من أعظم ما عنى به القرآن الكريم في مجال المعرفة هو تربية العقلية العلمية للمسلم، وهي التي عمل القرآن الكريم على صياغتها، وإبرازها لتقوم بدورها في الحياة.
وإذا نظرنا إلى عقلية الإنسان عامة نجد أن هناك نوعان من العقليات:
أ ـ العقلية الخرافية وهي العقلية التي تصدق كل ما يقال لها أو يُعرض عليها، ولا تضعه موضع امتحان، بل تأخذه قضية مسلمة، ولاسيما إذا جاء من قبل من تعظمه مثل الأجداد، والآباء، أو السادة والكبراء (2) وهذه عقلية يرفضها الإسلام؛ لأنهم عطلوا أدوات المعرفة والهداية التي منحها الله لهم، فلم تعد تقوم بوظائفها: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (3).
ب ـ العقلية العلمية: وهي العقلية التي يريدها الإسلام، العقلية التي تتبع الدليل وتخضع للمنطق في العقليات، وتمشي وراء الملاحظة والتجربة في الماديات وتستعمل الأدوات التي وهبها الله إياها: السمع والبصر والفؤاد: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (4).
والبصر: به تكون الملاحظة والتجربة، وعليهما فبالسمع: تنتقل المعرفة من الناس بعضهم إلى بعض بطريقة الرواية. والفؤاد العقل: به يستعمل الإنسان المنطق، ويستنتج النتائج من المقدمات.
وبالتالي تكون هذه الأدوات هي النوافذ التي يطل منها الإنسان على أمور الحياة، والكون والشرع وعلى خلق الله - تعالى -وعلى نهيه وأمره.
ولذلك فالقرآن بدعوته القوية، وبتوجيهاته المتكررة يعمل على تكوين هذه العقلية العلمية المتحررة التي لا ينهض بنيان الأرض إلا على عاتقها.
ولقد عمل القرآن الكريم على تكوين هذه العقلية العلمية من خلال إبراز مواطن الخطأ والتحذير من اتباع هذه الطرق.
فقد دعى القرآن إلى ما يأتي:
1 ـ عدم اتباع الظنون والأوهام بل وضع اليقين موضع الشك والريب:
أول ما توصف به العقلية العلمية كما يبين القرآن أنها ترفض الظن في كل موضع يطلب فيه اليقين، كما في مقام تأسيس العقائد التي تقوم عليها نظرة الإنسان إلى الوجود، أي: إلى الله والكون والإنسان والحياة، فهذه قضايا كبرى لا يكفي فيها الظن، بل لابد فيها من العلم، أي العلم اليقين (5). ومن هنا أنكر القرآن الكريم على المشركين اتباعهم الظن، قال - سبحانه -: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (6)، وقال - سبحانه -: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (7)، وقال - سبحانه -: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (8)، ويخاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم- في مقام آخر بقوله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) 9).
وهكذا حذر القرآن من الاعتماد على الظن، وصرح بأن الظن لا يغنى من الحق شيئاً وأن المعرفة الحقة لابد أن تستند إلى اليقين؛ ولذا جعل الله - تعالى - اليقين به وبآياته ولقائه سبيلاً إلى بلوغ مرتبة العلم والرسوخ فيه الذي يطرد الجهل والشك والظن بل يوصل إلى درجة الإمامة في الدين: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (10)، يقول ابن القيم: وخص - سبحانه - أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين، فقال وهو أصدق القائلين: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (11)12)، ويقول - سبحانه -: (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (13)، ويقول - سبحانه -: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (14)، ويقول - سبحانه -: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (15)، يقول ابن القيم: واليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون.
وفيه تنافس المتنافسون وإليه شمر العاملون. وعمل القوم إنما كان عليه، وإشاراتهم كلها إليه....وهو روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجروح. وهو حقيقة الصديقية.
وهو قطب الشأن الذي عليه مداره.
ثم يقول: واليقين على درجات ثلاث: 16).
الدرجة الأولى: علم اليقين. وهو قبول ما ظهر من الحق، وقبول ما غاب للحق، والوقوف على ما قام بالحق:
• قبول ما ظهر من الحق - تعالى -: والذي ظهر منه أوامره ونواهيه وشرعه ودينه.
• قبول ما غاب للحق: وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به - سبحانه - على لسان رسله.
• الوقوف على ما قام بالحق - سبحانه -: من أسمائه وصفاته وأفعاله.
وهو علم التوحيد الذي أساسه: إثبات الأسماء والصفات وضده: التعطيل والنفى، والتجهم.
فهذا التوحيد يقابله التعطيل. الدرجة الثانية: عين اليقين. وهو المغْنى بالاستدلال عن الاستدلال. وعن الخبر بالعيان وخرق الشهود حجاب العلم.
وهو أعلى وأرفع درجة من علم اليقين والفرق بين علم اليقين وعين اليقين: كالفرق بين الخبر الصادق والعيان. وفى الحديث الشريف: " ليس الخبر كالمعاينة "17).
يقول د / القرضاوى: وهى الدرجة التي طلبها الخليل إبراهيم - عليه السلام - من ربه حين، قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (18)، وهى التي رقى الله - عز وجل - إليها خاتم رسله، وصفوة خلقه محمد - صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمعراج، ليرى من آياته الكبرى، ويشاهد من عوالم الغيب عياناً ما لم يشاهده غيره كما قال - سبحانه -: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (19-20).
الدرجة الثالثة: حق اليقين: وهى إسفار صبح الكشف ثم الخلاص من كلفة اليقين ثم الفناء في حق اليقين.
فإذا علم اليقين للخبر الصادق، وعين اليقين للمشاهدة والعيان فإن حق اليقين أشبه باللمس والذوق كما صورها ابن القيم بقوله: وقد مثلت المراتب الثلاث بمن أخبرك: أن عنده عسلاً، وأنت لا تشك في صدقه ـ علم يقين ـ ثم أراك إياه - عين اليقين - ثم ذقت منه ـ حق يقين.
كذلك الجنة والنار (علم يقين)، فإذا أزلفت الجن للمتقين وشاهدوها وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلق (عين يقين)، فإذا دخل أهل الجن الجنة وأهل النار النار فذلك حينئذ (حق يقين).
2ـ عدم اتخاذ التقليد أداة من أدوات المعرفة: التقليد لغة: يقال تقلد الرجل الشيء لبسه أو حمله، وتقلدت السيف: ألقيت حمالتة في عنقي.
ومأخوذ من قلدتها قلادة، جعلتها في عنقها، والقلادة ما جعل في العنق (21) والتقليد في المصطلح الديني هو قبول قول الغير، والاعتماد على ما وصل إليه في رأيه العلمي من غير سؤال عن الأدلة والبراهين التي اعتمد عليها، وسمى تقليداً؛ لأن المقلد يجعل ما يلتزم به من قول الغير من حق أو باطل قلادة في عنق من قلده.
ولأن أصول الدين هي الأسس الرئيسية لفكر الإنسان وسلوكه، فلابد للإنسان أن يستند في تأسيس هذه الأسس إلى الوعي والدليل والبرهان حتى تكون لديه القناعة بأصول الدين والعقيدة التي لا يجوز التقليد فيها؛ لأنه تقليد مذموم لا يستند إلى وعى وهو مرفوض عقلاً وشرعاً ولا يعد من أدوات المعرفة لأنه بذلك يعطل دور العقل. ولقد ذم القرآن هذه التبعية العمياء في المسائل الاعتقادية.
قال - تعالى -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (22) كما ذم موقف المقلدين لآبائهم ـ وهى تمثل نموذجاً للتقليد العاطفي أو الانفعالي ـ فقد ذم موقف المقلدين المترفين من أهل الشرك للوجهاء والكبراء والأغنياء، فقال - تعالى -: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (23).
وكذلك يحدثنا القرآن عن تقليد المستضعفين للمستكبرين: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (24).
إن المسأله المطروحة في هذه الآية هي أن المستضعفين استكانوا لضعفهم ولم ينتفضوا على ضعفهم ويأخذوا القوة ويحققوا قناعاتهم من خلالها ولذلك لم يعذرهم الله - تعالى -لأن الضعف أمام الآخر لا يبرر أن يجعل المستضعف يحني فكره أمام فكر الآخر، وأن تسقط إرادته أمام إرادته، أو أن يلغي عقله أمام عقل الآخر. وليس معنى هذا أن يلغي العقل كل ما صنعه الأقدمون، فكم من أمور كانت معتبرة في الماضي مع أنها خاطئة ولكن الناس قبلوها، وكم من أمور صحيحة في الأزمنة البعيدة ولكن الناس امتنعوا عن الاعتراف بها بسبب جهلهم. ففي قبول هذه المسألة لابد من الاستعانة بالعقل والفكر، وعدم اتباع التقليد الأعمى. القرآن يقابل كثيراً بين أتباع الآباء والأجداد وبين العقل والفكر، قال - تعالى -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(25).
