في معنى النكاح لغة وشرعاً
النكاح في اللغة: يكون بمعنى (عقد التزويج)، ويكون بمعنى (وطء الزوجة)، قال أبو علي القالي: ( فرّقت العرب فرقاً لطيفاً يعرف به موضع العقد من الوطء فإذا قالوا: نكح فلانة أو بنت فلان أرادوا عقد التزويج، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته، لم يريدوا إلا الجماع والوطء ).
ومعنى النكاح في الشرع: ( تعاقد بين رجل وامرأة يقصد به استمتاع كل منهما بالآخر، وتكوين أسرة صالحة ومجتمع سليم ).
ومن هنا نأخذ أنه لا يقصد بعقد النكاح مجرد الاستمتاع، بل يقصد به مع ذلك معنى آخر هو ( تكوين الأسرة الصالحة، والمجتمعات السليمة ). لكن قد يغلب أحد القصدين على الآخر؛ لاعتبارات معينة بحسب أحوال الشخص.
في حكمة النكاح
النكاح باعتبار ذاته مشروع، مؤكد في حق كل شهوة قادر عليه. وهو من سنن المرسلين قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
وقد تزوج رسول الله وقال: { إني أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني }.
ولذلك قال العلماء: ( إن التزويج مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة؛ لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة، والآثار الحميدة، التي سنبين بعضها فيما بعد إن شاء الله ).
وقد يكون النكاح واجباً في بعض الأحيان، كما إذا كان الرجل قوي الشهوة، ويخاف على نفسه من المحرم إن لم يتزوج، فهنا يجب عليه أن يتزوج؛ لإعفاف نفسه وكفِّها عن الحرام.
ويقول النبي : { يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج؛ فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء }.
في شروط النكاح
من حسن التنظيم الإسلامي ودقته في شرع الأحكام أن جعل للعقود شروطاً، تنضبط بها، وتتحدد فيها صلاحيتها للنفوذ والاستمرار، فكل عقد من العقود له شروط لا يتم إلا بها، وهذا دليل واضح على أحكام الشرعية وإتقانها، وأنها جاءت من لدن حكيم خبير يعلمُ ما يصلح الخلق، ويشرع لهم ما يصلح به دينهم ودنياهم؛ حتى لا تكون الأمور فوضى لا حدود لها. ومن بين تلك العقود - عقد النكاح - فعقد النكاح له شروط نذكر منها ما يأتي وهو أهمها:
1 - رضا الزوجين: فلا يصح إجبار الرجل على نكاح من لا يريد، ولا إجبار المرأة على نكاح من لا تريد. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النَسَاءَ كَرْهاً [النساء:19]، وقال النبي : { لا تُنكح الأيمُ حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن }، قالوا يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: { أن تسكت }.
فنهى النبي عن تزويج المرأة بدون رضاها، سواء أكانت بكراً أم ثيباً، إلا أن الثيب لا بد من نطقها بالرضا، وأما البكر فيكفي في ذلك سكوتها؛ لأنها ربما تستحي عن التصريح بالرضا.
وإذا امتنعت عن الزواج فلا يجوز أن يجبرها عليه أحد ولو كان أباها؛ لقول النبي : { والبكر يستأذنها أبوها } [رواه مسلم].
ولا إثم على الأب إذا لم يزوجها في هذه الحال؛ لأنها هي التي امتنعت، ولكن عليه أن يحافظ عليها ويصونها.
وإذا خطبها شخصان، وقالت: أريد هذا، وقال وليّها: تزوّجي الآخر، زُوّجت بمن تريد هي إذا كان كفؤاً لها، أما إذا كان غير كفء فلوليها أن يمنعها من زواجها به، ولا إثم عليه في هذه الحال.
2 - الولي: فلا يصحّ النكاح بدون ولي، لقول النبي : { لا نكاح إلا بولي }، فلو زوجت المرأة نفسها، فنكاحها باطل سواء باشرت العقد بنفسها أم وكلت فيه.
الولي: هو البالغ العاقل الرشيد من عصباتها، مثل الأب، والجد من قبل الأب، والإبن، وابن الإبن، وإن نزل، والأخ الشقيق، والأخ من الأب، والعمّ الشقيق، والعم من الأب، وأبنائهم الأقرب فالأقرب. ولا ولاية للإخوة من الأم، ولا لأبنائهم، ولا لأبي الأم والأخوال؛ لأنهم غير عصبة.
