يتميز الكائن الإنساني عن باقي المخلوقات بأنه كائن يهدف إلى تحصيل المعرفة من أجل إشباع حاجاته المادية و الروحية ، و هو للوصول إلى المعرفة يستخدم عقله مفكراً عبر مراحل استدلالية مختلفة و متعددة عبر مقدمات متسلسلة يستنبطها حدسه العقلي حتى يبلغ مأربه و يشبع ظمأه، لذلك اخترع المتقدمون من الحضارات القديمة قواعد و ضوابط عقلية أسموها بالمنطق حتى تصبح ثوابت عامة في المعرفة الإنسانية. ذلك أن الإنسان قد لا يصل غالباً إلى المعرفة التي تكشف عن الواقع او قد يضع لنفسه معرفة تطابق هواه و رغباته ومصالحه لذلك يخطئ كثيراً في تحصيل المعرفة او استخدامها بالصورة الصحيحة.
و اذا كان الإنسان كائن مستدل عقلاني فأن نمط حياته العام يتشكل حسب نوعية الحركة المعرفية التي يتخذها و حسب أساليبه الاستدلالية، و قد تتخذ أمة كاملة منهجاً استدلالياً و معرفياً خاطئاً يقودها إلى اتجاه معاكس و لا يوصلها إلى أهدافها.
أن تغيير كثير من الأخطاء التي نعيشها و تغيير واقعنا إلى واقع جديد سليم يعتمد بشكل كبير على كشف الأسلوب الذي نفكر به ، فإذا كان واقعنا سيئا ومريرا فهذا يعني أننا نفكر بأسلوب خاطئ ولابد من أن نغير أساليبنا الفكرية و الاستدلالية لتغيير هذا الواقع المتخلف.
إن الكثير من الأشياء في هذه الحياة تبدو لنا في ظاهرها سليمة و خالية من العيوب لذلك نعمل وفق هذه الرؤية و نشكل حياتنا وما يتبعها على ضوءها، و لكن قد تكون هذه الأفكار ليست إلا أخطاء تعودنا عليها عبر الزمن حتى يسيطر الركود و الجمود و التخلف علينا ، ذلك أن الاستمرار على الخطأ يؤدي إلى خلق تراكمات متتالية لمجموعات من الأخطاء المعقدة، و هذه هي إشكالية في المنهجية التي يفكر فيها الفرد او الجماعة او المجتمع أو الأمة. إن العبرة التي نستخلصها هي إن المنهج الفكري هو الذي يحدد مسيرة فرد او أمة و حياة الأمة و حيويتها مرتبطة بنوعية التفكير الذي تسير وفقه ، فكم من أمة اندثرت و ماتت عندما غرقت في المستنقعات الراكدة لأفكارها الجامدة. و كم من أمة نهضت بنهوض أفكارها التي غذتها بالحياة و الروح عندما اعتمدت منهجاً سليماً في نظامها الفكري.
استكشاف آفات الفكر الإنساني
ما الذي يجعل التفكير ينقاد إلى الاستدلال العقيم او السقيم؟ هذا السؤال هو الذي يفرض علينا نفسه لمعرفة الأخطاء الفكرية التي يقع فيها الفرد عبر مراحله المختلفة.و اذا كان القدماء قد وضعوا المنطق المعروف بمنطق أرسطو فأن هذا المنطق لا يستطيع ان يستدرك هذه الأخطاء بكاملها لأنه يعتمد على آلية ميكانيكية لا تنظر إلى مختلف المراحل و الظروف الفكرية التي يمر بها الإنسان، إذ ان العقل الإنساني ليس مجرد آلة تصنع الأفكار بل انه خاضع في كثير من الاحيان الى مجموعة من الرغبات و الميول النفسية و الحوافر الاجتماعية و الدوافع الذاتية والضغوط الخارجية. لذلك لابد من دراسة منهج التفكير الإنساني و أسلوبه من خلال الآفات التي تصب الفكر و تعطل حركته او تجعله مريضاً لا يفكر بالطريق الاستدلالية السليمة. ان استكشاف آفات التفكير يعطينا القدرة على استدراك الأخطاء التي نقع بها، و عندما نخضع لمنطق امكان الخطأ في اساليب التفكير و نعترف بذلك فأننا نستطيع أن نغير الكثير من اساليبنا في الحياة عبر تغيير اساليب التفكير.قال تعالى في كتابه الحكيم: ليدبروا آياته وليتذكر اولوا الالباب.