يؤكد القرآن إن قدم فكر ما ليس دليل على خطئه ولا يوجب صحته، وإن القدم يجري في الأمور المادية، ولكن حقائق الوجود لن تصبح قديمة متروكة مهما مضى عليها الزمان.
فحقيقة مثل: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) تكون صادقة محكمة ثابتة طوال عمر الدنيا يقول القرآن: أنه لابد من مواجهة المسائل بسلاح العقل والفكر، ويجب أن لا يترك الإنسان عقيدة سليمة بدليل مخالفة الآخرين له، كما يجب أن لا يقبل عقيدة بمجرد تعلقها بهذه الشخصية المعروفة، أو تلك الشخصية الكبيرة، ولابد أن يحقق الإنسان بنفسه في كل المسائل (يجب أن لا يشتبه بين موضوع تقليد الآباء والأجداد أو الموضة العصرية، أو صبغة المجتمع التي نهى عنها القرآن بشدة، وبين موضوع تقليد المجتهد الأعلم الأعدل في الفقه، لأنه أمر واجب يبتنى على رعاية التخصص والاستفادة من العلم التخصصي).
3 ـ عدم اتباع الأهواء والعواطف في مجال العلم: (26) فكما أن العقلية العلمية ترفض الظن وترفض التقليد الأعمى فإنها أيضاً ترفض الهوى والعاطفة، فالهوى يعمي ويصم، والعاطفة تضل الإنسان عن الحق. ولهذا عاب القرآن على المشركين هذين الأمرين: اتباع الظن وهوى النفس معاً: فقال في شأن أصنامهم التي اتخذوها آلهة: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (27)، وقال - سبحانه - لداود - عليه السلام -: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (28) وقال - سبحانه – لمحمد - صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (29)، وقال - سبحانه - في اتباع الهوى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (30).
فالهوى يقود إلى التيه والضلال ويحجب الفؤاد عن معانقة الحق، ويحول بين العقل وبلوغ الحقيقة ولأجل ذلك قال ابن عباس - رضي الله عنه -: " شر إله يعبد في الأرض: الهوى " (31).
فالعقلية العلمية ـ كما يقول عبد الحليم أبو شقة في نقد العقل المسلم ـ: هي العقلية التي يتطلبها العصر الذي نعيش فيه، ولا سبيل إلى الحياة على مستوى العصر دون أن نلتبس بهذه العقلية.. وأول ما تفرضه هذه العقلية يقع في صميم شخصية الفرد، وجوهره الإيمان الصادق بالحقيقة والعزم على احترامها، والعمل على رفع لوائها وتغليبها على سواها.. وليس هذا الأمر السهل، فسبيل الوهم أوسع وأيسر من سبيل الفهم والإدراك، وتتبع الحقيقة يقتضى من الجهد أكثر مما يقتضيه اتباع العادة، واتخاذ التنازل عن مصلحة أو الإعراض عن هوى أو التخلي عن تقليد متبع، وهو يتطلب فوق ذلك نقداً صريحاً للذات ومحاسبة مستمرة للنفس (32).
4 ـ عدم اتباع الخرافات والأباطيل: فإن اتباع الخرافات والأباطيل فيه تعطيل للعقل وتعطيل لأدوات الحس الأخرى كالسمع والبصر.
لهذا حذر القرآن من إهمال هذه القوى والجرى وراء الأوهام والخرافات: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (33). فالسبيل لمحاربة هذه الخرافات والأباطيل هو العلم: أي القراءة والبحث والإطلاع، وهذا يفرض علينا أن نقف مع الإسلام في صف " العقل والعلم " مواجهاً ورافضاً الخرافة وتعطيل الفكر فقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رجلاً يسوق بدنة، فقال " اركبها " فقال إنها بدنة، قال " اركبها ويلك " (34).