وإذا كان لا بد من النكاح من الولي، فإنه يجبُ على الولي اختيار الأكفاء الأمثل فالأمثل إذا تعدد الخطاب، فإن خطبها واحدٌ فقط، وهو كفءٌ ورضيت، فإنه عليه أن يزوّجها به.
وهنا نقفُ قليلاً لنعرف مدى المسؤولية الكبيرة التي يتحمّلها الولي بالنسبة إلى من ولاه الله عليها، فهي أمانةٌ عنده يجب عليه رعايتها ووضعها في محلها، ولا يحل له احتكارها لأغراضه الشخصية، أو تزويجها بغير كفئها من أجل طمع فيما يدفع إليه، فإنّ هذا هو الخيانة، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38]. وقال النبي : { كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته }.
وترى بعض الناس تُخطبُ منه ابنته يخطبها كفء، ثم يردُّه ويردُّ آخر وآخر. ومن كان كذلك فإن ولايته تسقط، ويزوّجها غيره من الأولياء الأقرب فالأقرب.
في صفة المرأة التي ينبغي نكاحها
النكاح يرادُ للاستمتاع، وتكوين أسرةٍ صالحةٍ ومجتمعٍ سليمٍ، كما قلنا فيما سبق. وعلى هذا فالمرأة التي ينبغي نكاحها هي التي يتحقق فيها استكمال هذين الغرضين، وهي التي اتصفت بالجمال الحسي والمعنوي.
فالجمال الحسي: كمال الخلقة، لأن المرأة كلما كانت جميلة المنظر، عذبة المنطق، قرّت العين بالنظر إليها، وأصغت الأذن إلى منطقها، فيفتح لها القلب، وينشرح لها الصدر. وتسكن إليها النفس، ويتحقق فيها قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
والجمال المعنوي: كمال الدين، والخُلُق، فكلما كانت المرأة أدين وأكمل خُلقاً، كانت أحبّ إلى النفس، وأسلم عاقبة.
فالمرأة ذات الدين، قائمة بأمر الله، حافظة لحقوق زوجها، وفراشه، وأولاده، وماله، مُعينة له على طاعة الله تعالى، إن نسي ذكرته، وإن تثاقل نشطته، وإن غضب أرضته.
والمرأة الأديبة تتودد إلى زوجها، وتحترمه، ولا تتأخر عن شيء يحبّ أن تتقدم فيه، ولا تتقدم في شيء يجب أن تتأخر فيه.
ولقد سُئل النبي ، أي النساء خير؟ قال: { التي تسرّه إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها، ولا ماله فيما يكره }، وقال : { تزوّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء } أو قال: { الأمم }.
فإذا أمكن تحصيل إمرأة يتحقق فيها جمال الظاهر، وجمال الباطن، فهذا هو الكمال والسعادة بتوفيق الله.
في المحرّمات بالنكاح
قال النبي : { إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها }.
ومن جملة الحدود الشرعية التي حدّ الله تعالى حدودها النكاح حِلاً وحُرمةً، حيث حرّم على الرجل نكاح نساء معينة لقرابة أو رضاع أو مصاهرة أو غير ذلك.
والمحرّمات من النساء على قسمين:
قسم محرّمات دائماً، وقسم محرّمات إلى أجل:
1 - محرّمات دائماً:
أولاً: المحرمات بالنسب:
وهن سبع ذكرهن الله تعالى بقوله في سورة النساء: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ [النساء:23].
1 - فالأمهات: يدخل فيهن الأم، والجدات سواء كنّ من جهة الأب أم من جهة الأم.
2 - البنات: يدخل فيهن: بنات الصلب، وبنت الأبناء، وبنات البنات، ( وإن نزلن ).
3 - والأخوات: يدخل فيهن: الأخوات الشقيقات، والأخوات من الأب، والأخوات من الأم.
4 - العمّات: يدخل فيهن: عمّات الرجل، وعمّات أبيه، وعمّات أجداده، وعمّات أمه، وعمّات جداته.
5 - والخالات: يدخل فيهنّ: خالات الرجل، وخالات أبيه، وخالات أجداده، وخالات جداته.