اليقين المطلق
وظيفة المعرفة هي الانتقال من المعلوم للوصول إلى المجهول عبر مجموعة من المقدمات التي يربط الفكر بينها و يستدل منها لأشباع نهمه في قطف الحقائق، لذلك عندما تتكامل هذه المقدمات يحصل على نتيجة تعطيه اليقين الذاتي. هذا اليقين قد يكون حقيقة عندما يتطابق مع الواقع لأن المستدل أتخذ الطرق العقلية السليمة في الاستدلال و هنا يكون يقينه سليماً معترفاً به لدى العقل و عرف العقلاء. و بعبارة أخرى اليقين السليم هو اليقين الذي يكون موضوعياً لا تتحكم فيه الظروف و المصالح العوامل الذاتية أي أنه يرتكز على أدلة منطقية مقنعة لأي عقل بحد ذاته. و قد يكون يقينه و هما لا يتطابق مع الواقع لأنه استدل بمقدمات غير صحيحة أو توهم أنها صحيحة أو رغب لا شعورياً أن تكون صحيحة لذلك يصل إلى نتيجة هي يقين وهمي يتمسك به على أنه يقين مطلق. هذا اليقين الوهمي هو منشأ للكثير من الأسقام الفكرية و النفسية و الأمراض الأخلاقية و المشاكل السياسية و الاجتماعية مثل التعصب و الاستبداد و الغرور و النزاعات و الانشقاقات…
ان الإنسان ليس له آلة مجبرة تنتج الأفكار المطلقة، بل هو إنسان يمتلك مجموعة من الصفات المتضادة و الرغبات النفسية المتنازعة و المشاكل الروحية المقلقة، لذلك فأن هذا الإنسان قد يكون مصنعاً لإنتاج الأخطاء، و التاريخ الإنساني شاهد على ذلك. و على هذا فان اليقين الواقعي هو من أصعب النتائج الفكرية التي يمكن يصل اليها الإنسان.
أن اليقين الذاتي هو شعور داخلي لدى الفرد بأنه متأكد من هذا الشيء و هذا اليقين كثيراً ما يكون مضللاً، اذا أن شعورنا الداخلي قد لا يكون على أي أساس سوى ميولنا و اتجاهاتنا الذاتية، و هذا الأمر يزداد كلما ازداد الإنسان جهلاً او سيطرت عليه الرغبات النفسية بشكل اكبر فنلاحظ ان اكثر الناس يقيناً هم عادة اكثر الناس جهلاً، فالشخص الذي هو محدود الثقافة موقن بصحة الخبر الذي يقرؤه في الجريدة و قطعية صحة الاشاعة التي سمعها من الآخرين و بيقينية هذا الحلم الذي رآه في منامه ويرتب عليه اثارا في الخارج. لكن كلما ازداد المرء علماً تضاءل يقينه بالنسبة للكثير من الأمور و ازداد استخدامه لالفاظ مثل من المحتمل و من المرجع و أغلب الظن..، بل أن بعض العلماء قد لا تجد شيء يقيني يجزم به في كلامه و كتاباته لأنهم من خلال خبراتهم في الحياة يدركون أنهم مهما وصلوا إلى الحقيقة فأنه مجرد قطرة صغيرة من ذلك البحر المتلاطم المجهول، قال تعالى عزوجل: (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون). العنكبوت 43
أن أحد أسباب ديمومة الفكر الشيعي و تطوره هو اسلوب تعامله مه اليقينييات، فليس كل ما وصل اليه الفقيه في استنباطه هو يقين او حكم واقعي مطابق للواقع بل قد يكون هذا الحكم خاطئاً لذلك يطلقون عليه اسم الحكم الظاهري أي أنه في ظاهر الحال حكم مستدل عليه وقد لا يتطابق مع الواقع وهوقابل للنقاش و التأمل. لذلك يسمى هذا أتباع هذا المنهج بالمخطئة أي أنهم يخطئون الفقيه و لا يعطون لفتواه و رأيه القدسية المطلقة. و ذلك هو عكس ما اتخذه أهل السنة من منهج أطلق عليه المصوبة الذين يرون كل ما رأه الفقيه واستبطه هو حكم واقعي يقيني ليس فيه خطأ.
