د. محمد عمارة سلفي بعقله عقلاني بقلبه
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
الدكتور محمد عمارة أشهر من نار على علم في عالم الفكر في عالمنا الإسلامي، بدأ حياته اشتراكياً حتى صار فيلسوف الاشتراكية المقدَّم، وبينما هم به فرحون مَنَّ الله عليه بالتحول عن الفكر الاشتراكي لينضم إلى الركب الإسلامي.
قصة تكررت عدة مرات عبر التاريخ مصداقاً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).
ولكن من هذه النماذج مَن تحوَّل تحولاً مفاجئاً ودراماتيكياً، ومنهم من إذا اقتنع بفكرة مجملة تخالف ما هو عليه أخذ بأقرب تفسيراتها لما هو عليه حتى وإن كان أضعف حجة، ومن هؤلاء -فيما نرى- الدكتور محمد عمارة الذي كان تحوله من الاشتراكية إلى الدعوة الإسلامية من أكبر خسائر العلمانيين بصفة عامة، والاشتراكيين بصفة خاصة.
إلا أن الدكتور عمارة قد انحاز انحيازاً كبيراً للتيار العقلاني، بل وتبنى صورته التي أفـَلَت شمسها من قديم، فأقدم على نشر مجلد ضخم تحت عنوان "من تراث العقلانية الإسلامية"، نشر فيه الكثير من رسائل المعتزلة التي تخالف عقيدة أهل السنة والجماعة مخالفة فجةً وصريحةً.
ويبدو أن الدكتور عمارة استمر في بحثه وتدرجه حتى خرج علينا بدراسة في سلسلة حول شيخ الإسلام ابن تيمية تنشرها جريدة المصريون الإلكترونية على حلقات الآن.
الدراسة فيها ثناء لو طلب من أحد السلفيين المنتسبين لابن تيمية أن يكتب عن ابن تيمية لن يجد أكثر منه، وإلا كان غلواً، فابن تيمية في نظر الدكتور عمارة هو مجدد النهضة الإسلامية من عصره إلى عصرنا هذا، وكتابات ابن تيمية هي الملهمة لكل حركات الإصلاح التي جاءت بعده إلى يومنا هذا، وابن تيمية هو الذي جمع بين المعقول والمنقول....الخ.
كل ذلك مدعم بشهادات قديمة وحديثة من رموز لها ثقلها في ميدان الدعوة إلى الله، إلا أنه يُلاحَظ في ذلك ملاحظتان:
الأولى: تتعلق بالإشارة المتكررة إلى رحابة صدر ابن تيمية مع مخالفيه لاسيما من سبقوه ممن لهم فضل كالإمام أبي الحسن الأشعري، وكالإمام الغزالي.
الثانية: وهي المتممة للأولى أن الدكتور عمارة كلما نقل نقلاً فيه مقارنة بين ابن تيمية والأشعري أو ابن تيمية والغزالي عقَّب على ذلك بأنه (أي الدكتور عمارة) لا يوافق على هذا النقد الضمني لمنهج الأشعري، وكذلك لا يوافق -وبدرجة أكبر- على نقد المنهج الإصلاحي لحجة الإسلام الغزالي الذي يرى أن مشروعه لا يقل روعة عن مشروع ابن تيمية، وأن ابن تيمية قد أفاد من مشروع الغزالي الإصلاحي.
وأما النقطة الأولى فهي إحدى خصائص منهج شيخ الإسلام ابن تيمية الذي عزا معظم الخلاف بين الناس إلى الإجمال حيث يجب التفصيل، وبالتالي كان العلاج عنده في التفصيل كلما أمكن، فلا يمكن أن تصف رجلاً بأن كل ما عنده شر لاسيما إن كان مسلماً، ولا يمكن أن تصف آخر بأن كل ما عنده خير اللهم إلا إن كان نبياً، ولذلك فكان شيخ الإسلام كثيراً ما يلجأ إلى التفصيل لاسيما إن سئل عن الفرق والنِحـَل والأشخاص، وكان إذا أجمَل ذكَر الإنسان بغالب حاله إن خيراً وإن شراً.