6 - وبنات الأخ: يدخل فيهن: بنات الأخ الشقيق، وبنات الأخ من الأب، وبنات الأخ من الأم، وبنات أبنائهم، وبنات بناتهم ( وإن نزلن ).
7 - وبنات الأخت: يدخل فيهن: بنات الأخت الشقيقة، وبنات الأخت من الأب، وبنات الأخت من الأم، وبنات أبنائهن وبنات بناتهن، ( وإن نزلن ).
ثانياً: المحرمات بالرضاع: ( وهنّ نظير المحرمات بالنسب )
قال النبي : { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } ولكن الرضاع المحرم، لا بد له من شروط منها:
1 - أن يكون خمس رضعات فأكثر، فلو رضع الطفل من المرأة - أربع - رضعات، لم تكن أماً له؛ لما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان فيما أنزل القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله وهي فيما يتلى من القرآن ).
2 - أن يكون الرضاع قبل الفطام، أي يشترط أن تكون الرضعات الخمس كلها قبل الفطام، فإن كانت بعد الفطام أو بعضها قبل الفطام وبعضها بعده لم تكن المرأة أماً له.
وإذا تمت شروط الرضاع، صار الطفل ولداً للمرأة وأولادها إخوةٌ، سواء كانت قبله أو بعده، وصار أولاد صاحب اللبن إخوة له أيضاً، سواء كانوا من المرأة التي أرضعت الطفل أم من غيرها.
وهنا يجب أن نعرف بأن أقارب الطفل المرتضع سوى ذريته لا علاقة لهم بالرضاع ولا يؤثر فيهم الرضاع شيئاً، فيجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أمه من الرضاع أو أخته من الرضاع.
أما ذرية الطفل، فإنهم يكونون أولاداً للمرضعة، وصاحب اللبن، كما كان أبوهم من الرضاع كذلك.
ثالثاً: المحرمات بالصهر:
1 - زوجات الآباء والأجداد: وإن علوا سواءً من قبل الأب أم من قبل الأم، لقوله تعالى: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء [النساء:22]. فمتى عقد الرجل على امرأة صارت حراماً على أبنائه، وأبناء أبنائه، وأبناء بناته، وإن نزلوا، سواء دخل بها، أم لم يدخل بها.
2 - زوجات الأبناء: وإن نزلوا، لقوله تعالى: وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ [النساء:23]. فمتى عقد الرجل على إمرأة صارت حراماً على أبيه، وأجداده، وإن علوا سواء من قبل الأب أم من قبل الأم، بمجرد العقد عليها، وإن لم يدخل بها.
3 - أمّ الزوجة وجدّاتها: وإن علون، لقوله تعالى: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ [النساء:23]. فمتى عقد الرجل على امرأته، صارت أمّها وجداتها حراماً عليه بمجرد العقد، وإن لم يدخل بها سواءً كنّ جداتها من قبل الأب أم من قبل الأم.
4 - بنات الزوجة، وبنات أبنائها، وبنات بناتها، وإن نزلن، وهن الربائب، وفروعهن. لكن بشرط أن يطأ الزوجة، فلو حصل الفراق قبل الوطء، لم تحرم الربائب وفروعهن؛ لقوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23]. فمتى تزوج الرجل امرأة ووطأها، صارت بناتها، وبنات أبنائها، وبنات بناتها، وإن نزلن حراماً عليه سواء كنّ من زوج قبله أو من زوج بعده، أما إن حصل الفراق بينهما قبل الوطء، فإن الربائب وفروعهن لا يحرمن عليه.
2 - المحرمات إلى أجل:
وهن أصناف منها:
1 - أخت الزوجة وعمّتها وخالتها: حتى يفارق الزوجة فرقة موت، أو فرقة حياة، وتنقضي عدّتها؛ لقوله تعالى: وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، وقول النبي : { لا يُجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها } [متفق عليه].
2 - معتدة الغير: أي إن كانت المرأة في عدة لغيره، فإنه لا يجوز له نكاحها حتى تنتهي عدّتها، وكذلك لا يجوز له أن يخطبها إذا كانت في العدّة حتى تنتهي عدّتها.
3 - المُحرِمة بحجّ أو عمرة: لا يجوز عقد نكاحها عليها حتى تحلّ من إحرامها.
وهناك محرمات أخرى تركنا الكلام فيهن؛ خوفاً من التطويل.
وأما الحيض: فلا يوجب تحريم العقد على المرأة فيعقد عليها، وإن كانت حائضاً لكن لا توطأ حتى تطهر وتغتسل.
في العدد المباح في النكاح
لمّا كان إطلاق العنان للشخص في تزوّج ما شاء من العدد أمراً يؤدي إلى الفوضى، والظلم، وعدم القدرة على القيام بحقوق الزوجات، وكان حصر الرجل على زوجة واحدة قد يُفضي إلى الشر، وقضاء الشهوة بطريقة أخرى محرمة، أباح الشارع للناس التعدد إلى أربع فقط، لأنه العدد الذي يتمكن به الرجل من تحقيق العدل، والقيام بحق الزوجية، ويسدّ حاجته إن احتاج إلى أكثر من واحدة.
قال الله تعالى: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً [النساء:3].
وفي عهد النبي ، أسلم غيلان الثقفي وعنده عشر نساء فأمره النبي أن يختار منهن أربعاً، ويفارق البواقي، وقال قيس بن الحارث: أسلمت وعندي ثمان نسوة فأتيت النبي فذكرت له ذلك فقال: { اختر منهن أربعاً }.
فوائد تعدّد النساء إلى هذا الحد:
1 - أنه قد يكون ضرورياً في بعض الأحيان، مثل: أن تكون الزوجة كبيرة السن، أو مريضة، لو اقتصر عليها لم يكن له منها إعفاف، وتكون ذات أولاد منه، فإن أمسكها خاف على نفسه المشقة بترك النكاح أو ربما يخاف الزنا، وإن طلقها فرّق بينها وبين أولادها، فلا تزول هذه المشكلة إلا بحلّ التعدد.
2 - أن النكاح سبب للصلة والارتباط بين الناس، وقد جعله الله تعالى قسيماً للنسب فقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [الفرقان:54]. فتعدد الزوجات يربط بين أسر كثيرة، ويصل بعضهم ببعض، وهذا أحد الأسباب التي حملت النبي أن يتزوج بعدد من النساء.
3 - يترتب عليه صون عدد كبير من النساء، والقيام بحاجتهن من النفقة والسكن، وكثرة الأولاد، والنّسل، وهذا أمر مطلوب للشارع.
4 - من الرجال من يكون حاد الشهوة لا تكفيه الواحدة، وهو تقيّ نزيه، ويخاف الزنا، ولكن يريد أن يقضي وطراً في التمتع الحلال، فكان من رحمة الله تعالى بالخلق أن أباح لهم التعدد على وجه سليم.
في حكمة النكاح
قبل أن نبدأ الكلام في خصوص تلك المسألة، يجب علينا أن نعلم علماً يقيناً بأن الأحكام الشرعية كلها حِكَم وكلها في موضعها، وليس فيها شيء من العبث، أو السفه؛ ذلك لأنها من لدن حكيم خبير.
ولكن هل الحِكم كلها معلومة للخلق؟ إن الآدمي محدود في علمه، وتفكيره، وعقله، فلا يمكن أن يعلم كل شيء، ولا أن يُلهم معرفة كل شيء، قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85].
إذن فالأحكام الشرعية التي شرعها الله لعباده يجب علينا الرضا بها، سواء علمنا حكمتها، أم لم نعلم، لأننا إذا لم نعلم حكمتها، فليس معناه أنه لا حكمة فيها في الواقع، إنما معناه قصور في عقولنا، وأفهامنا عن إدراك الحكمة.
من الحِكَم في النكاح:
1 - حفظ كل من الزوجين وصيانته: قال النبي : { يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج }.
2 - حفظ المجتمع من الشرّ وتحلل الأخلاق، فلولا النكاح لانتشرت الرذائل بين الرجال والنساء.
3 - استمتاع كل من الزوجين بالآخر بما يجب له من حقوق وعشرة، فالرجل يكفل المرأة، ويقوم ينفقاتها من طعام، وشراب، ومسكن ولباس بالمعروف. وقال النبي : { ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف }. والمرأة تكفل الرجل أيضاً بالقيام بما يلزمها في البيت رعاية وإصلاحاً. قال النبي : { المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها }.
