1- الحوار مع المخالفين
?يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ?
وإذ نعلم أن الخطاب القرآني هو خطاب الله جل جلاله للبشرية جمعاء، فهي دعوة ربانية مباركة للمجتمعات البشرية كلها وفي كل زمان ومكان لأن تتآلف وتتعاون وتتعارف لما فيه خير البشر.
ومن أجل ذلك فان الحق سبحانه و تعالى يريد للبشرية أن تسير على هدي الرسالات السماوية التي تعاقبت منذ هبوط آدم الى الأرض و انتهاء بالرسالة المحمدية الخاتمة التي أتمت وختمت وحي السماء وأكملت دين الله كما ارتضاه للناس جميعا.
وخطاب الباري عز وجل (الآنف الذكر) ه و دعوة للناس جميعا لعدم التناحر والهيمنة على بعضهم البعض، أو استعباد البعض للآخر، أو التفاضل بسبب العرق أو اللون فالكل سواسية في ميزان الله وهم عبيده، وميزان التكريم هو ميزان رباني وليس ميزانا بشريا. وحتى إذا ظن أحد أنه يتقي الله حق تقاته ويقترب من تكريم الله ( والرجل التقي لا يدعي ذلك أبدا لأنه أمر غيبي محض)، فان هذا الاقتراب لا يكون مدعاة للتفاخر أو التمايز أو التفاضل على بقية خلق الله، بل يكون مدعاة الى التواضع والعدل والإحسان مع الناس.
وهذا هو سيد الأنبياء والمرسلين ( r ) يقرر نفس المعنى في هديه الشريف:
? أيها الناس أن ربكم واحد وان أباكم واحد، كلكم من آدم وآدم من تراب، وليس لعربي فضل على أعجمي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الحاضر الغائب?.
كلكم لآدم وآدم من تراب....
فلا تمييز لعرق على عرق، وليس ثمة عرق أرقى وآخر أدنى فالأصل واحد والمنبع واحد والرب واحد. وميزان الله في التفاضل ينظر في العمل الصالح الذي تفعله وليس الى اللون أو القبيلة أو الجاه والمنصب.
? الناس سواسية كأسنان المشط ?....
الناس سواسية كأسنان المشط لا يعلو بعضها على بعض، وتجاورها مع بعضها في اصطفاف جميل هو الذي يحقق منها المنفعة. ولو كانت هذه الأسنان متشابكة، و بعضها ملتوية وأخرى مستقيمة، وبعضها عالية وأخرى ناصية، لما ت حققت المنفعة المرجوة منها.
? الخلق عيال الله وأحب الخلق الى الله أنفعهم لعياله? (الطبراني).
أليس الأحمر والأسود والأبيض – وأين كان موطنهم - جميعهم خلق الله؟ فلو مكنك الله من أن تنفع الناس فلا تتردد ولا تضع الحواجز والقيود بين عيال الله بسبب العرق أو اللون أو الدين. ولكن ابدأ بمن تعول أولا وأبدأ بذوي القربى والجيران ثم الأبعد فالأبعد حتى تنتشر في كل بقاع الأرض لو تمكنت.
فإذا كان إطعامك لطير أو بهيمة بشكل مباشر أو غير مباشر يحسبها الله لك صدقة تجزى عليها يوم القيامة. أفلا يكون إطعامك لفقير بوذي في الهند صدقة؟ أو إسعافك لطفلة تشرف على الموت جوعا في أرض قد غزاها الجفاف في أفريقيا صدقة؟؟
? في كل ذي كبد رطبة صدقة?
هذا هو قول الحبيب المصطفى وهذا هو الدين الذي ارتضاه الله للناس جميعا وبشر به الرسول الأكرم ( r ) . دين يحقق مراد الله ويخدم عياله جميعا.. دين يقفز فوق حواجز العرق واللون والدين ليحقق الخير لل بشرية جمعاء .
