إن أهم جانب يستدعي النظر ويجلب التقدير والإعجاب عند الذين أحبوا الله تعالى ونذروا حياتهم في سبيل رضاه وارتبطوا بغاية مثلى هي نيل محبته... إن أهم جانب لدى هؤلاء وأهم مصدر من مصادر قوتهم هو أنهم لا يبتغون ولا ينتظرون أي أجر مادي أو معنوي. ولن تجد في خططهم وحساباتهم أنهم يعيرون أي أهمية للأمور التي يسعى طلاب الدنيا للحصول عليها كالأموال والأرباح والثروة والرفاهية... هذه الأمور لا تشكل عندهم أي قيمة، ولا يقبلون أن تشكل عندهم أي مقياس.
إن القيمة الفكرية لهؤلاء الناذرين أرواحهم تعلو على القيم الدنيوية إلى درجة يصعب معها تحويل محور هدفهم المرتبط برضا الله دون أي غرض آخر ودون أي تنازل. أما ربطهم بهدف بديل فمستحيل. والحقيقة أن قلب كل منهم قد تعرض لتحول جذري من كل ما هو زائل وفانٍ إلى الباقي أبداً، لذا فلا يمكن أبداً أن يتغير إلى شيء آخر، ولا أن يصعد إلى مستوى أعلى، لأنه يعلم يقيناً أنه لا يوجد مستوى أعلى من دعواه ومن فكرته... فهو قد نذر نفسه لإرشاد الناس إلى الحق تعالى وتحبيبه إليهم، لتحقيق الحصول على محبته تعالى، وربط حياته لإحياء نفوس الآخرين، ونأى بنفسه عن أي هدف عرضي وزائل، أي قلّص هدفه رافعاً من قيمته، ومخلصاً له من التشتت وموحداً قبلته... نظراً لكل هذا فلن تجد عند أمثال هؤلاء شعارات تفرق ولا تجمع، وتشتت ولا توحد وتقود إلى النزاع من أمثال "هم" و "نحن" أو "أنصارنا" و "أنصارهم". ولا توجد عندهم أي مشكلة ظاهرية أو خفية مع أحد، ليس هذا فحسب، بل تراهم في سعي دائم ليكونوا ذوي فائدة لكل من حولهم، ويبدون عناية فائقة لعدم الإحتكاك أو إثارة أي مشاكل أو حساسيات في المجتمع الذي يعيشون فيه. وعندما يرون أي سلبيات في مجتمعهم فلا يتصرفون كمحاربين غلاظ، بل كمرشدين رحماء يقومون بدعوة الأفراد إلى الأخلاق الفاضلة، ويسعون في هذه السبيل سعيا حثيثا، ويبذلون ما بوسعهم للابتعاد عن فكرة الحصول على نفوذ سياسي أو الوصول إلى الحكم.
إن أهم ما يميز العمق الداخلي لهؤلاء الناذرين أرواحهم لله هو المعرفة وتقييمها، وأسس أخلاقية قويمة وسيادتها على كل مظاهر الحياة وميادينها، وفضيلة قائمة على الإيمان وعدم الاستغناء عنها. وهم يبدون اهتماماً خاصّاً للابتعاد عن كل شيء لا يفيد غدهم ولا سيما حياتهم الأخروية من دعايات فارغة لجلب شهرة أو صيت أو نفع مادي. ويبذلون كل ما بوسعهم إلى درجة الإرهاق لتوجيه الذين يسيرون وراءهم أو يحترمونهم إلى المعاني الإنسانية السامية بجعل معارفهم وأفكارهم ذات مغزى بالإمتثال بها كلٌّ حسب سعة أفقة. وهم إذ يقومون بهذا لا يبتغون جزاء ولا شكوراً، ويحاولون أن يبتعدوا عن المصالح الشخصية والمنافع ويهربوا منها مثلما يهربون من الأفاعي والعقارب. وهم يتصرفون هكذا كتحصيل حاصل لعمق غناهم النفسي الذين ينأ بهم عن كل نوع من أنواع الدعاية والضجيج وحب المظاهر ويملكون من القوة ما يعصمهم عن هذه السفاسف. كما أن تصرفاتهم وسلوكهم النزيه والجميل الذي يعكس صدى أرواحهم يكون له من قوة الجاذبية والتأثير ما يسخر به كل مَنْ يعقل ما حوله فيجعله يسير وراءهم مسرعاً.
