الوحدة التاسعة عشرة:آياتها:275 - 281 صفحاتها:317 - 233 موضوعها: تحريم الربا مقدمة الوحدة النظام الإقتصادي الإسلامي مقابل النظام الربوي
الوجه الآخر المقابل للصدقة التي عرض دستورها في الدرس الماضي . . الوجه الكالح الطالح هو الربا !
الصدقة عطاء وسماحة , وطهارة وزكاة , وتعاون وتكافل . . والربا شح , وقذارة ودنس , وأثرة وفردية . .
والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد . والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه . من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده . ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر , أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئا . .
ومن ثم فهو - الربا - الوجه الآخر المقابل للصدقة . . الوجه الكالح الطالح !
لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب السمح الطاهر الجميل الودود ! عرضه عرضا منفرا , يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة . ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع , وفساد في الأرض وهلاك للعباد .
ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا . ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا - في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى - ولله الحكمة البالغة . فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره . ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر , ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث . فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت , تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية , أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى . ويدرك - من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام - يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة . وامامه اليوم من واقع العالم ما يصدق كل كلمة تصديقا حيا مباشرا واقعا . والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي , في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها . وتتلقى - حقا - حربا من الله تصب عليها النقمة والعذاب . . أفرادا وجماعات , وأمما وشعوبا , وهي لا تعتبر ولا تفيق !
وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه , ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة . . في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم .
أنهما نظامان متقابلان:النظام الإسلامي . والنظام الربوي ! وهما لا يلتقيان في تصور , ولا يتفقان في أساس ; ولا يتوافقان في نتيجة . . إن كلا منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة . وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف . . ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة , وكان هذا التهديد الرعيب !
إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي - ونظام الحياة كلها - على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود .
يقيمه على أساس أن الله - سبحانه - هو خالق هذا الكون . فهو خالق هذه الأرض , وهو خالق هذا الإنسان . . هو الذي وهب كل موجود وجوده . .
وإن الله - سبحانه - وهو مالك كل موجود بما أنه هو موجده قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض ; ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات , على عهد منه وشرط . ولم يترك له هذا الملكالعريض فوضى , يصنع فيه ما يشاء كيف شاء . وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة . استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله , وحسب شريعته . فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ . وما وقع منه مخالفا لشروط التعاقد فهو باطل موقوف . فإذا انفذه قوة وقسرا فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله . فالحاكمية في الأرض - كما هي في الكون كله - لله وحده . والناس - حاكمهم ومحكومهم - إنما يستمدون سلطاتهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه , وليس لهم - في جملتهم - أن يخرجوا عنها , لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد وليسوا ملاكا خالقين لما في أيديهم من أرزاق .
من بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله , فيكون بعضهم أولياء بعض , وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل - لا على قاعدة الشيوع المطلق كما تقول الماركسية . ولكن على أساس الملكية الفردية المقيدة - فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه . مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده وفيما يسره الله له - فلا يكون أحدهم كلا على أخيه أو على الجماعة وهو قادر كما بينا ذلك من قبل . وجعل الزكاة فريضة في المال محددة . والصدقة تطوعا غير محدد .
وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال , ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم ; وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم . ومن ثم تظل حاجتهم الاستهلاكية للمال والطيبات محدودة بحدود الاعتدال . وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة . وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره .
وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين , ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد , ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). .
وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل , والنظافة في الوسيلة والغاية , وفرض عليهم قيودا في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلا تؤذي ضمير الفرد وخلقه , أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها .
وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود ; وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض . .
ومن ثم فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور الإيماني إطلاقا ; ونظام يقوم على تصور آخر . تصور لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى . ومن ثم لا رعاية فيه للمباديء والغايات والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها .
إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر . فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء ; وهو غير مقيد بعهد من الله ; وغير ملزم باتباع أوامر الله !
ثم إن الفرد حر في وسائل حصوله على المال , وفي طرق تنميته , كما هو حر في التمتع به . غير ملتزم في شيء من هذا بعهد من الله أو شرط ; وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين . ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته . وقد تتدخل القوانين الوضعية أحيانا في الحدمن حريته هذه - جزئيا - في تحديد سعر الفائدة مثلا ; وفي منع أنواع من الاحتيال والنصب والغصب والنهب , والغش والضرر . ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم , وما تقودهم إليه أهواؤهم ; لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية !
كذلك يقوم على أساس تصور خاطىء فاسد . هو أن غاية الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال - بأية وسيلة - واستمتاعه به على النحو الذي يهوى ! ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به ; ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين !
ثم ينشىء في النهاية نظاما يسحق البشرية سحقا , ويشقيها في حياتها أفرادا وجماعات ودولا وشعوبا , لمصلحة حفنة من المرابين ; ويحطها أخلاقيا ونفسيا وعصبيا ; ويحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد البشري نموا سويا . . وينتهي - كما انتهى في العصر الحديث - إلى تركيز السلطة الحقيقية والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق الله وأشدهم شرا ; وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلا ولا ذمة , ولا يراقبون فيها عهدا ولا حرمة . . وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفرادا , كما يداينون الحكومات والشعوب - في داخل بلادهم وفي خارجها - وترجع إليهم الحصيلة الحقيقية لجهد البشرية كلها , وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم , في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهدا !
وهم لا يملكون المال وحده . . إنما يملكون النفوذ . . ولما لم تكن لهم مبادىء ولا أخلاق ولا تصور ديني أو أخلاقي على الإطلاق ; بل لما كانوا يسخرون من حكاية الأديان والأخلاق والمثل والمبادىء ; فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكونه في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال , ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم . . وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات , التي يدفع فيها الكثيرون آخر فلس يملكونه , حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة ! وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة , مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد ; وإلى انحراف الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما فيه مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة المملوين المرابين , الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية !
والكارثة التي تمت في العصر الحديث - ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية - هي أن هؤلاء المرابين - الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية - قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها , وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها . . سواء في ذلك الصحف والكتب والجامعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها . . أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابون عظامهم ولحومهم , ويشربون عرقهم ودماءهم في ظل النظام الربوي . . هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول , والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي ; وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب . وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين - غير العمليين - وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع ; وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه ! حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايابائسة لهذا النظام ذاته ! ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه . الذي تضطره عصابات المرابين العالمية لأن يجري جريانا غير طبيعي ولا سوي . ويتعرض للهزات الدورية المنظمة ! وينحرف عن أن يكون نافعا للبشرية كلها , إلى أن يكون وقفا على حفنة من الذئاب قليلة !
إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة - وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم ; وهم قد نشأوا في ظله , وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق . وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة "دكتور شاخت" الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقا . وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953 أنه بعملية رياضية [ غير متناهية ] يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين . ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية ; بينما المدين معرض للربح والخسارة . ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد - بالحساب الرياضي - أن يصير إلى الذي يربح دائما ! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل . فإن معظم مال الأرض الآن يملكه - ملكا حقيقيا - بضعة الوف ! أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك , والعمال , وغيرهم , فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال , ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف ! .
وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة . فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة . فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة . ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة ; ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال , لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء . . عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين ; وتضيق المصانع دائرة انتاجها , ويتعطل العمال , فتقل القدرة على الشراء . وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد , ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف , يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطرارا . فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد , وتعود دورة الحياة إلى الرخاء . . وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية . ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة !
ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين . فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين . فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية . أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية كذلك . إذ أن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها . وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف . . وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد , ولا يكون الاستعمار هو نهاية الديون . . ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار !