حفل القرآن والسنة بالأدلة على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل، والأدلة كثيرة، نذكر منها قول الله تعالى: )ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ([سورة آل عمران: 104].
ومنها قوله تعالى: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ([سورة النحل: 125].
ومنها قوله تعالى: )قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ([سورة يوسف: 108].
وصرح العلماء أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية[3]، وكل بلد يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها فالدعوة فيه فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين ذلك الغرض، وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة وعملاً صالحاً وعند قلة الدعاة وكثرة المنكرات وغلبة الجهل ـ كما هو الحال الآن في كثيرٍ من البلاد الإسلامية وغير الإسلامية ـ تكون الدعوة الإسلامية فرض عين على كل مسلم ومسلمة، كل بحسب طاقته....
أهمية الدعوة الإسلامية:
لم تبق الدعوة الإسلامية خدمة للإسلام عقيدة وشريعة فحسب، بل أصبحت ضرورة سياسية دفاعاً عن العرب والمسلمين، ومصاولة لأعدائهم الكثيرون، ونشراً للغة القرآن الكريم، كما أنها أصبحت ضرورة اجتماعية وضرورة ثقافية[4].... إنه لا إسلام في أفريقيا بعد عشرين عاماً إذا ما يُحارب المبشرون ( يعني: المنصَّرون ) بأساليبهم وتكون الدعوة للإسلام جداً لا هزل فيه، ويكون الدعاة في مستوى المسؤولية، لهم قضية يؤمنون بها ويدافعون عنها، فهم عناصر ( دعوة ) لا عناصر ( دعاية ) وارتزاق[5].
إن رفع الناس أولاً إلى مستوى الوحي ( أعني مستوى الفهم والتنفيذ ) جهد هائل لا يقدر عليه إلا الأقلون، وأجدني محزوناً لأن قدرات المسلمين المادية والأدبية دون مستوى كتابهم بمراحل... يقولأبو حامد الغزالي: إن العقل لا يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، ولن يغني أساس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أساس )... إذاً يستحيل أن يصدم عقل صحيح بنقل صحيح[6]، من أجل ذلك شعرت بالانكسار والهزيمة عندما رافقت الصحوة الإسلامية المعاصرة ورأيت انفصالاً بين القدرات العلمية الذكية وبين النشطة الدينية الدؤوبة[7]....
يوضح النص القرآني الذي يقول الله فيه آمراً رسوله وأتباعه: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ([سورة النحل: 125].
فوسائل الدعوة إلى الله، هي:
( أ) الحكمة.
( ب ) الموعظة الحسنة.
( جـ ) المجادلة بالتي هي أحسن.
في التفسير الكبير للفخر الرازي[8]يوضح الحكمة بأربعة معانٍ:
( 1) مواعظ القرآن، كقول الله سبحانه: )واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ([سورة البقرة: 231].
( 2 ) الفهم والعلم، كقول الله سبحانه: )ولقد آتينا لقمان الحكمة ([سورة لقمان: 12].
( 3 ) النبوة، كقول الله سبحانه: )فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ([سورة النساء: 54].
( 4 ) القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، كقول الله سبحانه: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة([سورة النحل: 125].
تنوع وسائل الدعوة:
تختلف وسائل الدعوة باختلاف الناس، ولذلك جعل الله للدعوة مراتب بحسب مراتب الخلق، فيرى أبو حامد الغزالي أن الأذكياء يخاطبون بالبرهان، والعوام يخاطبون بالخطابة، لأنهم لا يفقهون البرهان، أما المعاندون في الاعتقاد ( أي: العقيدة ) فيخاطبون بالجدل لأن الموعظة لا تنفع معهم[9].... ولكن ابن القيم يرى غير هذا، إذ يرى أن المستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يُدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والمعاند الجاحد لا يجادل بالتي هي أحسن[10].