فهل الغلو الذي يظهر هنا أوهناك وفي هذه الحقبة أو تلك ويشتد أحيانا ليصل الى حد أن يكفر بعضنا بعضا بسبب خلاف على منهج فكري أو مذهب فقهي أو مسلك تعبدي وداخل إطار العقيدة الاسلامية الواحدة، هل هذا من الدين في شيء؟ وعندما يصل هذا التشدد والانغلاق الفكري أحيانا الى حد الاحتراب والاقتتال وإراقة دماء الأبرياء، فهل ذلك كله يتناغم ويتجانس مع مراد الله ووحي السماء وسماحة الدين ويسره؟؟
اللهم كلا!!!!!!
ها هو رب العزة الكريم المتعال ي يخاطب نبي الهدى محمد ( r ) في آيات صريحة وواضحة ليبلغ الناس جميعا:
?لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي?(البقرة: 256).
?وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر? (الكهف: 29).
?ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين? (يونس:99).
ورغم أن الطريق الى الله الذي رسمه القرآن الكريم وجسده الرسول الخاتم ( r ) في هديه الشريف هو الطريق الذي يلبي طموحات البشر جميعا ويحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة معا بلا أدنى شك، وهو طريق مستقيم واضح المعالم والمسالك لا اعوجاج فيها، وكان بمقدور الله وهو الخلاق العليم بخلقه أن يخلقهم ليكونوا مؤمنين جميعا. إلا أن مشيئته سبحانه وتعالى ارتضت أن تعطي الإنسان حق الاختيار فمن شاء آمن ومن شاء كفر، وما كان أنبياء الله ورسله إلا مبشرين ومنذرين.
والمتتبع لسيرة أنبياء الله يرى أن دعوتهم الى الله كانت قائمة على الحوار، الحوار الهادئ المليء بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان خطابهم صريحا وواضحا: نحن لا نملك لكم شيئا إنما نحن رسل ربكم إليكم نبشركم بالجنة ونعيمها لو تمسكتم بحبل الله ومنهجه، ونحذركم من جهنم وأهوالها لو سلكتم سبيل الغي وتتبعتم خطى إبليس وجنده.
ومن يرى جهاد رسول الله ضد المشركين خروجا عن هذه القاعدة وأن غزواته إنما كانت لفرض عقيدة الإسلام بالقوة والإكراه فانه مخطئ، فقد بقي الحبيب المصطفى ( r ) في مكة ثلاث عشرة سنة من بعثته الشريفة يدعو أهله وقومه والقبائل الوافدة الى مكة الى الإسلام بالحوار والموعظة الحسنة الهادئة، وما كانت غزواته ( r ) بعد خروجه من مكة الى المدينة إلا دفاعا عن دين الله ضد الذين كانوا لا يألون جهدا لإطفاء نوره. و دفاعا عن منهج يكرم الإنسان ويعطيه الريادة في الأرض ويحقق فيه إنسانيته ويصون شخصيته وكيانه وحريته بتعاليم وقواعد ثابتة راسخة، وضد منهج أخرق غارق في التخلف والعبث بحقوق الإنسان وكرامته، ولا يمكن وصف هذا الدفاع ألا انه دفاع مشروع ومقدس بل وواجب و بمقاييس كل العصور و الأزمنة.
لا إكراه في الدين....
فالعقيدة لا تغرز في قلوب الناس بالإكراه والعنف والقوة... عليك أن تدعو الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، و لك أن تنصح وترشد، ولكن عليك أن تترك حق الرضا والقبول أو الرفض للطرف الذي تحاوره.
فالإكراه ليس من الدين في شيء والعقيدة ليس ت لباسا نلبسه أو ننزعه، انها غرز مبارك يغرز في القلوب في تودة ولين وحكمة ليؤتي أكله بعد حين سلوكا مهذبا وخلقا كريما وحسنا وتقربا الى الله بالطاعات والعمل الصالح، والإكراه لا يخلق أي شيء من ذلك بل يخلق نفورا من الحق وغلظة في الطبع ونفاقا في القلب وهذا ما لا يريده الله لخلقه وعياله.