أن ما يصنع حياتنا و يشكل ما هو ذلك النوع من التفكير العام في حياتنا اليومية، فكم من صدام و شقاق حصل لأن الأطراف تحاول ان تحتكر اليقين لنفسها و تجعله مقدساً لا يمكن النقاش فيه، و كم من شخص حاول أن يمنع الآخرين من التعبير عن آرائهم و استبد بالامر لوحده عندما ظن أنه هو صاحب اليقين المطلق و المقدس الذي أن تعرض لانتقاد يحكم على المتجرئين بانهم مارقين مرتدين.
أن أصحاب هذا المنهج العليل في تقديس يقينيياتهم بأسلوبهم هذا في مواجهة معارضيهم عرضوا كل الحقائق لتجريح و الهدم، فعندما يسيطر المستبد على الأمة و يفرض رأيه عليها يتكون رد فعل عكسي من الجماهير التي ترتد عن كل الحقائق و تضع خطوطاً حمراء على كل اليقينيات حتى الصحيحة منها و هذا التعميم الجماهيري في فهم الحقائق لا شك انه آفة فكرية أخرى.
أن الالتزام بمدرسة الحكم الظاهري في حياتنا اليومية أيضاً يمكن أن يحل الكثير من المشاكل المعقدة التي نواجهها. فليس كل ما نعرفه و نمتلكه من معلومات هو يقين و ليس كل يقين هو أمر يطابق الواقع، فاذا فكّرنا بهذا الاسلوب فاننا يمكن أن نكتشف الكثير من الحقائق و نصحح ما هو خطأ، بل ان استخدام النقد في اساليب الاستدلال يمكن ان يعطي اثباتاً إضافياً لقوة الشيء الذي نريد اثبات انه يقيني. و لا داعي للخوف من الدراسة النقدية و الفكرية لبعض المفاهيم و القيم لأن العقل السليم عبر استخدامه للمنهج السليم في الاستدلال لا شك سيقترب إلى النتيجة الواقعية. نعم قد يكون هناك من يستخدم الشك كأسلوب مغالطة مريض لهدم الاراء الاخرى بدون اتخاذه للاستدلال السليم و المنهجي المنظم و ذلك لكسب الشهرة و أثارة الفتن. و لكن النقد المنهجي الذي يستخدم الموضوعية هو تقوية لايماننا بمفاهيمنا و عقائدنا لانها لا شك تنسجم مع استدلال العقل السليم.
التفكير الارتغابي
هو نوع الذي توجهه الرغبات لا الوقائع و هو نقيض التفكير، الواقعي الذي يبذل جهداً في معرفة الوقائع ثم يقصر نشاطه العقلي عليها. و هذا النوع من التفكير من المشكلات الاساسية التي تعرقل حيوية الأمة و تقدمها بل أنه يقودها للتراجع و التخلف، لأنه:
التفكير الارتغابي: يرسم أفكار كل فرد أو جماعة و حسب مصالحه و أهدافه و بالتالي. فأن سلوكه الاجتماعي العام سوف يتشكل حسب هذا المنطلق لذلك تتعمق الانشقاقات و اللامبالاة و عدم تحمل المسؤولية و الأنانية.