إذن فالحكمة التي أمر الله الرسول وأتباعه من العلماء هي في أبرز معانيها الدعوة إلى الله من خلال دلائل قدرته وعلامات عظمته في خلق الكائنات وأسرار المخلوقات، وكذلك ما انطوت عليه آيات القرآن من أسرار يأذن الله سبحانه بانبلاجها على أيدي من يريد من عباده العلماء المخلصين... وخلاصة القول: إن الداعية إلى الله لا بد من تسلحه بالعُدّة الكافية، وأهمها الثقافة الواسعة، والعميقة، ومن أهم جوانبها ثقافته أو علمه بمسائل العلوم الفلكية والمدنية والطبيعية والجغرافية والطبيعة وغيرها ن علوم الكون ـ كما يقول ابن خلدون ـ لأن الثقافة الدينية والإنسانية والكونية هي عدة الداعية وسلاحه الفعال في الدعوة الإسلامية[11].
إن الطريق إلى سيادة الحق ( في مجال العقيدة ) إنما يبدأ حسب التوجيه القرآني بالتأمل في الواقع المحسوس ضمن المخلوقات الإلهية التي تتجلى فيها حكمة الصانع الحكيم العليم، وهو ما أكدت عليه جملة كثيرة من الآيات، مثل قول الله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ([سورة العنكبوت: 20].أو بالتأمل في الواقع المحسوس من آثار الأمم السابقة ورسومها، تلك التي تدل على سوء العاقبة بالنسبة لأولئك الذين رفضوا الحق في عقيدتهم وأقاموها على باطل الشرك، وهو ما أكدت عليه جملة أخرى من الآيات، مثل قول الله تعالى: )فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ([سورة آل عمران: 137] [12].
الآيات الكونية في القرآن وتوظيفها في الدعوة:
يتضح من النظر والتدبر في الآيات القرآنية التي وردت بها الإشارات العلمية أنها تختم بهذه الجمل الهادفة: )فبأي حديث بعده يؤمنون ([سورة العراف: 185].
)لعلكم بلقاء ربكم توقنون ([سورة الرعد: 2].
)لآيات لقوم يتفكرون ([سورة الروم: 21].
)لآية لقوم يعقلون ([سورة النحل: 67]...
فهذه الجمل القصيرة توضح أهداف الإشارات العلمية القرآنية، وأن الحقيقة العلمية التي تشير إليها الآية ليست مقصورة لذاتها، ولكن لهدف أسمى هو الإيمان بالله ووحدانيته وقدرته، وبالدعوة الإسلامية ومبادئها وقواعدها، والتعقل في فهم وجود الإنسان في الكون، والتعمق في العلوم الكونية وتعقلها والتفكر فيها[13]....
ويمكن تقسيم أهداف الآيات القرآنية ذات الإشارات العلمية إلى مجموعتين[14]:
ـ الأولى: هي الأهداف الرئيسية والعامة، وتماثل تلك الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها الآيات الشرعية أو الدينية وهي:
( 1 ) الإيمان بأن للكون إلهاً واحداً خالقاً مبدعاً قادراً على كل شيء ( اقرأ النصوص القرآنية: آل عمران / 190، 191، الطارق / 5 ـ 7 ).
( 2 ) الرد على حجج وأباطيل المنكرين والملحدين والمشركين ( اقرأ: الحجر / 2 ـ 10 ).
( 3 ) توضيح النظرة الإسلامية للحياة والدنيا، وتوضيح معنى وجود الإنسان في الكون، وأن حياته مرحلة انتقالية لاختباره، لبعثه ومجازاته الجزاء الأوفى في الآخرة ( اقرأ النصوص القرآنية: البقرة / 28 ـ 30 ، المؤمنون / 15 ـ 17).
ـ الثانية: هي الأحداق الخاصة، وهي التي تركها الوحي الإلهي للآيات الكونية، وتتلخص في هدفين اثنين هما:
الأولى:تعلم العلوم الكونية والتعمق فيها، ومحاولة فهم كون وظواهر ومخلوقات الله، وذلك لأن الإشارات العلمية في القرآن الكريم لا تكتفي بدعوة الإنسان إلى التأمل في الكون واستخدام عقله لفهم الظواهر الكونية الواضحة ليستدل على وجود الخالق ووحدانيته وقدرته، والإيمان تبعاً لذلك بالرسالة الخاتمة.....