ورغم أن شيخ الإسلام قد نبه إلى خطورة الإجمال حيث يجب التفصيل، إلا أن الكثيرين من المنبهرين بفكر ابن تيمية في الجملة -ولكن لهم قناعات مختلفة عن قناعاته- ربما يحاولون إثبات أن ابن تيمية كان موافقاً أو على الأقل مقارباً لهم في بعض أفكارهم تمسكاً ببعض أقوال ابن تيمية دون الرجوع إلى البعض الآخر، وعلى ذلك فلا يمكن لقارئ جيد لفكر ابن تيمية -لاسيما إن كان في وزن الدكتورة عمارة- أن يغيب عنه الخصومة الفكرية الشديدة بين ابن تيمية وبين المنهج المنسوب للإمام أبي الحسن الأشعري في مرحلته الوسيطة أثناء تصديه لتيار الاعتزال، مع أنه ينكر عليه التفاصيل التي صارت علماً على منهجه فيما بعد، وأن ثناءه المطلق عليه إنما كان على ما يراه هو -أي ابن تيمية وهو الثابت تاريخياً إن شاء الله- من أن أبا الحسن الأشعري رجع إلى مذهب أهل السنة فلا يمكن أن يستدل أحد بهذا الثناء المطلق، ويطلقه على المرحلة الوسيطة من حياة الإمام الأشعري.
ومثل ذلك يقال عن الغزالي الذي أثنى ابن تيمية على فقهه وعلى نقده للفلسفة، ولكنه عاب عليه قصر باعه في الحديث ووقوعه في شبهات المنطقيين وخرافات الصوفية، ولذلك فإننا نربأ بأي باحث أياً من كان من أنه إذا أعجب بشخصية تاريخية أن يحاول تغيير آراء هذه الشخصية قسراً لتتماشى مع آرائه هو، بل ينبغي أن يحافظ على الفصل بين إعجابه العام بالشخصية وبين اختلافه معها.
بالإضافة إلى أن الاختلاف مع الشخصيات العظام كابن تيمية غالباً ما يكون دافعاً إلى مزيد من البحث الذي قد يقود صاحبه إلى تغيير بعض قناعاته، ولذلك لم يحاول شيخ الإسلام - ولا أحد من دعاة السلفية بعده فيما نعلم- أن ينسب نفسه جملة وتفصيلاً لأبي حامد الغزالي، ولا أن يقدم للناس غزالياً آخر رغم أن السلفيين يملكون المسوغ الأدبي الذي يستطيعون معه نسبة الغزالي إليهم وهو موته في آخر عمره وصحيح البخاري على صدره، ودعوته إلى العودة إلى عقيدة السلف، ولكن ستبقى هذه دعوة مجملة، ويبقى التراث الغزير للغزالي عقلانياً حيناً، وصوفياً كشفياً حيناً آخر، وإن كان تراثه الفقهي والأصولي والسلوكي مع التحفظ المشار إليه آنفاً سيبقى محل انتفاع من السلفيين بعد تمريره على مرشَِّحات سلفية.
ومن باب أن الشيء بالشيء يذكر فإننا ننبه هنا إلى أن البعض قد خطا خطوات أوسع من تلك الخطوات التي خطاها الدكتور محمد عمارة حينما طالب السلفيين بأن يتبعوا آثار إمامهم ابن تيمية في سعة صدره وفي قبوله للآخر هكذا دونما أن يبين لنا من ذلك الآخر، علماً بأنه ما من آخر -غير أهل السنة- إلا ولابن تيمية أو لأحد تلامذته رد مفحم عليه، جواباً صحيحاً أو صارماً مسلولاً أو صواعقاً مرسلة أو صارماً منكياً.
وأما النقطة الثانية، وهي تشمل أمرين:
الأول: المقارنة بين مشروع ابن تيمية ومشروع الغزالي ومشروع الأشعري -رحمهم الله تعالى-.
الثاني: إذا سلمنا بالتمايز بل التصادم بين مشروع ابن تيمية وبين المشروعات العقلانية، فيبقى السؤال هل استفاد ابن تيمية من هذه المشروعات أم لا؟
أما الأمر الأول فقد سبق في الملاحظة الأولى توضيح وجود تمايز بل تصادم في أبواب هامة من العقيدة، بيَّنها ابن تيمية بجلاء ووضوح في رسائله في العقيدة لاسيما في الأسماء والصفات، وفي مسائل الإيمان والكفر، وفي القدر، ولشيخ الإسلام في كل باب من هذه الأبواب رسائل مشهورة كالواسطية، والإيمان، أو القصيدة التائية، بالإضافة إلى فتاوى متفرقة وصف فيها منهج الأشعري بأنه لا يختلف عن مذهب جهم في الإيمان، ووصفه بأنه أحد فروع التجهم في الصفات، ووصفه بالجبر في القدر مع أدب جم من شيخ الإسلام مع شخص الأشعري لا مع منهجه لرجوع الأشعري إلى مذهب أهل السنة بعد ذلك رغم أن أصحابه لا يقرون بذلك.