التفكير الارتغابي: يرسم للإنسان واقعاً وهمياً يحلم به فيجعله يحلق من غير أجنحة حتى أن تيقظ سقط سقوطاً مريعاً، هذه الأفكار التي توجها الرغبات النفسية تحول الفرد إلى حالم بعيد عن الوقائع يعيش في اوهام تبعده عن مسؤولياته و تبرر له عزلته و انقطاعه، فعندما لا يستطيع الإنسان أو الأمة أن يواجه أزماته ينخرط في موجات التصوف و الرومانسية التي تجعله منسلخاً عن واقعه.
التفكير الارتغابي: لانه لا يتقيد بالواقع فأنه يشوه الرؤية و يجعلنا ننظر للخارج كما نريد لا كما هو في الواقع لذلك تبقى الكثير من المشكلات على حالها.
الاستسلام و الخضوع
هو سيطرة فكر او أفكار على الجو الاجتماعي بحيث يتم استلاب العقل و تحول ذلك الفكر المسيطر إلى سلطة مطلقة غير قابلة للنقد و النقاش. و آفة الفكر هنا ليس في وجود هذه السلطة بل في الاستسلام المطلق لها، و المثال على ذلك تاريخيا هو سيطرة شخصية ارسطو على وسائل المعرفة بحيث كان مصدر السلطة الفكرية و العلمية لقرون عديدة و في بعض العصور فأن الخارج على هذه السلطة كان يتهم بالارتداد. و مثال آخر على ذلك هي المعركة التي جرت في القرون الوسطى حول كروية الأرض و مركزيتها بحيث تحولت إلى محرقة لكل من ينكر هذه النظرية.
القرآن الكريم انتقد الاستسلام و المستسلمين للسلطة الفكرية بقوله تعالى: (و اذا قيل أتبعوا ما أنزل قالوا بل نتبع ما الفينا عليه آباؤنا او لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً و لا يهتدون) البقرة 170.
لقد أثبت التاريخ أن الكثير من الأفكار كانت خاطئة و كان يمكن تصحيحها لو كان هناك من لم يستسلم و يخضع لذلك المنطق ، و لكن الاستسلام هو أسلوب مريح في حل المشكلات و يعبر عن العجز و الافتقار إلى الروح الخلاقة.فالإنسان بطبيعته خاصة اذا سيطر الجهل عليه يضع هالة مقدسة على كل شيء توارثته الأجيال بحيث يدل ذلك عنده على صحته و واقعيته.
ان الفكر الإنساني تكون من خلال تراكم الخبرات لذلك فان انكار القديم هو خطأ ايضاً بل لابد من الاستفادة من الخبرات الماضية و لكن ليس بمنطق الاستسلام بل بمنطق النقد و الفكر و التخطئة.
بعض الأفكار تسيطر لأنها مشهورة و منتشرة و هذا الأمر عند البعض يعتبر حقيقة و واقعا، كما يحدث ذلك للجماهير الغالبة التي تبحث عادة عن الأسهل و المريح و هي تتجمع سوياً حول الرأي الواحد بسهولة و الفرد يميل نحو الكثرة و يستظل بظلها لذلك ينجر وراء رأي الأكثرية. و هناك القليل من يمتلك الجرأة و الوعي ليواجه برأيه و فكره الرأي الذي اتخذته الفكرة الغالبة، لذلك يسيطر منطق الاستسلام في هذه الحالة على الضعفاء فكرياً و نفسياً و روحياً. وقد كان البعض يستغل هذا الامر في تعبئة الجماهير لأغراض فئوية او انتخابية او سياسية عبر نشر أفكار معينة بشكل واسع و تضليل اعلامي كبير بحيث يسهل التحكم بهذه الجماهير و ضرب المعارضين لهم . و منطق الاستسلام للرأي المنتشر بين الكثرة هو منشأ للكثير من مشاكلنا الحديثة و خصوصاً سيطرة الانظمة الاستبدادية والانقلابية بتهييج الرأي العام الشعبي لصالحها واحكام سلطتها عبر ذلك. لقد تحول الاستسلام، إلى عادة مترسخة في ثقافتنا و سلوكنا بحيث تعلمنا ان لا نفكر و ان لا نناقش و ان لا ننتقد بل اننا نخاف أن نفكر.
