حدثناكم في مقال سابق عن الهدي العلمي النبوي في العلم والعلماء، وعلمنا أن الإسلام دين العلم, وأن أسلافنا فقهوا ذلك, فكانوا أساتذة العالم وقادته في أيامهم وملأت مؤلفاتهم مكتبات الدنيا ومصادر تعلمها فكتبوا في الطب والنبات والحيوان والكيمياء والفيزياء والفلك والأدب والفلسفة والمنطق والتاريخ والجغرافيا وعلم النفس والتربية والرياضيات وغيرها من العلوم والفنون، وكان الواحد منهم موسوعة تسير على قدمين، فهذا أبو حاتم السجستاني من مؤلفاته: كتاب الطير وكتاب النخل, وكتاب النبات, وكتاب السيوف والرماح, وكتاب الدروع والترس وكتب المذكر والمؤنث, والمقصور والممدود, وكتاب الفصاحة وغيرها من الكتب التي تزيد على عشرين كتابا.
ومن مؤلفات الحسن بن الهيثم كتاب المناظر المطبوع في اكثر من 780 صفحة وله مقالات في ضوء القمر ورؤية الكواكب والأظلال والكسوف.
وللدميري كتاب حياة الحيوان الكبرى, المطبوع في مجلدين ضخمين كتبه عندما اختلف بعض الطلاب في نوع الحيوان والكتاب موسوعة في وصف الحيوان وفؤائده وسلوكه.
وللجاحظ كتاب الحيوان ولابن البيطار كتاب الجامع لمفردات الأدوية والعقاقير ولابن سينا كتاب الطب, وللدينوري كتاب النبات, وللغزالي كتاب إحياء علوم الدين ولابن القيم كتب: زاد المعاد, والروح, والصارم, المسلول ومئات من الكتب المتداولة بين أيدينا ولابن تيمية موسوعات وللبخاري صحيحه ولمسلم صحيحه والموطأ لمالك ولو عددنا علماء المسلمين ومخطوطاتهم ما انتهينا من ذكر أسماء تلك المؤلفات.
فما السبب أخي المسلم أننا تخلينا عن مجدنا وكرامتنا وعلمنا ورضينا أن نكون مع الخوالف وفي مؤخرة ركب البشرية وأين الخلل في تربيتنا العلمية وأين الخلل في طرائق تعليمنا وتعلمنا ؟!.
في رأيي أن هناك العديد من الأسباب اذكر منها هنا بعضها على سبيل المثال لا الحصر على أن أعود إلى الموضوع مرات عدة لأنه يحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث.
أولا: بعدنا عن الهدي العلمي النبوي في تقدير العلم والعلماء فعن أبى موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(مثل ما بعثني الله من الهدي والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولانتبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به) متفق عليه.
ويستفاد من هذا الحديث في مقامنا هذا أن معظمنا كالقيعان التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, لأننا لم نرفع العلم النافع رأسا, ولم نقبل هدى الله الذي أتى به المصطفى صلى الله عليه وسلم وحرصنا على ما لا ينفعنا وآثرنا الدنيا والعمل السريع لها عن العلم والتعب في تحصيله وتطبيقه.
قال: الرياء في الأعمال والبعد عن الورع والتقوى وعمل الأعمال العظيمة من اجل الناس, وقد نهى المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين قال: إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جرئ فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى القي في النار, ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به، فعرفه نعمة فعرفها، فقال: فما عملت فيها قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. جزء من حديث أخرجه مسلم. فمعظم المسلمين الآن يتعلمون ليقال للواحد منهم متعلم, ويحمل الشهادات العليا ليقال أستاذ متعلم, وقد يسلك البعض مسالك غير مشروعة للحصول على الدرجة العلمية الكبرى, وأصبحت الدنيا مبلغ علمنا ومنتهى قصدنا, فلم يعد علماؤنا علماء, ولا أساتذتنا أساتذة, ولا كتابنا كتابا, إلا من رحم ربك, وتحولت جامعاتنا إلى مراكز لمنح الرخص المسماة بالشهادات وتحولت مراكز بحوثنا إلى أماكن للبحث العلمي من أجل الحصول على الرخصة العلمية وضاعت أموال المسلمين وأوقاتهم وأعمارهم, ثم وضعت البحوث على الأرفف في المكتبات ومصادر التعلم, أما التطبيق والعمل فهذا ليس من مقصدنا من التعليم والتعلم.