لذا لا يدور بخلد أي واحد من هؤلاء أن يتكلم عن نفسه أو يتوسل إلى الدعاية لرفع شأنه ولا يظهر أي رغبة أو شهوة في نشر صيته. وعوضاً عن هذا نراه يحاول بكل جهده ليبلغ مستوى حياة القلب والروح، رابطاً كل فعالياته هذه بالإخلاص ولا يبتغي غير وجه الله تعالى. وبتعبير أخر يهدف كل واحد منهم إلى رضاء الله وحده ويسعى إلى هذا الهدف السامي بكل حوله وقوته، ولا يلوث أيٌّ منهم عزمه الصارم –القريب من عزم الأنبياء–بالأغراض الدنيوية ولا بمحاولة الحصول على الصيت والشهرة بين الناس أو نيل إعجابهم.
وبما أن الإيمان والإسلام والقرآن يتعرضون اليوم إلى هجوم وانتقادات مباشرة وعلنية، وتثار الشبهات حولهم، كان من الواجب أن تتوجه الجهود جميعها نحو نقاط الهجوم هذه لتحصين الأفكار والمشاعر الإسلامية لدى الأفراد، وإنقاذ الجماهير من حياة سائبة لا هدف لها وربطهم وتوثيق صلتهم بالأفكار والأهداف العالية. ولا يمكن إشباع هذه الحاجة وإنقاذ الأفراد من اللهاث وراء البحث عن أهداف أخرى إلا بتقوية الإيمان في القلوب من جديد بكل ألوانه وزينته وجماله ولهجة خطابه. وتستطيع أن تطلق على هذا أيضاً تعبير توجيه الإنسان من جديد إلى الحياة الروحية والقلبية. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة ولا سيما في عهد يرى فيه البعض ضرورة تغيير كل شيء، وتغيير بُنية القالب الاجتماعي وتحويلها، ثم صبها في قوالب جديدة. لأن أي محاولات من هذا النوع تحمل في طياتها احتمال النزاع والشقاق والاحتكاك والتفرق، بينما لا نجد سوى التفاهم والوفاق والتعاون في أسلوب التوجيه الإيماني.
لا تعيش الأرواح التي نذرت نفسها لرضا الحق تعالى أي فراغ في حياتها العقلية والمنطقية نتيجة توحيد قبلتها، على العكس من هذا تراهم منفتحين على الدوام على المنطق وعلى العلم ويعدون هذا من ضرورات الإيمان الحقيقي. مع ملاحظة أن الأهواء الدنيوية لهؤلاء والرغبات الجسدية لهم تذوب في حنايا قربهم من الله وتذوب في أعماق مشاعر وجو التوحيد عندهم الذي يشبه المحيطات في سعتها وأعماقها وأغوارها. لذا تنقلب هذه الرغبات عندهم إلى شكل آخر وإلى صورة أخرى... إلى ذوق روحاني نابع من رضا الله. لذا فإنه في الوقت الذي يتنفس فيه هؤلاء –الذين نذروا أنفسهم للحق تعالى– جواً ملائكياً في ذرى حياتهم الروحية والقلبية تراهم يتعاملون مع أهل الدنيا أيضاً ولا يتأخرون عن استعمال جميع حقوقهم الدنيوية المشروعة. لذا يعدون من جانب أهل دنيا لأنهم يتوسلون بالأسباب ويستعينون بها ويراعونها، ومن جانب آخر يعدون من أهل الآخرة لأنهم يستثمرون كل شيء وكل مسألة من زاوية حياتهم الروحية والقلبية. ولا يعني قيام حياتهم الروحية والقلبية بتحديد حياتهم الدنيوية بدرجة ما أنهم يهملون الحياة الدنيوية ويتركونها تماماً أو ينعزلون عنها تماماً، على العكس فهم يقفون كل حين في وسط الدنيا متحكمين فيها. ولكن وقوفهم هذا ليس من أجل الدنيا ولا باسمها، بل باسم الله ورعاية للأسباب ولربط كل شيء بالآخرة.
والحقيقة أن هذا هو السبيل الوحيدة لإبقاء الجسد في إطاره والروح في أفقه، أو ربط الحياة وجعلها تحت إمرة القلب والروح. فإطار حياة البدن المحدودة بالمقياس الضيق للجسد، لذا يجب أن يتوجه أفق الحياة الروحية المتطلعة إلى الخلود نحو اللاتناهي على الدوام. وهكذا فإن قام الإنسان –باعتبار هذا المستوى لأفق حياته– بالتعامل مع الأفكار السامية في كل حال من أحواله، ووجّه حياته لواهبها ورأى أن الإحياء أعمق شيء في حياته، ورنا بنظره نحو الذرى على الدوام تحول –أراد ذلك أم لم يرد– إلى شخص يطبق برمجة سامية. لذا يقوم بلجم أهوائه وبتضييق أذواقه الشخصية ولكن ضمن إطار معين.