لكنها دعوة لجذب فئة من المسلمين للتخصص في العلوم الكونية والتعمق في الدراسات العلمية في كافة المجالات... وهذه الفئة من العلماء هي التي سيكون لها في مرحلة من مراحل الإسلام شرف حمل لواء الدعوة الإسلامية ومسؤولية نشرها.
إنها المرحلة التي تسيطر فيها المادة والثراء والقوة على بعض البشر، إنها المرحلة التي يهيء الله فيها هذا النفر من العلماء المسلمين الراسخين في علومهم لتوضيح مصداقية القرآن وتبيين سبقه العلمي، وإثبات ألوهية المصدر...
ويوضح الدكتور / عبد الله شحاته[15] الهدف الأساسي للإشارات العلمية الواردة في القرآن الكريم بأنه دعوة المسلم إلى بذل الجهد والعمل على التعمق في العلوم الدنيوية ليتحقق له الفهم والقوة اللازمة لأداء هيمنته في الكون المتمثلة في عبادة الله تعالى وخلافته في الأرض؛ فدراسة العلماء والباحثين لطبقات الأرض وصخورها وكنوزها ومحتوياتها، ولطبقات الفضاء والهواء، ومعرفة أسرار الكون ونظامه، امتثالاً لأمر الله وتلبية لرغبة القرآن الكريم في الحث على العلم والمعرفة.
الثاني:إظهار الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عصر العلم والتكنولوجيا، وهو هدف لم يكن ظاهراً عند نزول القرآن، إنه هدف مستقبلي كامن في القرآن على أن يشاء الله أمراً كان مفعولاً...
يقول الشيخ عبد المجيد الزنداني في بحث له[16]: هذه مناكب دعاة الإسلام على اختلاف تخصصاتهم العلمية تتزاحم لبيان هذه المعجزات العلمية.
وبدأ عدد من كبار علماء الكون من غير المسلمين يتجهون إلى الميدان نفسه، فمنهم من اسلم، ومن شهد بحقيقة المعجزة العلمية، فحان حين تجلّى معاني كثير من آيات القرآن الكونية: )لكل نبأٍ مستقر وسوف تعلمون ([سورة الأنعام: 67].
وإذا كان النقص يعتري بعض الدراسات في مجال الإعجاز العلمي في القرآن، فلا يصح أن يكون ذلك حكماً على جميعها، وإن هذا ليوجب على القادرين من علماء الإسلام أن يسارعوا لخدمة القرآن والسنة في مجال العلوم الكونية كما خدمها السلف في مجال اللغة والأصول والفقه وغيرها من مجالات العلوم الشرعية...
كما ناقش عدد من الدعاة والعلماء والباحثين أيضاً الأهداف المنشودة من الاستعانة بالعلوم الحديثة والكشوف العلمية المعاصرة في بيان جوانب علمية للآيات القرآنية لم تكن قد تبينت من قبل، وتوظيف هذا في إثبات صدق القرآن، وألوهية مصدره، وذلك في الدعوة إلى الإسلام بين غير المسلمين، ثم لتثبيت عقيدة المسلمين الذين بهرتهم تكنولوجيا العصر الحالي ولعبت بهم أمواج المذاهب الهدامة، سواء كانت واردة من منظمات تنصيرية أم أندية صهيونية ماسونية ( كالروتاري والليونز ) وغيرهما من الهيئات النشطة في مجال خلع المؤمنين عن إيمانهم، أو بالأدق خلع المسلمين عن إسلامهم...
وشرح عبد الله ناصح علوان[17]الجوانب الأساسية في ثقافة الداعية، وحصرها في ستة جوانب أساسية، جعل منها جانباً أساسياً هو ( الثقافة العلمية )، وبعد أن تكلم عن مقصوده بالثقافة العلمية، وذكر كيفيات استعمال الداعية هذه الثقافة وهذه المعارف العلمية في مجال الدعوة الإسلامية، فقرر بأن هذا يتم:
( 1 ) عن طريق العلم يضع الداعية النقاط على الحروف في الظواهر التي تدل على وجود الله لمواجهة الماديين والملاحدة، فيقيم الأدلة ويدحض الشبهات بواسطة فروع العلم المتنوعة، من رياضيات وفلك وفيزياء وكيمياء وأحياء وطب، وغيرها.