فإذا كان الحوار هو السبيل الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورسله في دعوة الناس الى دينه وصراطه المستقيم . أفلا يكون الحوار والخطاب اللين والتواضع هو السبيل الذي يرتضيه الله لعباده المؤمنين فيما بينهم إذا تقاطعت آرا ؤ هم واختلفت رؤاهم واجتهاداتهم في مسألة فقهية أو تعبدية أو منهج سياسي؟؟
فلماذا هذا التشتت في الفكر الواحد، والانغلاق على رأي بعينه، والقتامة في تعميق الخلاف بين طوائف المسلمين وهم يعبدون ربا واحدا ويتوجهون الى قبلة واحدة ويقرؤون قرآنا مبينا واحدا؟؟
أليس ذلك ابتعادا عن منهج الله - ومهما حاولنا أن نسوق الأدلة الشرعية أو نلوي أعناق الآيات لتخدم فكرتنا نحن فقط -؟؟
وكأن بعضنا يريد أن يحتكر دين الله لنفسه ويتولى الوصاية على الآخرين؟؟
كيف يسعى هذا النفر أو ذاك – ليس الى تسفيه الرأي المقابل فقط ولمن يدينون بدينه- بل السعي والتحريض على قتله وتهجيره وتدمير مصادر رزقه.
وحتى إذا انجرف بعض المتخلفين الى ذلك....... فهل من المعقول أن تكون ردة فعل علما ئ نا ومفكرينا أكثر ظلامية وأشد قتامة وأمضى قساوة؟؟
وكيف يقف هذا النفر الذي ينزلق هذا المنزلق الخطير الآثم أمام الله في سجود وركوع وأياديهم لم تزل ملطخة بدماء الأبرياء الذين قتلوا غدرا أو انتهكت حرماتهم؟؟ لا لشيء إلا لأن آراءهم اختلفت أو تقاطعت مع هذا النفر من الناس.
منهج الله منهج سمح يدعو الى الحوار مع الإنسان لا الى قتله...
ويدعو الى احترام الإنسان لأخيه الإنسان...
ودين الله هو دين تحبب ورحمة وتعاضد وتعايش مع بقية أطياف المجتمع الإنساني.. ولا وجود فيه لمن يضع الحواجز بين الإنسان وأخيه الإنسان بدعوى اختلاف المنهج وتقاطع العقيدة.
و دين الله يدعو الى الحب والإيثار والتكافل الاجتماعي والابتسامة في وجوه الآخرين. وينبذ العنف والانغلاق والتطرف.
صن عقيدتك وثوابتك الإيمانية، وحافظ على منهجك، ثم مد يد الألفة والمحبة والتعاون لكل من في الأرض.
?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم? (الممتحنة: 8).
?ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار? (الرعد: 22).
?وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما? (الفرقان: 23).
أليس الرق ي الفكري والأخلاقي كله في دين الله إذن؟؟
وأن العزة تكون في الاعتداد السليم بالمنهج السليم، منهج كتاب الله وسنة رسوله، وكما رسمه لنا الحبيب المصطفى ( r ) ، منهجا سمحا يدعو الى الخير وكل ما يقود إليه، وينبذ الشر وكل ما يقود إليه.
?وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان? (المائدة: 2).
علينا أن نعلم أن الأصل في دعوة الأنبياء هو الحوار مع من يخالفهم في الرأي وإلا إذا كانت الأقوام التي بعثوا إليها تؤمن بالله وأنبيائه ورسالاته فلمن يوجه النبي خطابه وقتئذ؟؟
وعلينا أن نفهم ثقافة القرآن في مخاطبة المشركين، والتحاور مع المخالفين.
وإلا فان خطابنا الإسلامي سيضل ضعيفا متشنجا مرتبكا ولا يحقق غاياته وأهدافه.ويبقى حال المسلمين على ما هو عليه من التخلف والتشرذم والتقزم