لا شك أن القيام بتوجيه الحياة وتسييرها وفق هذا العمق ليس أمراً هيناً، ولكن هذه الصعوبة سرعان ما تتحول إلى أمر هين عند من نذر نفسه لله، وجعل غاية حياته تعريف خالقه للناس وتحبيبه إليهم، وتراه يدق بإحدى يديه على أبواب قلوب الناس ويدق بيده الأخرى على باب رحمة الحق تعالى، فهو في حركة دائبة بين هذين الأمرين رامياً هداية الجميع وتوجيههم إلى خالقهم الحق تبارك وتعالى.
والحقيقة أن من يشعر بدفء الإيمان بالله تعالى في قلبه.. ويسعى ليعبر عن هذا بلسان قلبه، وجذوة فؤاده أحياناً خشية منه سبحانه وأخرى حبا له.. مثل هذا الإنسان لن يجد أي صعوبة في أي مسألة، ولا في أي أمر. لأنه في مقابل قيامه بقصر تفكيره ونظره في الله تعالى، وفي البحث عن سبل الوصول إليه، وتقييم كل وسيلة حسب قوة تقريبها وتوصيلها إليه... في مقابل هذا يجعله الحق تعالى محط نظره وعنايته الخاصة موقَّراً ومُحترَماً من قبل الجميع، أي أنه في مقابل وفاء أرضي ضئيل، يكون الوفاء السماوي أضعافاً مضاعفة. وهاكم قطرة واحدة –التي تسع بحراً– من هذا الوفاء {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: 52). ولم يكن هؤلاء الذين نبه الله تعالى رسوله الكريم r بعدم طردهم من مجلسه سوى المداومين على حضور مجلسه من الذين نذروا أنفسهم لرضا الله تعالى.
وحسب درجة الإخلاص في هذا النذر، وكونه صادراً من صميم القلب نرى التفاتاً خاصّاً من الحق تعالى نحوهم، وإسباغ فضل خاص عليهم. أجل!.. بمقياس ارتباط المرء بالله تعالى ومحاولة كسب رضاه، وجعل هذا الأمر غاية حياته وهدفها يرى أفضال الله عليه وأنعمه، ويكون موضوع حوار في عوالم ما وراء السماوات. كل فكر لمثل هذا الإنسان في الدنيا وكل كلام أو سلوك وتصرف يضمخه الإخلاص ويعطره يتحول في ذلك العالم الآخر إلى جو من النور وإلى صحائف قدر مبهجة. وهؤلاء المحظوظون الذين ملأوا أشرعتهم بنسيم هذا الحظ الطاهر يسرعون نحوه على الدوام بأنسام فضله تعالى حسب درجة إخلاصهم، ولا يقف أمامهم أي عائق. والصورة التي يرسمها القرآن لهؤلاء تستحق التأمل:
{رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: 37-38).
إن أمثال هؤلاء من ذوي الأرواح التي تخلصت من الأسر ومن القيود، والذين رموا أعباء كل أحزانهم وهمومهم عن أكتافهم بتسليم أنفسهم لله والتوكل عليه، لا يبقى أمامهم شيء يبحثون عنه لأنه بجانب الأفضال والهبات التي حصلوا عليها في عالم القلب والروح لا تعد جميع النعم الدنيوية الغالية والأهواء والمباهج إلا كفضلات الطعام والأقداح الفارغة فوق الموائد. وتجاه لوحات وصور الجمال التي تزين عوالم قلوبهم لا تعد الدنيا وما فيها إلا خرافة من الخرافات أو أسطورة من الأساطير. وما كان من المنتظر من شيء يخضر في الربيع ثم يبهت لونه في الخريف أن يكون له قدر أكبر من هذا (1). لذا فإن الأرواح التي تعي هذه الحقيقة وتعيشها على الدوام وترنو ببصرها إلى الخلود والبقاء، ترسم إشارة الضرب على كل شيء لا يحمل صفة الأبدية وتدير ظهرها له، وتسير في طريقها دون الالتفات نحوه... تسير في درب القلب إلى بساتين وحدائق الخلود، ولا تلتفت إلى الدنيا ولا إلى زخارفها