( 2 ) عن طريق العلم يستطيع أن يؤيد الداعية كثيراً من الأحكام الشرعية ببيان ما اشتملت عليه من جلب المصالح للناس ودرء المفاسد عنهم.. وبذلك يزداد الذين آمنوا إيماناً، ويثبت المرتابون إن حصل لهم شك في كمال الشريعة، وصلاحيتها للزمن... ولعل تحريم الخمور وأكل لحم الخنزير والزنا واللواط، من الأحكام الشرعية التي يشهد لها الطب الحديث بالعظمة والكمال.
( 3 ) وثمة مجال آخر يمكننا فيه استخدام حقائق العلم الحديث لتأييد حقائق الدين، وذلك بتعميق مدلولات بعض النصوص، وتوسيع نطاق مفهومها، وزيادة توضيحها، كآيات النحل والنمل والعنكبوت، والجراد والدواب والطير والفلك والأرصاد والجيولوجيا... الخ.
( 4 ) وهناك مجال يدخل العلم فيه ويصول ويجول، وهو بيان سبق القرآن الكريم لكثير من الحقائق التي كشف عنها العلم الحديث...
نال توفيق عز الدين درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عن أطروحته ( دليل الأنفس ... بين القرآن الكريم والعلم الحديث )، ثم طبعت كتاباً يتداوله الناس مند سنة 1986 [18]، وذكر المؤلف في تمهيده كلاماً يوضح به أهداف الدخول في مجال ما أسماه ( التفسير العلمي ) لآيات القرآن الخاصة بآفاق الكون وآفاق النفس، فقال:
( 1 ) أن يُستعان بأبحاث العلوم لمعرفة سبق القرآن الكريم في الإشارة إلى كشف علمي متأخر عن نزول القرآن.
( 2 ) أن يستعان بها لمعرفة أمثلة جديدة لما أشارت إليه الآيات، وغالباً تكون هذه الأمثلة الجديدة ( متعايشة ) مع الأمثلة التي يفهمها كل إنسان بقراءته للآية.
( 3 ) أن يؤتى بالنظريات العلمية لتحمل للآيات من غير مناسبة، أو لمناسبة ضعيفة.
( 4 ) أن يؤتي بالاكتشافات العلمية وتفتعل مناسبات تثبت أن القرآن الكريم سبق الإشارة إليها.
ثم نصح الباحث المسلمين عامة، والباحثين خاصة، بإتباع الهدفين الأولين، وحذرهم من السعي لتحقيق الهدفين الآخرين، حيث يكون للمؤلف ( أو الباحث ) رأي يعتقده فيتأول على القرآن ما يؤيد رأيه ذلك، ويسارع في حمل الآيات عليه، وهذا هدف فاسد ومذهب باطل في فهم القرآن، وإساءة إليه أكثر منها خدمة له.
والدكتور محمد شريفمن المهتمين بهذا الحقل الخصب في الدعوة الإسلامية، وقد نال درجة الدكتوراه من كلية دار العلوم جامعة القاهرة عن أطروحة قدمها في مناهج التجديد في تفسير القرآن، وقد طبعت هذه الرسالة ومعنا أحد أجزائها المنشورة [19]، ونوجز منه ما خلص المؤلف إليه فيما يلي:
( 1 ) الإعجاز العلمي للقرآن الكريم فتح جديد في مجال إقناع غير العرب وكافة الإنسانية كلها بالقرآن الكريم وإثبات أنه من عند الله، فإذا كان القرآن يخاطب كل الناس فإن الأعجميين أكثرهم، فلا بد أن يضاف إلى الإعجاز البياني والبلاغي واللغوي مجال آخر هو الإعجاز العلمي الذي يملك وسائل إقناع الناس الذين هم على غير دراية باللغة، وليس لهم باع كبير في فهم جوانب الإعجاز الأخرى، فلو اقتصرنا على أوجه الإعجاز اللغوي والبياني لقال غير العرب: هذا كتاب ما عهدنا نزوله، ولا نفهم أسلوبه، لا ندرك عباراته، ولا نقرأ ألفاظه، لأن هذا وذاك ليس من لغاتنا، فلا تلزمنا الحجة به...!! ومن هنا يأتي مجال الإعجاز العلمي في دعوة هؤلاء إلى صدق الكتاب والرسالة والحث على اعتناق الدعوة الإسلامية الرشيدة.
