هناك شيء مشترك بين البنات والصبية في هذه المرحلة ألا وهو تنظيم أنفسهم ضمن مجموعات، وهذه المجموعات هي عبارة عن تنظيم مؤلف من زملاء peers . وضمن هذه المجموعات يحدث تأكيد على التعلم، وعلى السيطرة على وظائف جديدة، وعلى محاولة القيام بأدوار مختلفة، وعلى السرية Secrecy . تذّكر تلك الفترة من حياتك فضمن هذه المجموعات تُخترع لغات سرية وعندما تعود إلى المنزل تتحدث بلغتك السرية حيث من المفترض ألا يفهمك أحد وخصوصاً الراشدون. إن هذه المجموعات أو النوادي تعكس عملية الاستدخال Internalization التي تجري بهذا العمر، كما تعكس الحاجة للسيطرة وللبناء لأن أكثر الأشياء أهمية في هذه المجموعات هي القوانين، فمثلاً يمكن أن تجتمع مع خمسة أصدقاء لتشكّلوا نادياً أو فريقاً رياضياً، عندها ستقضي ساعتين من الوقت وأنت تكتب كل القوانين: النادي أو الفريق وكم مرة... و... الخ بالطبع هذا النادي لن يفعل شيئاً لأن الهدف الأساس من هذا النادي هو التنظيم Organization.
إن الإنسان يلاحظ أن الأطفال بهذا العمر لديهم حاجة ملحة إلى التنظيم والتصنيف ورغبة لأن يقوموا بأعمال قانونية ويحاولون أن يؤدوها بشكل دقيق وصحيح. وكجزء من رغبتهم بالتصنيف نجد الأطفال يستمتعون بالهوايات ويبدءون بجمع الأشياء الصخور، الأوراق، الطوابع، النقود، نماذج السيارات والطائرات،...الخ. فهم يجمعون أي شيء يقع تحت أيديهم، وكل طفل يجمع شيئاً ما وينظمه ويرتبه، كما أنه من الضرورة بمكان أن تعرف أموراً معينة فيجب أن يكون لديك قوانينك ثم تتعلم كيفية اللعب فإذا ما نزلت إلى باحة مدرسة ما وشاهدت مجموعة مؤلفة من أطفال عمرهم تسع سنوات ويلعبون كرة السلة ستجد أنهم لا يعرفون تماماً اللعب ولا يعرفون كيف يضعون الكرة في السلة ولكنهم يعرفون كل شيء حول ارتكاب أي مخالفة فهم يحتجون مباشرة: "لقد ضربت الكرة مرتين" مع أنهم لا يعرفون كيف يسددون الكرة! ولكنهم تعلّموا القواعد، لذلك فهم يعرفون كل شيء حول المشي بالكرة أكثر من خطوتين وحول قاعدة الثلاث ثواني. وهذا ينطبق على لعبهم بكرة القدم أو غيرها من الألعاب إذ نلاحظ الاحتجاج الشديد لأي مخالفة ترتكب فقد تعلموا قوانين اللعبة ويطبقونها بصرامة.
هناك أنماط من التفكير السحري الذي نتذكره جميعاً مثل المشي على الشقوق أو لمس كل ثالث عامود لمصباح كهربائي على طريق المدرسة. إن هذه العادات مهمتها التحكم بالدوافع التي يمكن أن تظهر، لذلك توجه هذه العادات ضد الدوافع الجنسية والعدوانية. وفي الحقيقة فإن أطفال سن الكمون شبيهون إلى حد ما بالراشدين المرضى، فهم يشبهون الوسواسيين Obsessional كثيراً؛ فالوسواسيون ينظمون ويرتبون الأشياء ويجمعون كل شيء ويهتمون كثيراً بالقوانين والقواعد، لأنهم يُظهرون مثل الأطفال السيطرة الفائقة للأنا الأعلى فهم بحاجة دوماً لأن يكونوا قويمين بكل تلك المفاهيم المبسطة عن الصح والخطأ والتي تكون لدى الأطفال في هذا السن "عليك أن تقوم بالأشياء الصحيحة". كما أن الأطفال في هذه المرحلة لحوحين جداً في متابعة فعل الصواب فإذا ما خرق أحدهم القوانين فإنهم سرعان ما ينهالون عليه بالتعنيف وحتى بالضرب، فهذه هي قواعد اللعبة.
التطبع الاجتماعي "التهيئة الاجتماعية"
تعتبر هذه المرحلة مرحلة النشاط الاجتماعي حيث يحدث الانتقال من الأسرة الأولية إلى تنظيم اجتماعي أكبر. وهناك العديد من العوامل التي لها أهمية كبيرة بالنسبة للأطفال لكي تتم هذه التهيئة الاجتماعية وذلك للانتقال إلى عالم واسع.
0 أولاً: هذه العوامل هي طبيعة تجارب الطفل في المدرسة.
0 ثانياً: مجموعة الزملاء المتاحة للطفل.
0 ثالثاُ: التأثيرات الخارجية الأكبر والتي أصبحت ضرورية مثل ظاهرة التلفاز والحاسب والانترنت الذي يحمل الأطفال بعيداً عن أصدقائهم الحاليين وبعيداً عن تجاربهم اليومية في المدرسة.
ولنلقي نظرة على بعض مظاهر المدرسة فهي المكان الذي من المفروض على الطفل أن يعمل وأن يكون مقبولاً فيه، ففي مجتمعنا يتعلم الطفل التنافسية في المدرسة كما يشعر بحاجة كبيرة إلى الإنجاز. وفي شرائح كثيرة في مجتمعنا نلاحظ وبوضوح أن حاجة الإنجاز تؤكد وبشكل مفرط، حيث أن القدرة على الإنجاز تعني أساس القبول سواء أكان الإنجاز ضرب الكرة لأبعد مسافة أو أخذ أعلى الدرجات (العلامات) في المدرسة، فعليك أن تنجز.
إن المدرسة هي المكان الذي تعاني فيه مجموعات كبيرة من الأطفال صعوبات لأنهم غير قادرين على الإنجاز، ليس بسبب نقص في القدرة الداخلية ولكن بسبب تجاربهم السابقة. فإذا تربى الطفل ضمن بيئة محرومة نسبياً حيث لم يتعرض لتنبيهات بشكل كافٍ، تلك التنبيهات التي يتعرض لها الأطفال المنحدرون من بيئات اجتماعية فقيرة أو حتى متوسطة في بعض البلاد العربية، أي لم يسبق لهم التعرض لنفس الكلمات والمفردات أو لاستنتاج آراء جديدة أو حتى جهاز التلفاز أو الحاسب،... الخ، بسبب حرمانهم من هذه الأشياء لن يستطيعوا أن يستمروا مع بقية الأطفال عند دخولهم المدرسة، وهذا ما يؤدي إلى إحساسهم بضربة قاصمة لتقديرهم الذاتي لذلك يستسلمون أو يكفون من متابعة الدراسة.. وهذا ما يميز أشياء هذه المرحلة، فإذا ما شعروا أنهم عاجزون عن المتابعة يستسلمون مباشرة، وإذا لم يتواجد أحد يشجعهم على الاستمرار بمحاولاتهم فهم يتخلون عن الرغبة في التعليم. ويمكن أن يقال عنهم أغبياء أو مغفلين عندها ستتراجع قدرتهم على التعلم لسنوات عديدة بغض النظر عن ملكاتهم العقلية Intellectual Endowment .
لقد مررنا كلنا بنفس التجربة عندما نلعب رياضة معينة فبعضنا يلعب بشكل جيد ويستمر باللعب وبعض آخر يحاول ثم يفشل ويتنازل عن اللعب. إذا لم يكن هناك من يقضي بعضاً من وقته ليساعدهم. يمكن ملاحظة ذلك عند طفل لا يعرف كيف يرمي كرة اليد يقر بأنه لم يخلق لكرة اليد وبعدها سيحاول أن يتجنب ليس كرة اليد فحسب بل كل أنواع الرياضة. إن هذا ينطبق تماماً على الأطفال في المدرسة فإذا ما تعرضوا لفشل ما أو أن أحداً توقع من أنهم سينجحون بدون أي اعتبار لخبراتهم المختلفة السابقة، عندها سينسحبون من المدرسة ولا يعودون إليها مطلقاً. ولا يوجد في الكثير من مجتمعاتنا العربية برامج تحاول من خلالها الدولة أو المؤسسات أو الهيئات العلمية والتربوية أن تعوّض عن الحرمان والنقص في التجارب المبكرة لهؤلاء الأطفال، وكذلك تعوّض عن نقص التنبيهات Stimulation الضرورية لإيضاح الملكات العقلية، في حين معظم دول العالم لديها برامج لهذا الغرض كبرامج Tleal Start في الولايات المتحدة وأوروبا.