ثالثاً: الاستغراق في المصطلحات والتفسيرات النظرية والبعد عن العمل الجاد والمثمر والمنتج, حيث تحولت دراساتنا إلى تفسيرات, وبحوثنا إلى استنيانات واجتماعاتنا إلى تفلسف ومحاضر للجلسات, ومؤتمراتنا وندواتنا العلمية لاستعراض العضلات اللسانية في الكلام الذي لا يطيق منه شئ وهذا مناف لعقيدتنا قال تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتنا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" الصف2.
رابعاً: الوهن الذي أصاب المسلمين, فقد خاف علينا المصطفى صلى الله عليه وسلم الوهن, وعندما سئل عن الوَهَنْ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت) حيث أصبحت الدنيا مبلغ علمنا, وكرهنا الموت في سبيل الله, وأصبحنا نبحث عن مدرات الدنانير, وبعدنا عن مصلحات العباد, وأصبح حب الدنيا والأموال والأزواج والتجارة أحب إلينا من الله ورسوله قال تعالى " قل عن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" سورة التوبة آية 24.
فعليك أخي المسلم أن تضع الآية السابقة في ورقة وترى هل الأبناء والأزواج والأموال والتجارة والمساكن أحب إليك من الله ورسوله وجهاد في سبيله, أم الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلى نفسك من كل ما سبق؟ وهنا نقول لك لايحرم عليك هذه الأشياء ولكن حبها المطغي والمُنسي والملهي والصارف عن رسالتك في الحياة هو الممنوع.
وهنا ستعرف نفسك بالضبط ومع أي فريق أنت.
خامساً: فقدنا الثقة في أنفسنا, وأصبحنا في جهل لقدراتنا وديننا وتراثنا فطلبنا المشورة من بيوت خبرة غير المسلمين, وأصبحت مناهجنا لا تؤكد عن ذاتنا وعقيدتنا, فتخرجت أجيالنا مقطوعة الصلة بأمجادنا, ومن كان مخلصاً لدينه وعقيدته عاش في الماضي يمجد فيه, ولا يعيش في الحاضر, وينسى العمل للمستقبل فلم يستمتع بالحاضر ونعم الله عليه فيه, ولم يخطط للمستقبل, فكانت النتيجة كما نعلم جميعا, حتى لغتنا العربية لم نعد نقدر على التحدث بها, وأصبح الأجنبي الذي يتكلم غير العربية خبيرا حتى ولو كان لا يحمل إلا الشهادة الابتدائية, وبنظرة إلى رواتب العرب والمسلمين ورواتب الأجانب من غير العرب والمسلمين الذين يعملون في بعض ديار المسلمين نعلم ذلك علم اليقين.
أخي المسلم أختي المسلمة: قد تكون الكلمات قاسية والنظرة سوداوية والكلمات تقطر حزنا وسوادا, ولكن في الحقيقة نحن أمة رسبت في قاع التاريخ حاليا ونغوص الآن في الطين وهذا ليس كلامي ولكم من نتائج دراسات العديد من الباحثين والكتاب والمفكرين المخلصين, فمع أن الله سبحانه وتعالى ميزنا وجعلنا أمة وسطا وجعلنا خير أمة أخرجت للناس, فهل ترضى أخي المسلم أن نكون هكذا عالة على غير المسلمين وتوابع لغير المسلمين نأكل من مزارعهم ونلبس من مصانعهم ونحارب أنفسنا بأسلحتهم, وضاع المسلمون في أسبانيا, والصومال, والشيشان, والبوسنة, والهرسك, وفلسطين والجزائر وإريتريا, والعراق, والهند وفي ديار كثيرة لا نجرؤ على ذكرها وإلا وضعنا في مصاف غير العقلاء والمارقين.
أخي المسلم:
هذه دعوة لكل مسلم أن يتقي الله ربه, وان يتبع هدى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تحصيل العلم النافع والعمل به, وتقدير العلم والعلماء, وأن نبتعد بأعمالنا عن الرياء ونجعلها خالصة لوجهه الكريم, ونبتعد عن الجدل والمناقشات العقيمة وأن نتق الله في أقوالنا وأفعالنا, وأن نبتعد عن الوهن ونثق في قدراتنا ونصر الله لنا لنعيد لامتنا مجدها ولديننا انتشاره وسماحته ووسطيته التي حجبت تحت ستار كثيف من سلوكياتنا غير الإسلامية وأن نعود إلى هداية الدنيا برحمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وقد بدأت تباشير النصر تظهر وبدأ جبل صناع الحياة في صنع الحياة فهيا بنا جميعاً نعمل وننتج لنخرج أمتنا إلى مكانتها التي وضعها الله منها أمة مؤمنه, عاملة, متعلمة, منتجة, تقود العالم بأخلاق القرآن, وتعمر الكون بنواميس الله في الخلق وبطاعة صاحب الخلق والأمر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.