( 2 ) فيما يتعلق بالمسلمين تأتي ضرورة الكشف عن الإعجاز العلمي للقرآن الكريم كخطوة على طريق تجديد إيمان المسلمين به وحمايتهم من أخطار الغزوات الكفرية، وما أشد حاجة المسلمين اليوم إلى ذلك، فقد تكاثرت عليهم الشبهات ودخلت عليهم تعاليم غير إسلامية في الاجتماعيات والطبيعيات، إن كثيراً من مثقفي اليوم لا يدرون كثيراً من علم العربية مما يدرك به الإعجاز اللغوي والبياني، وهنا أيضاً يأتي دور الإعجاز العلمي في تجديد الإيمان وتثبيت قلوب الفتية والشباب عليه.
( 3 ) إذا كان القرآن الكريم هو حجة الله البالغة، وموضع الحجة القاهرة فيه هو إعجاز الخلق، فينبغي أن يكون إدراك إعجازه موقوفاً على بلغاء العرب ومن اقتفى أثرهم، فإن الإنسانية كلها مخاطبة به، ومطالبة بالتسليم له أنه كلام الله، ومع ذلك فلا بد أن يتضح هذا الإعجاز كله للإنسان، أعجمي وعربي، لتلزمه حجة الله إن هو أبى الإسلام، وهذا النوع من النظر والاعتبار يقود حتماً إلى أن إعجاز القرآن له نواح غير النواحي البلاغية واللغوية والتنبؤات التي كانت في ضمير الغيب حين نزول القرآن الكريم، ثم حققها الله على توالي الدهور وتعاقب الأيام.
( 4 ) إن نواحي الإعجاز الموجودة في الآفاق وفي الأنفس، وهي التي يشير إليها الله بقوله الكريم: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ([سورة فصلت: 53]. لهي مجال خصب وحقل بكر يجب على علماء المسلمين أن يشمروا على سواعدهم في الكشف عنها ودراستها وإظهارها للناس، وبالطبع لن يستطيع ذلك إلا من تزود وتخصص في العلوم الكونية والطبية والنفسية والمدنية.
كذلك الأمر بالنسبة لكل الظواهر الفلكية والجغرافية والجيولوجية والحياتية، وجوانب الإعجاز في منطق الطير والهوام والدواب.... ولن يستطيع المسلمون أو غيرهم أن يقفوا على جوانب الإعجاز فيها إلا بالاستعانة بالعلوم الحديثة ونتائج البحوث التجريبية.
ويوضح الدكتور / البوهي [20]أن هذا المنهج في الدعوة الإسلامية هو الأنسب لمخاطبة العقل الحديث، وإنه الدافع لأن يقود بعض العلماء على العمل به، لأنهم وجدوا أن الإنسان العصري يقتنع بأسلوب العقل لا بالأساليب الأخرى القديمة...
وعن ظروف ظهور النزعة العلمية في تفسير القرآن، أو كما نحب أن نصفها: القراءة العلمية للآيات الكونية بالقرآن، تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن[21]:...ومع الاستعمار الشرس في مطلع العصر الحديث أصاب العالم الإسلامي ما يشبه الدوار من جراء التفوق المادي للحضارة الغربية، ولم يفق من هذه الصدمة حتى أصابته عقدة الشعور بالنقص التي عمل الاستعمار جاهداً على ترسيخها فيه، فتصور البعض أنه لا شفاء منها إلا بالإنسلاخ عن جذور الأصالة الإسلامية والانتماء إلى الغرب المتفوق الظافر.
وفي الطرف المقابل كان فريق آخر يتشبث بكل مخلفات الماضي في رجعية ذاهلة عن سير الزمن وتحديات العصر.
ووجد كل فريق من الفريقين ما يرهف إحساسه بالعقدة في مخدرات الغزو الفكري...
الفريق الأول وجدوا حاجتهم فيما تسلط عليهم من إلحاح فكري وثقافي أقنعهم بأن الشريعة الإسلامية هي سر التخلف، وأن ميراثنا الروحي هو المسؤول عن جمودنا.