إن المدرسة هامة وضرورية من ناحية أخرى أيضاً، وهي ناحية لها تشعباتها في مجتمعنا. كم عدد الأساتذة الذكور خلال المرحلة الابتدائية في معظم البلاد العربية؟ إن معظم من يُدَرّّس خلال هذه المرحلة في المدارس هم من الإناث، فلمَ يحدث هذا؟ هل أثبت العلم أن الأنثى هي الأفضل في حقل التعليم لهذا السن عند الطفل؟ أم أن قبول الأنثى للتعليم كمهنة مقبولة اجتماعياً وتريحها إلى حد ما ومحددة بدوام معين وعطل رسمية معينة وعطلة صيفية طويلة بحيث لا تؤثر كثيراً على أسرتها كما باقي المهن؟ أم أن عجلة التطور في المجتمع تقتضي ذلك؟ أم أنّ مفاهيم المجتمع والمردود الاقتصادي له دوره في هذا الأمر؟ وغير ذلك من الأمور التي لا مجال لشرحها مفصلاً هنا، ولكن يجب الانتباه إلى أن ذلك يشير من جهة إلى مواقف الكثير من مجتمعاتنا في عالمنا العربي في موضوع التعقل وكذلك من كونك معلماً، والحقيقة أن هناك من يربط بشكل كبير بين الثقافة وبين عدم الرجولة، وينظرون إلى الرجولة على أنها ذكورة وليست موقفاً وسلوكاً، فالطفل الجيد في دراسته والذي لا يعرف قذف الكرة لا يعتبر بطلاً أبداً، فنحن إن لم نحترم ونقدر الثقافة والتعلم لا يمكننا أن نشجع الأطفال الذكور أن يجعلوا ذلك هدف حياتهم.
إن نتيجة هذا الموقف هو أن معظم من يُدرِّس خلال المرحلة الابتدائية هم من الإناث ومعظم هؤلاء المعلمات موهوبات ويشعرون بالمسؤولية ولكن بعضاً منهن يجد صعوبة بالتعامل مع الطلبة الذكور في الصف. كما نجد من لا تستطيع أن تتفهم الصراعات والتوترات التي يعاني منها الصبي أثناء هذه المرحلة، وأن الصبي يحتاج النشاط والفعالية للتخلص من توتره وهذا ما يؤدي بالمعلمة أن تنتقد الصبية الفعالين وتكافئ الصبية السلبيين.
إن قسوة المجتمع أول ما تصادف في المدرسة؛ فالأطفال يصبحون قساة مع أصدقائهم وذلك من خلال طرد طفل ما من مجموعتهم لأنه مختلف أو لأنه يبدو مضحكاً أو لأنه جيد بدراسته وسيء بالرياضة... وهكذا يبدأ الأطفال بتقدير من هو جيد ومن هو سيء بالاعتماد على ما أدركوا من قيم المجتمع الأكبر، وهذه هي السن التي يتعلم فيها الأطفال كل التعبيرات الإزدرائية.
إنهم يتعلمون كل العبارات التي تستخدم عند طرد أحدهم من المجموعة، إن هذه القيم يمكن أن تعزز أو تتصارع مع ما يحدث ضمن عائلات الأطفال أو مدارسهم، ولذلك فإن الطفل يمكن أن ينمو براحة تامّة ضمن عائلته ويظن أن أهله لطفاء ودودون، فهم في غاية الجودة معه ويشعرون بمسؤولية تجاهه وهو يحبهم كثيراً ويريد أن يصبح مثلهم، وعندما يخرج إلى عالم المدرسة وعالم أصدقائه ويتعلم أن أهله ليسوا جزءاً من المجتمع فإمّا أن يكون الأهل من بيئة مختلفة أو معتقد مختلف أو حتى وضع اجتماعي واقتصادي مختلف أو ماشابه.. وكنتيجة لذلك نجد أن الطفل يقيّم ليس فقط بقيمة أهله بل أيضاً نفسه لأنه لم يقابل بعد أي شيء يُقدَّم له على أنه قدوة جديدة يمكن أن يحتذي بها. إن الطفل سيقارن بين عالم أهله وبين قِيَم العالم الخارجي الجديدة، وأي تناقض بين قِيَم هذين العالمين يمكن أن يسبب للطفل كرباً شديداً.