4 - إحكام الصلة بين الأسر والقبائل، فكم من أسرتين متباعدتين، لا تعرف إحداهما الأخرى، وبالزواج يحصل التقارب بينهما، والاتصال ولهذا جعل الله الصهر قسيماً للنسب كما تقدم.
5 - بقاء النوع الإنساني على وجه سليم، فإن النكاح سبب للنسل الذي به بقاء الإنسان، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء [النساء:1].
ولولا النكاح للزم أحد أمرين، إما:
1 - فناء الإنسان.
2 - أو وجود إنسان ناشئ من سفاح، لا يعرف له أصل، ولا يقوم على أخلاق.
ويطيب لي أن أستطرد هنا قليلاً لحُكم تحديد النسل:
فأقول: تحديد النسل بعدد معين خلاف مطلوب الشارع، فإن النبي ، أمر بتزوج المرأة الولود أي كثيرة الولادة، وعلل ذلك بأنه مكاثر بنا الأمم أو الأنبياء، وقال أهل الفقه: ينبغي أن يتزوج المرأة المعروفة بكثرة الولادة، إما نفسها إن كانت قد تزوجت من قبل وعرفت بكثرة الولادة أو بأقاربها، كأمها، وأختها، إذا كانت لم تتزوج من قبل.
ثم ما الداعي لتحديد النسل؟
هل هو الخوف من ضيق الرزق؟ أو الخوف من تعب التربية؟ إن كان الأول فهذا سوء الظن بالله تعالى، لأن الله سبحانه وتعالى إذا خلق خلقاً فلا بد أن يرزقه، قال الله تعالى: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وقال تعالى: وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:60ٍ]. وقال تعالى في الذين يقتلون أولادهم خشية الفقر: نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم [الأسراء:31].
وإن كان الداعي لتحديد النسل هو الخوف من تعب التربية، فهذا خطأ فكم من عدد قليل من الأولاد بأكثر ممن هم دونهم بكثير. فالمدار في التربية صعوبةً وسهولةً على تيسير الله تعالى، وكلما اتقى العبد ربه، وتمشى على الطرق الشرعية، سهل الله أمره، قال الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].
وإذا تبين أن تحديد النسل خلاف المشروع، فهل تنظيم النسل على الوجه الملائم لحال الأم من ذلك؟
الجواب: لا. ليس تنظيم النسل على الوجه الملائم لحال الأم من تحديد النسل في شيء. وأعني بتنظيم النسل، أن يستعمل الزوجان أو أحدهما طريقة تمنع من الحمل في وقت دون وقت فهذا جائزٌ، إذا رضي به كل من الزوج والزوجة، مثل: أن تكون الزوجة ضعيفة، والحمل يزيدها ضعفاً، أو مرضاً، وهي كثيرة الحمل، فتستعمل برضا الزوج هذه الحبوب التي تمنع من الحمل مدة معينة فلا بأس بذلك، وقد كان الصحابة يعزلون في عهد النبي ، ولم يُنهو عن ذلك، والعزل من أسباب امتناع الحمل من هذا الوطء.
في الآثار المترتبة على النكاح
يترتب على النكاح آثار كثيرة نذكر منها ما يلي:
أولاً: وجوب المهر:
والمهر: هو الصداق المسمى باللغة العامية: ( جهاز )، فالمهر ثابت للمرأة بالنكاح، سواء شرط أم سكت عنه، وهو ( المال المدفوع للزوجة بسبب عقد النكاح )، فإن كان معيّناً فهو ما عيّن سواء كان قليلاً أم كثيراً، وإن كان غير معين بأن عقد عليها ولم يدفع جهازاً، ولم يسمّوا شيئاً، فعلى الزوج أن يدفع إليها مهر المثل، وهو ما جرت العادة أن يُدفع لمثلها. وكما يكون المهر مالاً أي عيناً، ويكون كذلك منفعة، فلقد زوّج النبي إمرأة برجل على أن يعلمها شيئاً من القرآن.
والمشروع في المهر أن يكون قليلاً، فكلما قلّ وتيسّر، فهو أفضل، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه سلم، وتحصيلاً للبركة، فإن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة، وروى مسلم في صحيحه أن رجلاً قال للنبي : إني تزوجت إمرأة. قال: { كم أصدقتها؟ } قال: أربع أواق ( يعني مائة وستين درهماً ) فقال النبي : { على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه }.
وقال عمر رضي الله عنه: ( لا تَغْلُوا صَدَقَ النساء، فإنها لو كانت مَكْرُمة في الدنيا، أو تَقْوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي ، ما أصدق النبي إمراة من نسائه، ولا أصدقت إمراة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، والأوقية أربعون درهماً ).
ولقد كان تصاعد المهور في هذه السنين له أثره السيء في منع كثير من الناس من النكاح، رجالاً ونساءً، وصار الرجل يُمضي السنوات الكثيرة قبل أن يحصل المهر فنتج عن ذلك مفاسد منها:
1 - تعطيل كثير من الرجال والنساء عن النكاح.
2 - أن أهل المرأة صاروا ينظرون إلى المهر قلة وكثرة، فالمهر عند كثير منهم ـ هو ما يستفيدونه من الرجل لإمرأتهم، فإذا كان كثيراً زوّجوا، ولم ينظروا للعواقب، وإن كان قليلاً ردّوا الزوج، وإن كان مرضياً في دينه وخلقه!.
3 - أنه إذا ساءت العلاقة بين الزوج والزوجة، وكان المهر بهذا القدر الباهظ، فإنه لا تسمحُ نفسه غالباً بمفارقتها، بإحسان بل يؤذيها ويتعبها؛ لعلها ترد شيئاً مما دفع إليها، ولو كان المهر قليلاً لهان عليه فراقها.
ولو أنّ الناس اقتصدوا في المهر، وتعاونوا في ذلك، وبدأ الأعيان بتنفيذ هذا الأمر لحصل للمجتمع خيرٌ كثير، وراحةٌ كبيرة، وتحصينُ كثيرٍ من الرجال والنساء.
ولكن مع الأسف إنّ الناس صاروا يتبارون في السّبق إلى تصاعد المهور، وزيادتها، فكل سنة يضيفون أشياء لم تكن معروفة من قبل، ولا تدري إلى أي غاية ينتهون؟
ولقد كان بعض الناس - وخصوصاً البادية - يسلكون مسلكاً فيه بعض السهولة، وهو تأجيل شيء من المهر، مثل: أن يزوّجه بمهر قدره نصفه حال، ونصفه مؤجل إلى سنة أو أقل أو أكثر. وهذا يخفف عن الزوج بعض التخفيف.
ثانياً: النفقة:
فعلى الزوج، أن ينفق على زوجته بالمعروف طعاماً وشراباً، كسوةً وسكنى، فإن بخل بشيء من الواجب فهو آثم، ولها أن تأخذ من ماله بقدر كفايتها، أو تستدين عليه، ويلزمه الوفاء.
ومن النفقة: الوليمة، وهي ( ما يصنعه الزوج، من الطعام أيام الزواج، ويدعو الناس إليه ) وهي سُنة، مأمور بها؛ لأن النبي فعلها، وأمر بها. ولكن يجب في الوليمة أن يتجنب فيها الإسراف المحرّم، وينبغي أن تكون بقدر حال الزوج.
أما ما يفعله بعض الناس من الإسراف فيها كميّةً، وكيفيةً، فإنه لا ينبغي، ويترتب عليه صرف أموال كثيرة بلا فائدة.
ثالثاً: الصلة بين الزوج وزوجته وبين أهليهما:
فقد جعل الله بين الزوج وزوجته مودة ورحمة، وهذا الإتصال يوجب الحقوق المترتبة عليه عرفاً، فإنه كلما حصلت الصلة وجب من الحقوق بقدرها.
رابعاً: المحرمية:
فإن الزوج يكون محرماً لأمهات زوجاته وجداتها، وإن علون، ويكون محرماً لبناتها، وبنات أبنائها، وبنات بناتها، وإن نزلن، إذا كان قد دخل بأمهن الزوجة.
خامساً: الإرث:
فمتى عقد شخصٌ على إمرأةٍ بنكاحٍ صحيح، فإنه يجري التوارث بينهما، لقوله تعالى: ولكم نصف ما ترك أزواجكم . إلى قوله: توصون بها أو دين [النساء:12]. ولا فرق بين أن يدخل بها، ويخلو بها أم لا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.