والفريق الثاني وجدوا في اجترار أمجاد الماضي ما يغني فاطمأنوا إلى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان...
ونقول أيضاً: إن تحديات العصر قومية حضارية هي التي جعلت بعض المفكرين يلحّون على تفسير القرآن تفسيراً علمياً لتحديد موقف الدين من العلم من ناحية، ولإشعار المسلمين بدورهم القيادي بهذا الكتاب من ناحية أخرى. وبقدر ما تقسو هذه التحديات تشتد الحاجة إلى تأمين هذا الموقع الفكري الخطير من حيث مسايرة الزمن ودفع التقدم وحتمية التطور. هذا إلى جانب أن المدرسة العقلية كانت في هذه الفترة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة، كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حُشيت بها كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعالم الحديث إلى ذروتها، وموجة الشك في مقولات الدين إلى قمتها، فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره، على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل.
حصل الدكتور أحمد أبو حجر[22]على درجة الدكتوراة عن أطروحة بعنوان ( التفسير العلمي للقرآن في الميزان )، وقد نُشرت كتاباً مجلداً في طبعته الأولى عام ( 1411هـ ـ 1991م)، وهو يقول في افتتاحية هذا الكتاب: لقد جاء التطور الفكري والتقدم العلمي بكثير من النظريات والحقائق العلمية التي لم تكن معروفة عند نزول القرآن وبعده بأجيال، وقد قام فريق من أولي العلم والثقافة بدراسة آيات القرآن المتعلقة بالكون والحياة قديماً وحديثاً، محاولين أن يجدوا من خلال دراستهم هذه ما يشير إلى ما جدّ من مكتشفات، وإلى استخراج العلوم المختلفة من القرآن الكريم، لأن القرآن ليس خاصاً بجيل من الأجيال، ومن حق كل جيل أن يفهم منه ما يصل إليه ببحثه العلمي استنباطاً أو قياساً.
وكان من الطبيعي أن ترد العلوم في القرآن في قالب أصول وكليات، لأن العلم متطور، وحقائقه تختلف وتجدد كلما خطت العلوم خطوة في ميدان الدرس والتجربة والاكتشاف، فيبقى القرآن بأصول علمه مصداقاً دائماً لكل جديد يظهر في كل عصر من العصور، وذلك سر إعجازه وخلوده، فيكون العلم على الدوام في خدمة الآيات العلمية والكونية في القرآن، وكشف في الماضي عن بعضها وسيكشف الباقي منها كلما تقدمت العلوم، ويكون القرآن العظيم موافقاً على الدوام للعلم الصحيح لا يناقضه بل يدعمه ويشجع على التجربة، لا يجافي العقل بل يرعاه ويحثه على التفكير والتفكر في ملكوت الله والاستفادة منه...
وفي الفصل الأول من الباب الرابع، يلخص الدكتور أبو حجر[23]رواج ـ أو أهمية ـ (التفسير العلمي ) في العصر الحديث، في النقاط التالية:
1ـ ليس هناك ما يدفع هذا الخطر المحدث بإيمان المثقفين ثقافة غير إسلامية من شباب الإسلام إلا أن يؤكد لهم من جديد أن القرآن هو ـ حقاً ـ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يمكن عقلاً أن يكون من عند محمد، كما يزعم لهم الغرب على ألسنة مستشرقيه. وإثبات أن القرآن هو حقاً كتاب الله عن طريق الإعجاز البياني والبلاغي لم يعد ـ كما يقولون ـ يكفي اليوم لإقناع المثقف المتشكك وليس ذلك فقط لأن مثقف اليوم لا يدري من علم العربية وذوقها ما يدرك به هذا الإعجاز، ولكن أيضاً لأن الإعجاز العلمي في القرآن طريق حسن في هذا العصر العلمي[24].
2ـ زيادة تلاقي القرآن الكريم مع حقائق العلم المقررة بعد الاكتشافات الحديثة، فلقد ثبت بهذا: أن القرآن الكريم قد أشار مجملاً أو مفصلاً في مناسبات مختلفة إلى مجموعة من الحقائق العلمية التي لا تقبل الجدل، والنتيجة الطبيعية لهذا التلاقي هي نمو حركة التفسير العلمي كلما حقق العلم جديداً فأثبت ما أشار إليه القرآن منذ مئات السنين[25].
