من المعروف أن البدانة تمتد في العائلات وتورثُ كغيرها من صفات البشر، إلا أن الفصل بين وراثة البدانة جينيا من خلال الصِّبغيات الوارثية Chromosomes ووراثتها سلوكيا ومعرفيا من خلال تعلم أساليب الأكل والتعامل معه، لم يكن أبدًا بالأمر الذي خلصَ فيه العلماء إلى إجابةٍ محددةٍ وقاطعة، وقد اكتشفَ المورثُ المسئول عن استقلاب ثلاثي الجلسيريد Triglyceride وتم تحديده، كما تبين أن عيوبَ هذا المورث قد تتحملُ مسؤوليةَ بعض حالات البدانة، إلا أن ذلك لم يكن مفيدًا في فهم أسباب البدانة في معظم الحالات (Weigle,1990)، صحيحٌ أن هناكَ اختلافاتٍ بين الأفراد في تذوقهم للأكل وفي استمتاعهم بأصنافٍ معينةٍ عن أصناف أخرى، وهناكَ اختلافاتٍ بين الأفراد في نزوعهم للنشاط البدني مقابل عدم نزوعهم، ونستطيعُ أن نقول أن العامل الوراثي يؤثر في ما بين 40% و70% من الحالات (Barsh ,2000) إلا أن العوامل الوراثية في معظم إن لم يكن كل الأحيان لا تستطيعُ أن تكونَ سببًا وحيدًا لحدوث البدانة، خاصةً في عالمٍ تتوفرُ فيه الأغذية سهلةُ الأكل والبلع والغنيةُ بالسعرات، والمتفنن في تحسين طعمها، في نفس الوقت مع وسائل الاستغناء تكنولوجيا عن المجهود البدني (Kushner & Weinsier , 2000).
ونستطيع أن نقول أيضًا أن العوامل الوراثية تلعب دورًا في بعض حالات السمنة، وبخاصة السمنة المفرطة ويبدو أن العيب الخلقي في هذه الحالات يكمن في نقص بعض الإنزيمات اللازمة لعمليات الاستقلاب مما يترتب عليه تكوين مزيد من الدهون في الجسد، وتتميز حالات السمنة الوراثية بكبر أبعاد الجسد بصورة عامة، مع استدارة الرأس وضخامة الكفين والقدمين، كما أن عددَ الخلايا الدهنية في الجسد وكذلك طريقةُ تعامل الجسد مع الطاقة كلها عوامل تُحَدَّدُ بشكل حيوي وراثي إلى حد كبير.
وقد بينت الدراسات التي أجريت على التوائم أن نسبةَ التماثل في البدانة بين التوائم المتماثلة Monozygotic Twins، يصل إلى ضعف نسبة حدوثه في التوائم غير المتماثلة Dizygotic (Twins Stunkard et al.,1986)، وهو ما يبينُ أن المادةَ الوراثيةَ المشتركة كلما زادت بين الأشخاص كلما زاد تماثلهم في البدانة، أي أنها لابد تؤثرُ لأن التوائم غير المتماثلة يربونَ في نفس البيئة الأسرية والاجتماعية، مثلما هو الحالُ في التوائم المتماثلة، وعليه فلابد أن يرجعَ السبب في زيادة نسبة تماثلهم في البدانة إلى المادة الوراثية المشتركة ما بينهما، وفي دراسةٍ أحدثَ (Newman et al.,1990)، تمت دراسة مائتين وخمسين من التوائم المتماثلة من الرجال البيض مرةً عند بداية دخولهم للخدمة العسكرية ومرةً أخرى خلال ما بين 20 و34 عامًا بعد ذلك، فتبين أن متوسط الفارق بين التوأم الأثقل والتوأم الأقل وزنا كان في حدود 5,5 كجم، كما أظهرت دراسات البدانة في الأطفال أنه في 30% من الحالات يكون الأبوان بمصابين بالبدانة، رغم أنه في في ما بين 25% و35% من الحالات لا نجد أبوين بدينين للطفل البدين، ويبلغ خطر القابلية للبدانة في قريب من الدرجة الأولى للشخص البدين ضعف أو ثلاثة أضعاف الخطر لمن ليس له أقرباء من الدرجة الأولى مصابين بالبدانة.