يقول الله تعالى عزوجل: (افلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها او اذان يسمعون بها فانها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). الحج 46
التعصب
هو محاولة لاحتكار الحقيقة و الرأي و اتهام الآخرين بالخطأ دائماً اذ ان التعصب تحمس زائد للرأي الذي يعتقده الشخص و موقف معاد للرأي الآخر، فلا يكتفي المتعصب ان يحتكر الرأي لنفسه و ينطوي على ذاته و ينسب اليها كل الفضائل و القدسية بل و يهاجم الآخرين و يسلبهم الفضائل و ينكرها و تأكيد ذاته من خلال هدم آراء الآخرين. و عندما يصبح لرأي الفرد او الجماعة التي ينتمي اليها الفرد تلك القدسية بحيث يتحول الرأي الآخر إلى ارتداد فان العقل سوف يعطل و يفتقد المرونة اللازمة لصراع الأفكار في داخله، لأن الاستدلال السليم لا يتم الا عبر تقييم و تمييز متعدد لمجموعة أفكار متضادة متنوعة حتى يصل لأختيار منطقي لفكرة ما. أما في حالة التعصب فأن هناك منطقة محرمة تمنع دخول الأفكار الأخرى فلا يرى الفرد أو الجماعة الاّ فكرة واحدة، و حينئذ يكون تفكير المتعصب و استدلاله دائماً خاطئ بل و يكون هشاً ضعيفا لا يستطيع مقاومة المنطق الاستدلالي للأفكار الأخرى، و هنا يلجأ لاستخدام العنف بكافة اشكاله لفرض أفكاره و معتقداته على الآخرين.
و من منا ليس في داخله شيء من التعصب السلبي لذاته يحجب عنا نور الحقيقة و يعطل الاستدلال السليم في عقولنا أننا نتحول إلى أناس عنيفين في حوارنا مع الرأي الآخر عندما نجد أن استدلالنا ضعيف و ان فكرتنا خاطئة فنتمسك بها و نجادل فيها. و التعصب يحاول أن يضع حداً لتلك المعركة القلقة التي تنشب في نفسه حين يستخدم عقله بطريقة نقدية فيحاول ان يستعيد التوازن النفسي عبر تخدير العقل، و ان كان ذلك على حساب الفكر و الاستدلال السليم.
و اعظم الاخطار الفكرية التي يفرزها، التعصب أنه يجعل الحقيقة ذاتية و متعددة و متناقضة و هو يتعارض مع كون الحقيقة واحدة في الأمر الواقع. فكل متعصب يصنع حقيقة خاصة لنفسه و يؤكد خطأ الآخرين و المتعصب الآخر لذلك حتى تضيع الحقائق و تندمس الرؤى، و لو كان الأمر هكذا بأن يخلق كل جماعة حقيقة خاصة بهم تنسجم مع مصالحهم و رغباتهم وترفض الحوار مع الاخر والتأمل بأراءها لتعطل دور العقل في التفكير و الاستدلال و لما كان له الحكم في الفصل بين القضايا و كشف التناقض.
الجمود و الركود الفكري
أحد ملامح موت الأفراد و الأمم هو الجمود و الركود الذي يسيطر على الفكر و العقل بحيث تسيطر مظاهر الثبات على مختلف الفعاليات العقلية و هذا الأمر يرجع على عدة أسباب:
1- افتقاد الوعي اللازم لمعايشة الحياة و مواكبتها.
2- عدم تحمل المسؤولية و اللامبالاة لان التفكير و التجدد يفرضان على الإنسان مسؤوليات متعددة خصوصاً عند ما يواجه مجتمعاً سيطرت عليه الكثير من الأفكار الجامدة.
