قدم خالد بن صفوان بن الأهتم (1) على الخليفة هشام بن عبد الملك في وفد العراق ، وقد خرج الخليفة مبتدئاً بقرابته وأهله وحشمه وغاشيته (2) من جلسائه ، فنزل بأرضِ قاعٍ صحصحٍ متنائفٍ أفيح(3) ، وفي عامٍ قد بكّر وسميّه وتتابع وليُّه (4) وأخذت الأرض فيه زينتها من اختلاف أنوار نبتها (5) ، من نَوْر ربيع مونق ، فهو أحسن منظراً ، وأحسن مختبراً ، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور ، لو أن قطعة أُلقِيَت فيه لم تتْرب ، وقد ضرب له سرادق من كتان مخطط صنع في اليمن فيه فسطاط ( بيت من شعر ) فيه أربعة أفرشة من خز أحمر مثلها مَرافقُها ، وعليه دُرّاعة (6) من خز أحمر مثْلها عمامتها . وقد أخذ الناس مجالسهم ، فأخرجت رأسي من ناحية السماط (7) . فنظر إليّ شبه المستنطق لي .
فقلتُ : تمم الله عليك يا أمير المؤمنين نعمه، وسوّغها بشكره ، وجعل ما قلّدك من هذا الأمر رشَداً ، وعاقبة ما تؤول ليه حمداً ، أخْلصه لك بالتقى ، وكثّره لك بالنماء ، لا كدر عليك منه ما صفا ، ولا خالط مسرورَه الردى ، فقد أصبحْت للمسلمين ثقةً ومستراحاً ، إليك يقصدون في أمورهم ، وإليك يفزعون في مظالمهم . وما أجد يا أمير المؤمنين – جعلني الله فداءك – شيئاً هو أبلغ في قضاء حقك وتوقير مجلسك مما منّ الله به عليّ من مجالستك والنظر إلى وجهك ، من أن أُذكّرك نعمَ الله عليك، وأنبهك لشكرها . وما أجد يا أمير المؤمنين شيئاً هو أبلغ من حديث مَن سلف من الملوك ، فإن أذن لي أمير المؤمنين أخبرتُه عنه .
قال : فاستوى جالساً – وكان متكئاً – ثم قال : هاتِ يا ابن الأهتم .
قلت : يا أمير المؤمنين ، إن ملكاً من الملوك قبلك خرج في عام مثل عامنا هذا إلى الخَوَرنق والسدير في عام قد بكّر وسميّه ، وتتابع وليُّه ، وأخذت الأرض زينتها من ربيع مونق ، فهو في أحسن منظر ، وأحسن مستنظر ، وأحسن مختبر ، بصعيد كأنه ترابه قطع الكافور ، حتى لو أن قطعة ألقيت فيه لم تَتْرب ، وكان قد أُعطي فتاء السنّ (8) ، مع الكثرة والغَلَبة والقهر ، فنظر الملك، فأَبعد النظر، فقال لجلسائه : لمن هذا ؟ هل رأيتم مثل ما أنا فيه ؟ هل رأيتم مثل ما أُعطيت ؟! وكان عنده رجل من أهل الفِطنة والنباهة ذو أدب حق ومنهاج سليم – ولن تخلوَ الأرض من مثل هؤلاء- . فقال : أيها الملك ! اعلم أنك قد سألت عن أمر ، أفتأذن بالجواب عنه؟
قال : نعم .
قال : أرأيتَ ما أنت عليه ، أشيء لم تزل فيه أم شيء صار إليك ميراثاً من غيرك ، وهو زائل عنك ، وصائر إلى غيرك كما صار إليك ميراثاً من لدن غيرك ؟! .
قال : فكذلك هو .
قال الرجل الحكيم الناصح : أراك أُعجبت َ بشيء يسيرٍ تكون فيه قليلاً وتغيب عنه طويلاً ، وتكون غداً بحسابه مرتهِناً . قال : ويحك ، فأين منه المهرب ؟ وأين المطلب؟ .
قال : إما أن تقيم في ملكك تعمل فيه بطاعة ربك على ما ساءك وسرك ، ومضّك وأرمضك (9) وإما أن تضع تاجك ، وتلبس أطمارك وأمساحك (10) وتعبد ربك في هذا الجبل حتى يأتيك أجلك . قال : فإذا كان بالسحَر فاقرع عليّ بابي ، فإني مختارٌ أحد الرأيين ، فإن اخترتُ ما أنا فيه كنتَ وزيراً لا تُعصى ، وإن اخترتُ فلضواتِ الأرض وقفرَ البلاد ، كنتَ رفيقاً لا تُخالَف .