وما يزال العلماء متفائلين فيما يتعلق بقدرتهم على فهم أكبر وأعمق للكيفية التي تورث بها البدانة، وتُطلقُ الأبحاث بين الحين والآخر معلومات عن جينٍ أو طفرةٍ وراثية في منطقة معينة من الصبغيات بوصفها ترتبط بالبدانة وتتلقف ذلك وسائل الإعلام المختلفة ومن أمثلة ذلك ما عرف بجين القشم، والحقيقة الموضوعية علميا هي أن هناك عددًا من المواضع الجينية التي ارتبطت بالبدانة في دراساتٍ علمية لكن قليلا منها هو ما تكرر إثباته في أكثر من دراسة (Meyre, et al., 2004)، وفي التحديث الحادي عشر لخريطة جينات البدانة في الإنسان يخلص العلماء إلى وجود ما يزيد على 600 جين وواسم جيني ومناطق على الصبغيات تصاحبُ أو ترتبط بالنمط الظاهري للبدانة (Perusse et al.,2005).
ويرى أصحاب النظرية التطورية في أسباب البدانة أن من المحتمل أن قدرة أجسادنا على خزن الدهون في أوقات الرخاء ووفرة الغذاء قد تناقلتها العوامل الوراثية على مرِّ الأجيال البشرية خلال آلاف السنين كصفات وراثيةٍ إيجابية، لتظهر في العقود الأخيرة من عمر البشرية كمشكلةٍ طبية واجتماعية مع التغيرات التكنولوجية التي شهدها المجتمع البشري أخيرا وجعلت من تلك الصفات صفاتٍ سلبية (Farooqi & O'Rahilly, 2005)، ومن المؤكد أن التأكيد على المنشأ الوراثي للبدانة يخففُ العبء النفسي والمعرفي عن المبتلين بها إلا أنه (باستثاء المتلازمات الطبية المرضية المصحوبة بالبدانة والموروثة عبر جينٍ واحد أحادية الجين Monogenic) فالثابت هو ضرورة تفاعل الاستعداد الوراثي الجَيْنائي (Polygenic) للبدانة وهو الأكثر شيوعا مع عوامل بيئية كوفرة الطعام وقلة التريض، أي مع ما تقدمه البيئة المعاصرة بامتياز، لتظهر البدانة في عصرنا الحالي كمشكلة تكاد تكونُ عامة وفي مختلف الشعوب.
إذن فرغم ذلك، ما تزال أهم أسباب السمنة هي العوامل الاجتماعية التي تؤدي إلى اكتساب عادات غذائية خاطئة، ومعظم العادات الغذائية، مثلها مثل أي عادة سلوكية أخرى، يتم اكتسابها في الصغر، كتناول الطعام طوال الوقت، سواء كان هناك شعور بالجوع أو لا! أو كما نرى في معظم أصحاب البدانة تناول أطعمة مختلفة بين الوجبات الرئيسة، وبعض الناس يقتصرون في طعامهم على الوجبات الرئيسة، لكنهم يجعلون تلك الوجبات احتفالاً بالطعام فيأكلون فوق الشبع وغالبًا ما تكون تلك الوجبات دسمة مكتظة بما لذَّ وطالب من صنوف الطعام؛ لذا فلا عجب أن يميل هؤلاء القوم إلى البدانة على الرغم من التزامهم بوجبات محددة، كذلك فإن الإقبال على الحلوى باختلاف ألوانها عادة غذائية غير صحية، وبينما يُقبل الصغار على الشيكولاتة وأنواع الحلوى ذات المحتوى العالي من السكر، يقبل الكبار على الحلوى الدسمة مثل الكيك والجاتوه وأنواع الفطائر الأخرى، والإكثار من الحلوى، في أي صورة كان، يؤدي إلى السمنة وفي كثير من المجتمعات، وبخاصة المجتمعات العربية، يعتبر تقديم الطعام للضيوف صورة من صور التكريم التي لا يجب إغفالها إلا لضرورة قاهرة! وفي ظل مثل هذه العادات الاجتماعية، تعتبر السمنة أمرًا متوقعًا ـ إن لم يكن شائعًا (عبد الرحمن النمر، 2002)!
ولكن علينا أن نتذكرَ دائمًا أن مقولةَ بدينٌ بالوراثة قد تصحُ جزئيا عند الحديث عن شخص أو مجموعة أشخاص ينتمون لعائلة ما، لكنها لا تستطيعُ أن تفسر الزيادة الهائلة في معدلات البدانة العالمية في العقود الأخيرة، فلم يحدثْ على مدار التاريخ أن كانَ الأسلافُ بهذا القدر من البدانة، وأسلافنا بالطبع هم مصدر مورثاتنا لأن المورثات لا تطير في الهواء وإنما تنتقل من جيل إلى جيل، أي أننا لا نستطيعُ أن نعفيَ أنفسنا من المسؤولية تماما، ويجبُ أن نكونَ في منتهى اليقظة عند تعاملنا مع المقولات التي تحاول إرجاع البدانة كليا إلى نقائص في بنيوية الكائن البشري لأننا غالبًا ما نجدُ تجار الدواء أو الأغذية المخفضة السعرات وراء تلك المقولات