-وثق أني لن أنسى تراب الوطن الذي تكرره دائماً على مسامعي.
ولهذا المزاح أسبابه القريبة والبعيدة. فقد كان أحمد العامري يؤكد لمحمد، بعد أن تقرر إيفاده إلى الولايات المتحدة، على أن قيمة أي بلد في العالم، ومهما تكن ظروفه أفضل، لا تعادل حفنة من تراب الوطن. وكان محمد يرد عليه محاولاً إغاظته دون إمعان التفكير:
-التراب هنا أو هناك متشابه، مجرد تراب.
فيرد عليه أحمد:
-إذا كنت جاداً، فأنت غلطان، وستبرهن لك الحياة على خطل رأيك.
وأكثر من ذلك، كان من عادة أحمد أن لا يستخدم كلمة الوطن إلا مقرونة بالتراب، حتى أن محمد قال له ذات مرة مداعباً:
-سأسميك أحمد تراب الوطن. فأجاب بلهجة حازمة:
-إنه شرف كبير.
كم يحزنه أن لا يجد "أحمد تراب الوطن" في استقباله. عزاؤه أنه سيرى والده وإخوته وأخواته وعدداً كبيراً من الأصدقاء المخلصين. ولكن ما يقلقه عدم سماع صوت أبيه خلال الاتصالات الهاتفية الأخيرة التي جرت بينه وبين إخوته. تبادرت إلى ذهنه احتمالات عدة ولكنه نحاها جميعاً، وأقنع نفسه بما قاله له أخوه الكبير في آخر اتصال هاتفي:
-ذهب أبوك إلى القرية بعد أن اطمأن على تخرجك وعودتك القريبة، إنه يريد أن يستقبلك وهو في صحة رائعة.
سبب معقول، فرغم إقامتهم في مدينة حلب إلا أنهم في الأصل من قرية "عين"، وما زال لهم هناك منزل متواضع يؤمونه بين الحين والآخر للاستجمام والراحة.
إنه في شوق عارم لملاقاة الجميع، الجميع بلا استثناء، صحيح أن بعضاً منهم قد أخطأ معه في يوم من الأيام، إلا أن روح التسامح تنداح في قلبه كسيل عرمرم ترفدها مشاعر الفرح المتفجرة بلا انقطاع.
"حقاً إن الغربة موحشة والحنين إلى الوطن قتال"، كرر ذلك مرات عديدة بينه وبين نفسه، ثم استدرك بأسى احتراماً لذكرى أحمد "والحنين إلى تراب الوطن قتال". صحيح أن البشر بشر في كل مكان، وأن البيوت والشوارع والمحلات عموماً متشابهة، إلا أن هناك فروقاً جوهرية يصعب التعبير عنها. فرغم تمكنه من اللغة الإنكليزية، وقدرته على التواصل مع الآخرين في الغربة، ورغم إقامة بعض علاقات الصداقة مع زملائه الطلبة، إلا أنه كان يحس في أعماقه أنه غريب ومعزول. في الوطن، كل شيء له حكاية، له تاريخ، له طعم، له رائحة تؤكد وجوده وإنسانيته، أما في بلد أجنبي، فهذه الأمور لا تخصه، ولا تثير فيه أي إحساس أو شعور أو فكرة.
يحاول أن يوقف تأملاته وتداعي خواطره وذكرياته فيفشل، إلا أن صوت المضيفة، وهي تعلن الاقتراب من مطار دمشق، يمكّنه من السيطرة على نفسه، لقد لازمه فجأة إحساس بأنه على وشك الإفراج عنه بعد سجن طويل.
وحينما دخل قاعة المطار أحس بأن خفقات قلبه تتسارع على نحو لم يألفه منذ زمن بعيد، وأن عينيه مشدودتان، كما لو أنهما تودان الخروج من محجريهما، وبعد لحظات يجد نفسه بين الجميع تغمره قبلاتهم الحارة وتحياتهم القلبية، ولكن أين والده؟
يسأل ويلح في السؤال. يقول له أخوه الكبير: ما زال في القرية، إنه متعب قليلاً، لم يقتنع، يحس إحساساً صادقاً بأنه قد مات. يكبت عواطفه، لا يحب أن يشوه فرحة اللقاء. وفي حلب يبلغونه بالحقيقة، لقد مات والده منذ أيام قليلة.
يقرر السفر مباشرة إلى القرية، لا بد من زيارة قبر ذلك الرجل الذي حَلُم آلاف المرات بضمه إلى صدره، بتقبيله، بالاستسلام لذراعيه الحانيتين، الرجل الوحيد الذي يحوله إلى طفل صغير.
دخل مقبرة القرية مع مجموعة من إخوته وأصدقائه، وعند القبر توقفوا. كان القبر يتوسط قبور أعمامه السبعة. وفي لجة دموعه الغزيرة الحارقة وأشواقه المكلومة، داهمته رغبة ملحة بتقبيل تراب القبر الذي مازال رطباً. وفي هذه اللحظة قال له أحد إخوته محاولاً أن يكسر الصمت الثقيل الذي خيم على الجميع: لقد دفن والدك في قبر جدك، الغريب أن الرفاة التي وجدناها في القبر كانت كثيرة جداً، يحتمل أن يكون جد جدك كان مدفوناً هنا أيضاً. عندئذ انحنى على قبر والده بخشوع وملأ قبضة يده من التراب ثم قبله بشفتين مرتجفتين وهو يقول:
أرجوكم خذوني إلى قبر أحمد تراب الوطن. لم يعرف أحد من هو ذلك الشخص، إلا أن أحد الحاضرين خمن بفطنة من هو المقصود فانبرى قائلاً:
-قبر أحمد العامري خلفك.
استدار، فإذا به أمام شاهدة قبر أحمد. لقد أدرك الآن معنى تراب الوطن، ثم همس: رحم الله أحمد تراب الوطن، وبارك الله في تراب الوطن.