وكان الناس في الجاهلية يطوفون بالبيت عرايا، بما يناقض العقل والفطرة، فجاء الشرع بتحريم ذلك، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم- بأن ينادى في الناس في العام التاسع للهجرة: " لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان " (35).
وحين مات إبراهيم ابن الرسول - صلى الله عليه وسلم- خسفت الشمس فقال بعض الناس إنها خسفت لموته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته " (36).
فحين نقف مع الإسلام في صف العقل والعلم سنجمع بين هدى الوحي وإرشاد العقل، والوحي هو النور الذي يضئ الطريق، والعقل هو الذي يهدي إلى صواب الاتباع، مستوثقاً من صحة الطريق (37).
5ـ الاستدلال على الأحكام: عمد القرآن الكريم إلى استخدام الاستدلال على ما أورده من عقائد وأحكام، ولم يطالب بالتصديق بلا برهان علمي، يشهد للدعوة ويدل علي صحتها وصدقها.
فكل مؤمن بعقيدة مطالب بإقام برهان علي صدقها، أو التسليم لمن يدعوه إلي عقيدة غيرها ويؤيدها الدليل والحجة، وبهذا قرر القرآن هذه القاعدة الجليلة: " أن لا دعوة بغير برهان " (38).
ولقد اتخذ القرآن الكريم وسائل متعددة يثبت بها هذه القاعدة نذكر منها:
أ- أنه عاب علي أهل الكتاب والمشركين دعواهم بغير استدلال ولا برهان: ففي قوله تعالي: " وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " (39).
وفي قوله: " أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " (40)، وفي قوله تعالي: " سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ " (41)، فأبطل بذلك دعوي الجبرية، الذين يزعمون أن ما هم فيه من ضلال الشرك وتحريم الحلال، إنما هو بمشيئة الله تعالى، يقصدون المشيئة الملجئة لهم، التي لا يملكون معها اختياراً ولا إرادة، وكذبوا مالهم علي هذا من دليل فإن كان لديهم علم فليخرجوه. 42).
ب ـ أن القرآن الكريم استخدم أساليب الاستدلال بما هو محسوس في هذا الكون والقصص، فاكتسب بمشاهد واقعية منبثقة من حياة الإنسان وما يكتنفها من تداعيات ومشاكل.
* فتحدث القرآن عن البرهان المحسوس كالمشاهدة وغيرها: قال تعالي: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " (43)، وقال تعالي: " الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ " (44)، وقال تعالي: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ) (45).
* وتحدث القرآن عن القصص وما حكته من تجارب تاريخية عاصرتها الأمم الماضية وهو برهان يقوم علي أساس الرواية الموثقة عن أحداث سبقت أو عن آثار خلفها أهل الأمم السابقة: يقول - سبحانه -: " أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ "46)، ويقول - سبحانه -: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ " (47).
* ويشير القرآن أيضاً إلي الكون وما يزخر به من أجرام تضبطها مجموعة قوانين صارمة لا تتخلف ولا تختلف: يقول - سبحانه -: " لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ " (48)، ويقول - سبحانه -: " أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ "49)، ويقول - سبحانه -: " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (50).
* ثم يشير القرآن إلي الأرض وظواهرها المتنوعة كإحياء الأرض الميتة حين ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج فهي أشبه بالإنسان الذي خلق منها وعاش فيها: يقول - سبحانه -: " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَىكُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (51).
* ثم يقيم القرآن الدليل علي وجود الله تعالي من خلال " الخلق ": " أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ "52).
يقول د. القرضاوي: " ولا يمكن أن يكونوا قد خلقوا من غير شيء، لأن هذا ينافي قانون العلية، أو السببية، وهذا أن كل مسبب لابد له من سبب، وكل أثر لابد له من مؤثر، وكل صنعة لابد لها من صانع وهذا مبدأ فطري لا ينازع فيه إلا مكابر. وإذا لم يخلقوا من غير شيء، فلا يمكن أن يكونوا هم خالقي أنفسهم، لأن الشيء لا يخلق نفسه، لأن المخلوق قبل خلقه عدم، والعدم لا ينشئ الوجود، ولا يمكن أن يكونوا هم خالقي السموات والأرض؛ لأنها مخلوقة قبل وجودهم، ولا يستطيع مخلوق أن يدعى أنه خلقها (53).
