بسم الله الرحمن الرحيم
وجوب الاعتصام بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
والتحذير مما يخالفهما
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وصفوته من خلقه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد ابن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، كما قال سبحانه في سورتي التوبة والصف: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ وقال في سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا قال علماء التفسير رحمهم الله: الهدى: هو ما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من العلوم النافعة، والأخبار الصادقة، ودين الحق هو ما بعثه الله به من الأعمال الصالحة، والأحكام العادلة،
وقد بين الله سبحانه أن الإيمان بما بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والعمل بذلك، هو الصراط المستقيم الذي من سار عليه، واستقام عليه، وصل إلى شاطئ السلامة، وفاز بالجنة والكرامة، ومن حاد عنه واتبع هواه، باء بالصفقة الخاسرة، وسوء المصير، وقد أمر الله عز وجل جميع العباد باتباع الصراط المستقيم، ونهاهم عن اتباع السبل التي تفضي بهم إلى صراط الجحيم، فقال عز وجل في سورة الأنعام: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وأشار بقوله وأن هذا، إلى ما سبق أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على الناس، ويبينه لهم، ليعقلوا ويتذكروا، وذلك في قوله سبحانه:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
ثم قال سبحانه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ الآية. فبين عز وجل بهذا: أن امتثال هذه الأوامر والنواهي، هو الصراط المستقيم الذي أمر باتباعه، وبدأها سبحانه بالتحذير من الشرك وبيان تحريمه على الأمة، وذلك لأنه أعظم الذنوب وأشهر الجرائم، ولأن ضده وهو التوحيد هو أعظم الفرائض وأهم الواجبات، وذلك هو أساس الملة. وقاعدة الصراط المستقيم، وهو الذي بعث الله به جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب، وخلق من أجله الثقلين، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ
وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقد أمر الله عباده بذلك في مواضع كثيرة من كتابه، وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وقال عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وأرشد عباده في سورة الفاتحة، أن يقروا بذلك لله سبحانه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال معاذ قلت الله ورسوله أعلم فقال صلى الله عليه وسلم حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا الحديث وقال صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار خرجه البخاري في صحيحه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله، وتثبتها بحق لله وحده، كما قال الله سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ
ثم ذكر سبحانه حق الوالدين، وهو الإحسان إليهما وعدم عقوقهما، ثم نهى عن قتل الأولاد من أجل الإملاق، وهو الفقر وأخبر أنه سبحانه هو الذي يرزق الوالدين والأولاد.
وكان من عادة بعض أهل الجاهلية قتل أولادهم خشية الفقر، فنهى عباده عن فعل ذلك، لما فيه من الظلم والعدوان وسوء الظن بالله عز وجل، ثم نهى عن قربان الفواحش ظاهرها وباطنها، وهي المعاصي كلهـا، ثم خص من ذلك قتل النفس بغير حق لعظم هذه الجريمة، وسوء عاقبتها أكثر من غيرها من المعاصي التي دون الشرك، ثم نهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، حتى يبلغ أشده، وذلك حين يبلغ ويرشد، ثم أمر بالوفاء بالكيل والميزان بالقسط وهو العدل، لما في بخس المكيال والميزان من الظلم والعدوان، وأكل المال بالباطل، ثم أمر بالعدل في القول بعد ما أمر بالعدل في الفعل، فقال سبحانه: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى والمعنى:
أن العدل في جميع الأقوال والأفعال مع القريب والبعيد، والحبيب والبغيض، طاعة لله سبحانه، وتنفيذ لحكمه، وضده: هو الظلم في القول والعمل، ثم أمر عباده سبحانه بالوفاء بعهده الذي عهد إليهم في كتابه المبين، وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وذلك يشمل جميع ما شرعه لعباده من الفرائض، والأحكام والأقوال والأعمال، وما نهاهم عنه سبحانه، كما نص على ذلك أئمة التفسير، ثم قال عز وجل بعد ذلك: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فعلم بهذا: أن صراطه سبحانه هو العمل بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والإيمان بكل ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من العلوم النافعة، والأخبار الصادقة، والشرائع والأحكام، ظاهرا وباطنا، خلافا لأهل النفاق،
وقد أرشد سبحانه عباده في سورة الفاتحة، إلى أن يسألوه الهداية إلى هذا الصراط لشدة ضرورتهم إلى ذلك، وبين سبحانه أنه هو طريق المنعم عليهم، المذكورين في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا
وقد دلت الأحاديث المرفوعة، والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، على أن السبل التي نهى الله عن اتباعها، هي البدع والشبهات والشهوات المحرمة، والمذاهب والنحل المنحرفة عن الحق، وسائر الأديان الباطلة، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي بإسناد صحيح، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيما وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
ومما يحسن التنبيه عليه: أنه عز وجل ذكر في ختام الآية الأولى من الآيات الثلاث المذكورة آنفا: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وفي ختام الآية الثانية: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . وفي ختام الآية الثالثة: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قال بعض علماء التفسير، الحكمة في ذلك والله أعلم، أن من تدبر كتاب الله عز وجل، وأكثر من تلاوته، حصل له التعقل للأوامر والنواهي، والتذكر لما تشتمل عليه من المصالح العظيمة، والعواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، وبذلك ينتقل إلى التقوى: وهي فعل الأوامر وترك النواهي، اتقاء لغضب الله وعقابه، ورغبة في مغفرته ورحمته والفوز بكرامته، وهذا معنى عظيم، وذلك من أسرار كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لكونه تنزيلا من حكيم حميد، لا تخفى عليه خافية، ولا يعجزه شيء، وهو العالم بأحوال عباده ومصالحهم، لا إله غيره ولا رب سواه، وقد أخبر سبحانه أنما أوحى الله به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، هو روح تحصل به الحياة الطيبة، ونور تحصل به البصيرة والهداية، كما أخبر أن رسوله الكريم يهدي إلى صراطه المستقيم، الذي أوضحه في الآيات الثلاث التي ذكرنا آنفا، وذلك في قوله عز وجل في سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ
فأوضح سبحانه أن الوحي الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، روح تحصل به الحياة الطيبة، السعيدة الحميدة، ونور تحصل به الهداية والبصيرة، كما قال عز وجل في سورة الأنعام: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا الآية.
فأخبر سبحانه أن الكافر ميت منغمس في الظلمات، لا خروج له منها إلا إذا أحياه الله بالإسلام والعلم النافع، وقال عز وجل في سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ الآية فأخبر سبحانه أن الاستجابة لله وللرسول هي الحياة، وأن من لم يستجب لله وللرسول فهو ميت مع الأموات .