3- الخوف من الجديد و ما يأتي من تطورات، فالقديم يستأنس به الإنسان و يعرف حدوده و معانيه، أما الجديد فانه يتطلب طاقات فكرية و اجتهاد و سعي و هذه كلها أمور يتعب منها العقل الذي تعود على الرخاء و الكسل و الأفكار الجاهزة.
4- الترف الفكري و هو يحدث عندما يعجز الفرد عن حل المشكلات التي يواجهه عن طريق الفكر أو يخاف لظروف سياسية او اجتماعية او اقتصادية أن يواجهها، لذلك يلجأ إلى الترف الفكري الذي يحوي الكثير من الضبابية و الهروب من الواقع إلى عالم لا مسؤوليات فيه.
ان الجمود يصنع مجموعة مظاهر سلبية تعطل الاستدلال الفكري الحيوي و توقف العقل عن ممارسة دورهُ الطبيعي منها:
1 ـ الاهتمام بالقشور و الهوامش و ترك الاولويات فيغوص الفكر في أمور لا طائل لها، و تنحصر المناقشات في قضايا هامشية تُنسي القضايا الأساسية كالجدال البيزنطي الذي جرى بين علماء النصارى في مدينة البيزنطية حول ناسوت عيسى(ع) او لاهوته في نفس الوقت الذي كانت جيوش العثمانيين تدق حصونهم لتستولي على مدينتهم.
2 ـ التقليد الأعمى هو أحد مظاهر الجمود، و هذه الحالة تنشيء عند ما يوجب المجتمع على أفراده أتباع فكرة معينة دون نقاش أو نقد و يحرم عليه عبور الخطوط الحمراء التي وضعها فيقضي على الابداع و التطور و يطمس ملكة التفكير و الابتكار، و الأسوء من ذلك أنه يكوّن قاعدة عقائدية ضعيفة الأسس و المرتكزات تنهار بسرعة عندما تواجهها أفكار أخرى في معترك الصراع العقائدي، لذلك تموت الجماعات التي تفرض على أفرادها التقليد الأعمى بسرعة و تندثر، و بعض هذه الجماعات الهشة يحرم على أفرادها خوض مناقشات عقائدية او فكرية. أن القوة العقائدية و الفكر المتين ينبع من القدرة على النقد و التحليل و فهم الحقائق بأسبابها و مسبباتها، لذلك نرى ان الفكر الشيعي يوجب على أتباعه أن يعتقدوا بأصول الدين عقلاً و تفكيراً و استدلالاً و لا يجوز التقليد فيها عند علماء الشيعة.
3 ـ التفكير السحطي و الآني: هو أحد آفات الفكر التي تحجم الاستدلال، فالإنسان الذي يغرق في مشاكل حياته اليومية يصبح عاجزاً عن التفكير المنهجي و المنظم، و حين تسيطر عليه الجزئيات يصبح تفكيره مجرد رد فعل ي أنه يفكر كالطفل حسب الاستجابات التي تطرأ عليه خارجاً، فهو حينئذ مجبر على التفكير في قضايا جزئية معينة و يعجز عن خلق أفكار و ابداع أشياء جديدة و هذا هو الذي خلق الإنسان الآني الذي يعيش في يومه فقط و لا يفكر في الغد و المستقبل. لذلك تصدر أغلب الافعال بدون تفكير و حين نقع في الاخطاء فاننا حينئذ نحاول أن نفكر بذلك و نخلق أفكاراً لتبرير سلوكنا و الدفاع عن اخطائنا و هذا هو منطق التفكير العاطفي وهو عكس التفكير المنطقي لانه يستهدف الدفاع لا البرهان، فالذين يفكرون قبل ان يعملوا هم قليلون والذين يعملون دون ان يفكروا هو ولاشك كثيرون في مجتمع تعلم وتربى على ان يكون محدودا لايفكر. و عندما يحاول ان يبرر الإنسان سلوكه الخاطئ و يعمل دون تفكير منهجي منظم مسبق يستمر في الوقوع في الاخطاء حتى يتأقلم معها و تصبح من الملفات المؤجلة و العادات المتجذرة، فتصبح تدريجياً حالة طبيعية متأصلة في سلوكنا بدون ان نشعر بذلك.