بقي عليّ التحدث عن مجموعة الزملاء Peer Group، فكل مجموعة تنشئ أخلاقيات معينة، وأطفال كل مجموعة تتصرف حسب أخلاقياتها الخاصة بها. إن جزءاً كبيراً يعتمد على طبيعة أخلاقيات المجموعة فالأطفال الذين لم تتح الفرصة الكافية لاستدخال القيم ضمن منازلهم وعائلاتهم يتبنون قيم المجموعة حول ما هو جيد وما هو سيء وربما لا تتوافق هذه القيم مع قوانين المجتمع، فالمجموعة ربما تقرّ أن السلوك المعادي للمجتمع هو سلوك حسن وبالتالي يشكلون عصابة Gang! ولهذا فإنه من الضرورة أن يتعامل الأطفال مع راشدين أو مراهقين أكبر سناً حيث يمكن للأطفال أن يتعاملوا معهم كمرشدين لهم دون أن يكون هناك أي اتصال مباشر مع المدرسة ولكن بإشراف الأسرة.
ومجموعة المرشدين هذه تستطيع أن تساعد الأطفال في تحقيق التحكم والسيطرة والتفوق والاحترام الذاتي، فالأطفال في هذا السن بحاجة إلى أبطال، بحاجة إلى راشدين يمكن استخدامهم كنماذج مقبولة من قبل مجموعة الأطفال، نماذج يمكن الاحتذاء بها. فهناك أطفال يريدون عندما يكبرون أن يصبحوا مثل (محمد علي كلاي أو بيليه أو زين الدين زيدان أو بروسلي أو انطوني كوين أو فاتن حمامة أو فيروز أو عبد الحليم حافظ أو جوليا بطرس أو وديع الصافي أو Emelia Earhart أو Babe Ruth أو جمال عبد الناصر أو هواري بومدين أو فيدل كاسترو أو نيلسن مانديلا أو الفيس بريسلي Alvese Brislie أو Olivia Newton..الخ). وبشكل عام يختار الأطفال أبطالهم وبطلاتهم من الرياضة أو السياسة أو السينما أو من عالم الموسيقا الصاخبة. وهنا خطورة كبيرة على أطفالنا من موجة فقاعات السينما والفن والطرب المسموع بالعين وليس بالأذن فمن خلال انتشار الفيدو كليب على أقراص مدمجة أو من خلال الفضائيات أصبحنا نقدم لأطفالنا نماذج لشخصيات كي يحتذون بها، الله وحده يعلم بالنتائج المروعة والمدمرة على أطفالنا من هذه النوعية من النماذج المقدمة، ومن جهة أخرى وإذا قُدمت إلى هؤلاء الأطفال شخصيات Anti Hero (أي إلى من يتنصل من أي شيء، قيود أو تحكم أو سيطرة...)، يصبح الأطفال عدوانيين ومؤذيين بشكل علني. فهم يلجؤون إلى إرهاب الأطفال الآخرين أو حتى الراشدين، يحطمون كل شيء، يصبحون مهملين وكسولين، يسرقون ويتحدون قوانين المجتمع.
إن الطفل أثناء مرحلة الكمون يحاول أن يقوم بأدوار على مختلف الأصعدة الاجتماعية فهو يتظاهر في أحد الأيام أنه لاعب كرة سلة عظيم الشأن ويتظاهر باليوم التالي أنه رائد فضاء كـ يوري غاغارين ويمكن أن يصبح أي شيء آخر بوقت آخر. فهو يحاول أن يقوم بأدوار على جميع الأصعدة لكي يتعرف على الدور الملائم له من ضمن الأدوار الاجتماعية المقترحة عليه من قبل المجتمع وكلما ازدادت الأدوار التي يشعر بها الطفل أنها غير مناسبة له كلما ضاق مجال الاختيار. إن الأدوار التي تعرض على الأطفال من قبل المجتمع خلال هذه المرحلة ذات شأن عظيم في تحديد اختيارات الحياة المستقبلية