قال : فقرع عليه بابَه عند السحَر ، فإذا هو قد وضع تاجَه ، ولبس أطماره وأمساحه ، وتهيّأ للسياحه.
فلزما – والله- الجبل أتتهما آجالُهما .
يقول الشاعر علي بن سالم العدويّ (11) فيه وفي غيره :
أيهـا الشـامتُ المعـيـَّر بـالـدهـ --- ر ،أنت المـبـرّأ المـوفـورُ؟
أم لـديـك العهـدُ الوثيـق من الـ --- أيام ، أم أنت جاهل مغرورُ؟
مَن رأيتَ المنونَ خلـّدْنَ أم مَن ذا لديه من أن يُضام خفـيـرُ
أين كسرى ،كسرى الملوك أبو سا --- سان، أم أيـن قـبـلَـه سابـورُ؟
وبنو الأصفر الكرامُ ملوكُ الرّ --- وم ، لـم يبـقَ منهـمُ مذكـورُ
وأخو الحَضر إذ بناه ، وإذ دِجـ --- لـة تُجبـى إلـيـه والختابـورُ ؟(12)
شــاده مـرمـراً وجـلّـلـَه كِـلـ --- ساً ، فللطير في ذُراه وُكـورُ
لم يهبه ريبُ المنون فبـاد الـ --- مُلـْك عنـه ، فبابـُه مهجـورُ
وتذكّـرْ ربَّ الخورنـق إذ أشـ --- رف يومـاً وللهـدى تفـكـيـرُ
سـرّه مـالـُـه وكـثـرةُ مـا يـمـ --- لك والبحر معرِض والسديرُ (13)
فارعوى قلبُه ، وقال : ما غِبـ --- طةُ حيٍّ إلى الممـات يصـيرُ؟!
ثم أضحَوْا كأنهـم ورقٌ جـفّ --- فـألـْوَت بـه الصَّبـا والدّبـورُ
ثم بعـد الفلاح والملك والإمّـ --- ـة وارتهـُمُ هـنـاك الـقـبــورُ (14)
قال : الأهتم : فبكى والله هشامٌ حتى أخضَل لحيتَه ، وبلّ عمامته ، وأمر بنزع أبنيته ، وبانتقال أهله وحشمه وغاشيته من جُلسائه ، ولزم قصره .
فأقبلت الحاشية على خالد بن صفوان بن الأهتم ، فقالوا : ما أردْتَ إلى أمير المؤمنين ؟! أفسدتَ عليه لذّتَه ، ونغّصتَ عليه باديته .
قال : إليكم عني ، فإني عاهدتُ الله تعالى عهداً أن لا أخلَ بملك إلا ذكّرتُه اللهَ عزّ وجلّ .
-----------------
1- من فصحاء العرب المشهورين ، كان يجالس عمر بن عبد العزيز ، وهشام بن عبد الملك . وله معهما أخبار . ولد ونشأ بالبصرة . ولم يتزوّج . عاش إلى أن أدرك خلافة العباس السفـّاح العباسي ، وحظي عنده . توفي نحو 133 للهجرة .
2- غاشيته: زواره وأصدقاؤه الذين لا يتركونه.
3- القاع : الأرض المستوية يحيط بها الجبال والآكام ، وتنصب إليها مياه الأمطار ، فتمسكها ثم تنبت العشب ....
الصحصح: الأرض الجرداء المستوية ذات حصى صغار .
متنائف : مرتفع ، أو مشرف على غيره . أفيح : واسع .
4- الوسميّ :مطر الربيع الأول .
الوليّ : المطر يسقط بعد المطر .
5- الأنوار : جمع نَوْر : الزهر الأبيض .
6- الدُرّاعة : ثوب من الصوف ، وهو كذلك : الجبة المشقوقة المقدّم .
7- السماط : الصف أو الجانب .
8- فتاء السن : الفتوّة والشباب .
9- مضّه : آلمه وشق عليه . أرمضه : أوجعه.
10 – الأطمار : جمع طِمر : الثوب البالي الخلَق .
الأمساح : جمع مسح : الكساء من الشعر يلبسه الزاهد .
11- علي بن سالم العدوي : شاعر من دها الشعراء الجاهليين ، من أهل الحيرة ، يحسن العربية والفارسية ، جعله كسرى ترجماناً بينه وبين العرب . تزوج هند بنت النعمان بن المنذر ، ثم أوغر آخرون صدر النعمان عليه ، فسجنه ثم قتله عام 35 قبل الهجرة .
12- الخابور نهر في الجزيرة الشامية ، يصب في الفرات ،
الحَضر : مدينة عراقية قرب تكريت .
13- البحر مُعرِض : متسع عريض .
14- الإمَة: النعمة .