة مرّات.. وأخيراً... بعد ساعةٍ مشحونة.. خرجت وهم يتبعونها ويتهامسون.. وحين توقّفوا للوداع التفت المحامي فرآني.. اقترب ليتأكّد من ملامحي وبعد أن قطع الشك هتف: هذا أنت ولست غيره..؟ لم أتفاجأ لأنّ ما حدث معي في هذه الليلة امتصَّ كل كوامن الدهشة والإثارة في أعماقي.. أجبته ببرود: لعلك أشبهتني بأحد أصدقائك، فقال: أبداً.. ألست الشاعر فلان أجبت : نعم.. فقال: أمن المعقول أن يُخطِئَ الإنسان بك... ألا تذكر تلك السهرة الرائعة التي قضيناها معاً في بيت قريبك فلان الذي تزوج قريبتي فلانة.. فابتسمت متـندّراً: لو جئتني في غير هذه الليلة فلرّبما تذكّرت...‏

    ـ وماذا حدث لك لا سمح الله؟‏

    ـ كل خير.. كل خير.. لا تهتمّ..‏

    قلت في نفسي.. إذا كان على هذا القدر من الشهامة والمروءة فلم لا أطلب منه إيصالي إلى مدينتي الساحلية قريباً من قريبي وقريبته حيث سهرنا معاً تلك السهرة الرائعة.. لكني استدركْتُ سخف هذا التفكير مع رجلٍ لا أتذكّر منه شيئاً فأجبته بعد شرودٍ.. أشكر ذوقك.. وأستعذرك على عدم التعارف الفوري.. فقال والآخران ينتظرانه خارجاً: سلّم على الأقرباء.. وفي المرّة القادمة، أخبرني قبل أن تأتي لأقوم بواجبك... والتحق بصديقَيْه وغابوا في الظلام نظرت إلى الشاب فوجدته مشغولاً عن درسه هذه المرّة بالحديث الذي دار أمامه وعلى وجهه ارتسمت إشارات غامضة لم تخف عليّ.. لم أشأ أن تبلبل أفكاره وهو على شفا الامتحان: لقد أذهلتك المصادفة على ما أعتقد... كيف يمكن لكلِّ هذه المفارقات أن تحتشد في ليلة واحدة وفي حياة إنسانٍ بذاته؟.. نفخ في الفضاء.. وضرب كفّاً على كفٍّ وخرج من وراء الطاولة الخشبيّة نصف الدائرة.. وهو يعلّق: لن أنسى هذه الليلة مادمت حيّاً.. أمّا أنا ـ و الكلام لنفسي ـ لن أنسى لحظة توقّف عقرب الساعة على الخامسة وعقرب الدقائق على النصف.. صفّقت بجناحيَّ وطرتُ إلى الغرفة الكابوسيّة فاستقبلني شخير صديقي الشاعر السبعينيّ ودّعته على أمل اللقاء دون أن أوقظه.. تركت المنشفة على الوسادة هديّة لنزيل قادم.. وحملتُ محفظة أغراضي القليلة.. وعرّجت لأقبّلَ ذلك الشاب الذي آنسني على هذه الليلة الرهيبة.. راجياً له النجاح في الدراسة والتوفيق في الحياة... وخرجت من الفندق أهرول باتجاه الكراج.. ونسائم البحرتغاديني عبر الجبال والسهول متفادياً أن أسمع إلاّ ضحكات الأطفال ورحمة الآباء بهم.. مستغيثاً بالمطر لكي يغسلني عميقاً عميقاً حتّى الولادة الجديدة..‏

    ملاحظة:‏

    آسف لأنّني نسيت أنْ أترك لصديقي الشاعر بطاقة مكتوباً عليها..‏

    صديقي النائم بسلام: إنَّها ليلةٌ وتنقضي

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()