3ـ إحساس المفسر في العصر الحديث بتقدير كبير لنتائج العلم الذي سيطر على كل شيء في حياة الإنسان مما جعله يصادف إعجاباً بالغاً. لذلك فإننا نغتبط كثيراً حين يحقق العلم توافقاً ما بينه وبين أخلد ما ندين به، أعني القرآن الكريم، لأن هذا التوافق يخلص البعض من المفكرين من أزمة الإحساس بالتخلف التي تؤرقه[26].
وعموماً: فإنه لما كان من قضاء الله وقدره أن يتطور العقل إلى آفاق لا تدور بخلد بشر، ولما علم الله سبحانه أن الكلمة... ما لم تتدخل السماء ت ستؤول إلى العلم... اختلفت وسيلة الدعوة عنها فيما سبق، فاكتنز الكتاب العزيز في طياته من العلوم والمعارف ما يكون معجزة للناس في كل مرحلة قطعت البشرية فيها شوطاً من المعرفة سواء في السياسة، أم في العلوم الكونية، أم في الاجتماع، أم في الاقتصاد، أم فيما شاء الله.. وقد شهدنا بأعيننا ولمسنا بأنفسنا كيف يدخل فطاحلة علماء العصر الحديث في الإسلام، لا يقودهم إلى ذلك إلا إعجاز القرآن الكريم:
)سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ([سورة فصلت: 53] [27].
وللشيخ عبد المجيد الزندانيبحث عظيم حول استخدام أوجه الإعجاز العلمي للقرآن والسنة كوسيلة حديثة للدعوة الإسلامية[28]، نوجزه في النقاط التالية:
( 1 ) التوافق الدقيق بين ما في نصوص الكتاب والسنة، وبين ما كشفه علماء الكون من حقائق كونية، وأسرار علمية، لم يكن في إمكان بشر أن يعرفها وقت نزول القرآن.
( 2 ) تصحيح الكتاب والسنة لما شاع بين البشرية في أجيالها المختلفة من أفكار باطلة حول أسرار الخلق ( كما كان شائعاً مثلاً بين علماء التشريح من أن الجنين يتولد من دم الحيض في المرأة، وقد استمر هذا الاعتقاد حتى القرن السادس عشر الميلادي )، لا يكون إلا بعلم من أحاط بكل شيء علماً.
( 3 ) إذا جمعت نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، وجد بعضها يكمل البعض الآخر، فتنجلي بها الحقيقة. مع أن هذه النصوص قد نزلت مفرقة في الزمن، وفي مواضعها من الكتاب الكريم، وهذا لا يكون إلا من عند الله، الذي يعلم السر في السماوات والأرض.
( 4 ) سن التشريعات الحكيمة، التي قد تخفى حكمتها على الناس وقت نزول القرآن، وتكشفها أبحاث العلماء في شتى المجالات ( مثلما كشفه العلم الحديث من حِكَم في تحريم أكل لحم الخنزير ).
( 5 ) عدم الصدام بين نصوص الوحي القاطعة، التي تصف الكون وأسراره.. على كثرتها ـ وبين الحقائق العلمية المكتشفة ـ على وفرتها ـ.
هذا مع وجود صدام كثير بين ما يقول به علماء الكون فيما يقولون به من نظريات تتبدل مع تقدم الاكتشافات، ووجود الصدام أيضاً بين العلم وما قررته كتب سائر الأديان المحرفة.
وختاماً: فإن المعجزة العلمية القرآنية تبين بالأدلة الدامغة وجود الخالق، وتؤكد على أن القرآن الكريم هو كلامه، وهكذا يمكن لنا أن ندحض جدل المجادلين ونسفّه المشككين في القرآن، والإسلام عموماً، كما نستطيع أن نرتقي بالمسلم من الإيمان الفطري الموروث إلى يقين الإيمان القائم على العلم، الإيمان الحق الذي يتحقق بالقراءة العلمية لآيات الله القرآنية، ودراسة آيات الله الكونية، فيرتقي بذلك من المستوى الوجداني إلى اليقين العلمي، فلقد أكد العلماء أنه لا إيمان صحيح بدون حجة قاطعة، وهي البراهين العلمية القرآنية.