ان التفكير السطحي السريع ينعكس فقط في فهم الظواهر فهماً شكلياً متعجلاً معتمداً على الخبرة الشخصية الذاتية المحملة بانطباعات و تصورات ذاتية مغرورة دون أن يخترق الاعماق ليفهم الواقع فهماً تحليلياً للوصول إلى الاسباب و العلل. و التحليل الفكري العميق يعطي الكثير من النتائج المذهلة للفكر الإنساني حيث يخلق مجموعات متوالية من الولادات الفكرية المبدعة و المفيدة.
التعقيد اللغوي
ان اللغة هي سبب كبير في تطور الفكر و تشجع الإنسان على التفكير و الابداع لانها تخلق الكثير من المعاني التي تعبر بمفردات جميلة عن خواطر الإنسان و أفكاره. و لكن في بعض الأحيان تتحول اللغة إلى عائق كبير في تطور الفكر و العلم عندما يحبس أرباب العلم علومهم باصطلاحات و رموز تجعل من الالفاظ الغازاً يصعب فهمها عــلى من يقـــرأها، فبدل من أن يحاول القارئ استيعاب الفكرة يستغرق وقته في حل رموز الالفاظ و الضمائر و ما تدل عليه من معاني. و اذا طالعت بعض الكتب العلمية من الطب او علم النفس او الاصول و الفلسفة فأن محتواها من المصطلحات اكبر من المعاني التي بها، فالمؤلف يحاول أن يرفع من شأن كتابه عبر تقزيم الأفكار لصالح تعظيم المصطلحات.
ان التفكير الاستدلالي يصبح غير مفيد عندما يقع في مجادلات لفظية عقيمة تهدف إلى مجرد الجدال لأثبات الذات و ليس للوصول إلى الفكرة السليمة، و اذا تعود الفكر على المغالطة الجدلية متجاوزاً الأذعان للحقيقة عندما يصل اليها، فانه يكون حينئذ من السهل خلط الحقائق و تذويبها في متاهة المغالطات و المجادلات، و عندها يتحول الجدل و المغالطة إلى حالة منهجية مسيطرة على التفكير و تعوقه عن الاستدلال السليم.
ان منهج استكشاف افات التفكير يهدف الى التأمل في الكثير من العادات التي اصبحت روتينا ثابتا في حياتنا اليومية بحيث ان كل ما يجد علينا يكون غريبا وغير مفهوم لدينا، ولذلك يجابه الجديد والمتجدد بموجة من الاستنكار فينهار امام الضغوط ويستسلم لها كما فعل ذلك غاليليه في القرون الوسطى عندما اعلن عن عدم مركزية الارض للكون فجوبه بالاعدام حرقا فاضطر للتخلي عن فكرته، لذلك كانت العصور الوسطى من اسوء العصور في التاريخ الانساني.وقد يكون عصرنا الحالي ليس بأقل سوءا عندما يصبح التخلف الحضاري الذي نعيشه امرا طبيعيا قد تعودنا عليه بحيث اصبح جزءا لاينفك عن حياتنا، ويكون البحث عن التغيير هو المحرمات التي لايجوز المساس بها.
ان الله عزوجل قال في كتابه الكريم: (ان الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، فاذا اردنا ان ننتشل الامة من الواقع المأساوي الذي تعيش فيه لابد من تغيير انفسنا، وتغيير النفس لايتم الا عندما نغير من اسلوب تفكيرنا واستدلالنا لان الفكر هو الذي يصنع سلوك الانسان ويشكل ثقافته. وما كانت عظمة الانيباء والمصلحين الا لعظمة افكارهم التي انارت للانسانية سبل الهداية والحضارة