* وكذلك يقيم القرآن البرهان على تنزيه الله عن الولد: يقول - سبحانه -: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (54)، ويقول - سبحانه -: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)(55)، ويقول - سبحانه -: (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (56)، فالعبد لا يكون ولداً.
ويقول - سبحانه -: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سبحانه بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)57)، فإذا كانوا عباده الخاضعين له، المطيعين لأمره، كيف يكونون أولاده؟ ومن ذلك يتضح أن العقيدة الإسلامية توقيفية فلا تجاوز فيها للنصوص المثبته لها كما أنها عقيدة مبرهنة تقوم على الحجة والدليل ولا تكتفي في تقرير القضايا بالخبر المؤكد والإلزام الصارم؛ بل تحترم العقول والمبادئ التي يقوم عليها الدين كله ذلك أنها لا تثبت في جميع جزئياتها وكلياتها إلا بدليل في الكتاب أو السنة المطهرة كما أن أهلها مأمورون بعدم الخوض في مسائل لا علم لهم بها ولا برهان: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (58).
وبالتالي يترتب على هذه البرهنة والتوقيفية:
أ ـ استعمال الألفاظ فيما سيقت لأجله وعدم تحميلها ما لا تحتمل من المعاني.
ب ـ تحديد مصادر العقيدة بالكتاب والسنة والالتزام بألفاظهما للتعبير عن الحقائق العقدية.
جـ ـ أن القرآن دائماً يستخدم من الأدلة ما هو عقلي، أو في الأنفس أو في الآفاق.
___________
(1) فاطر 28.
(2) العقل والعلم في القرآن الكريم، د. القرضاوي صـ 249.
(3) الأعرف 179.
(4) النحل 78.
(5) المرجع السابق صـ 250.
(6) يونس 36.
(7) النجم 28.
(8) الأنعام 148.
(9) الأنعام 116.
(10) السجدة 24.
(11) الذاريات 20.
(12) راجع: مدارك السالكين، لابن القيم جـ2 صــ306.
(13) الجاثية (14).
الجاثية 20.
(15) الرعد 2.
(16) مدارج السالكين صـ 306.
(17) رواه أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم عن ابن عباس، والطبراني في الأوسط عن أنس، والخطيب عن أبى هريرة، كما في صحيح الجامع الصغير وزيادته (5373)، (5374).
(18) البقرة 260.
(19) النجم 11 ــ 18.
(20) العقل والعلم في القرآن، د/ القرضاوي صـ 120، 121.
21) لسان العرب " قلد ".
(22) البقرة 170.
(23) الزخرف 23، 24 .
(24) النساء 97.
(25) البقرة 170.
(26) العقل والعلم في القرآن صـ 252.
(27) النجم 23.
(28) ص 26.
(29) القصص 50.
(30) الجاثية 23.
(31) أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف، قاله العراقي في " تخريج أحاديث الإحياء ".
(32) نقد العقل المسلم، عبد الحليم أبو شقة (3/5) دار القلم، القاهرة ط1 2001م.
(33) الإسراء (36).
(34) أخرجه البخاري في كتاب الحج ح 1690، ومسلم في كتاب الحج (1323/373/374).
(35) أخرجه البخاري في كتاب الجزية والموادعة ح 3177.
(36) أخرجه البخاري في كتاب الكسوف ح 1044، ومسلم في كتاب الكسوف (901/1ـ 3).
(37) نقد العقل المسلم، أبو شقة (3/7).
(38) راجع العقل والعلم في القرآن صـ 265، 266.
(39) البقرة (111).
(40) النمل (64).
(41) الأنعام 148.
(42) العقل والعلم في القرآن صـ 276.
(43) الأحقاق 4.
(44) الملك 3، 4.
(45) الزخرف 19.
(46) غافر (47).
الفجر 6 ــ 10.
(48) غافر 57.
(49) يسن 81 .
(50) الأحقاق 33.
(51) فصلت 39.
(52) الطور 35، 36.
(53) العقل والعلم في القرآن صـ 274.
(54) الأنبياء 22.
(55) المؤمنون 91.
(56) مريم 92، 93.
(57) الأنبياء 26، 27.
(58) الإسراء 36 ..