يقول الله عز وجل: )ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ([سورة سبأ: 6].
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ( وهل ينفع القرآن إلا بالعلم )؟.
[1]– محاضرة ألقيت في ندوة الجمعية بالتعاون مع جامعة جنوب الوادي مدينة قنا سنة 1995م.
[2]– أستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر بالقاهرة، وعضو اتحاد كتاب مصر، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والأمين العام لجمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة بمصر.
[3]– ابن باز عبد العزيز بن عبد الله : فضل الدعوة إلى الله وحكمها وأخلاق القائمين بها. مجلة المنهل ـ جدة _449 1407هـ / 1986.
[4]– خطاب لواء ركن / محمود شيت: أهمية الدعوة. مجلة المنها ـ جدة 449 1407هـ / 1986م.
[5]– خطاب لواء ركن / محمود شيت: مرجع سابق.
[6]– الغزالي محمد : هل يرتفع المسلمون إلى مستوى دينهم. مجلة المنها ـ جدة 449 1407 هـ / 1986م.
[7]– الغزالي محمد: نفس المرجع.
[8]– الرازي فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين القرشي : التفسير الكبير. دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، بدون تاريخ.
[9]– نقله عنه: عبد المحسن عبد الرحمن محمد : نظرات في الدعوة الإسلامية. مجلة ألمة ـ قطر ـ عدد ذي الحجة 1406هـ .
[10]– عبد المحسن عبد الرحمن محمد : نفس المرجع.
[11]– رابح د/ عبد المجيد : الدعوة إلى الإسلام. مجلة الأمة ـ قطر ـ عدد ذي الحجة 1406هـ.
[12]– النجار د/ عبد المجيد : دور الفكر الواقعي في النهضة الإسلامية. بحوث اللقاء الخامس لمنظمة الندوة العالمية للشباب الإسلامي. نيروبي / كينيا، 1402هـ / 1982م.
[13]– إبراهيم مدحت حافظ : الإشارات العلمية في القرآن الكريم. مكتبة غريب بالقاهرة، ط1، 1993م.
[14]– إبراهيم مدحت حافظ : نفس المرجع.
[15]– شحاته د/ عبد الله : تفسير الآيات الكونية. دار الاعتصام بالقاهرة، ط1، 1980م.
[16]– الزنداني عبد المجيد بن عزيز : المعجزة العلمية في القرآن والسنة. المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة. إسلام آباد / باكستان، 1407هـ / 1987م.
[17]– علوان عبد الله ناصح : ثقافة الداعية. دار السلام بالقاهرة، ط2، 1406هـ / 1986م.
[18]– عز الدين توفيق : دليل الأنفس... بين القرآن الكريم والعلم الحديث. دار السلام بالقاهرة، ط1، 1407هـ / 1986م.
[19]– شريف د/ محمد إبراهيم : هداية القرآن في الآفاق والأنفس. بدون جهة نشر. ط -، 1986م.
[20]– البوهي د / كامل : تحقيق صحافي بمجلة المسلمون 1 1402هـ / 1981م.
[21]– عبد الرحمن د/ عائشة : القرآن وقضايا الإنسان. دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1982م.
[22]– أبو حجر د / أحمد عمر : التفسير العلمي للقرآن في الميزان. دار قتيبة، ط1، 1411هـ / 1991م.
[23]– أبو حجر أحمد عمر : المرجع السابق.
[24]– الغمراوي د / محمد أحمد : الإسلام في عصر العلم. مكتبة دار الإنسان بالقاهرة، ط1، 1973م.
[25]– الشرقاوي عفت : اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث. مطبعة الكيلاني بالقاهرة، ط1، 1972م.
[26]– الشرقاوي عفت : نفس المرجع.
[27]– يماني د / محمد عبده : الدعوة في العصر الحاضر وتطور نظمها وأساليبها. مجلة المنهل 449 1407هـ / 1986م.
[28]– الزنداني الشيخ عبد المجيد بن عزيز : مرجع سابق