وكذلك تحلى ابن تيمية بأدب جم مع أئمة المذهب الأشعري كالباقلاني والجويني والغزالي لمنزلتهم الفقهية، ولتصديهم للمعتزلة مع أن عباراته في تبديع المذهب الأشعري كانت واضحة لا خفاء فيها ولا لبس.
كما أن ردوده على طريقة تهذيب السلوك الصوفية مبثوثة في معظم كتبه وفتاويه عن الصوفية والفقراء وغيرهم، وبعضها كانت عن الغزالي وعن كتابه الإحياء.
وأما الجزئية الثانية وهي: هل استفاد ابن تيمية من المشروع الفكري للإمام الأشعري في مرحلته الوسيطة؟ وهل استفاد من المشروع الإصلاحي للغزالي؟ وهل يعتبر ابن تيمية امتداداً للغزالي؟
فهذه مسائل قد يرى كثير من السلفيين أن إمامهم السلفي أعلى قدراً من أن يكون قد تأثر بهذه المدارس مع أن ذلك لا يعيبه، بل ربما يزينه أن يكون الناقد البصير الذي يعرف ما يأتي وما يذر.
ولعله من المنصف تاريخياً أن نقول: إن النهضة العلمية التي بدأها نظام الملك ومعه الجويني ثم الغزالي قد مهدت الطريق لابن تيمية -رحمهم الله جميعاً-، وأن ابن تيمية وجد الأرض وقد حرثت وبذرت فيها بذورٌ بعضها صالح وبعضها غير ذلك، فقام هو بإعادة ترتيب الأوضاع وتمحيص السني من البدعي، حتى استوى مشروع النهضة الإسلامية على يديه، وبلغ أشده.
وعلى أية حال فالمسألة تاريخية ولا أظن أن أحداً من السلفيين سوف يمانع من الاعتراف بهذا متى ثبت له ذلك تاريخياً.
وأما أن ابن تيمية قد نسج على منوال الأشعري، فلا أظن أنه يخفى على أحد أن ابن تيمية قد فعل ذلك، بل وبيَّن الآفة التي منعت الأشعري من تمام مشروعه على المنهج السني، ومن ثَمَّ لمَّا تلافاها هو كان له التوفيق بإذن الله، وذلك أن الأشعري - كما يصفه ابن تيمية - أراد أن يرد على المعتزلة بطريقتهم، ولكن كانت معرفته بالحق إجمالية، ومعرفته بالباطل تفصيلية فوافق المعتزلة في بعض أصولهم دون أن يدري.
فنستنبط من مفهوم هذا الكلام أن ابن تيمية رد على المعتزلة وغيرهم بطريقتهم، ولكن بعد أن تمكن من المعرفة التفصيلية بالحق مع المعرفة التفصيلية أيضاً بالباطل، فأصبح الفرق بين الأشعري وابن تيمية -مع أن كليهما كان ذكياً ألمعياً- مثل الفرق بين الطالب الذي يُعطى معضلاتٍ لحلها فيصيب حيناً ويخطئ حيناً، وبين طالب في نفس درجة ذكاء الأول يُعطى أمثلةً محلولةً ويطلب منه فهمها وفك رموزها، وكان المثال محلولاً عند ابن تيمية بالمعرفة التفصيلية بالحق كتاباً وسنة وأقوالاً للسلف.
وهذا أحد أسرار قوة حجة هذا الإمام الذي لا يقرأ منصف تراثه إلا وقف منبهراً به وبقوة حجته فضلاً عن انبهاره بقوة شخصيته، وجمعه بين العلم والعمل في صورة قلما تتكرر في التاريخ الإسلامي.
وأخيراً فالسلفيون ليسوا كما وصفهم الأستاذ جمال سلطان في -جريدة المصريون أيضاً- بارعون في خسارة تعاطف الناس وودهم، أو على الأقل ليسوا كلهم بل ولا معظمهم كذلك.
فذلك فنحن نرحب أن ينتقل مُنَظِّر اشتراكي كبير في حجم الدكتور عمارة عن الاشتراكية، وإن كان قد انتقل منها إلى العقلانية، ومازلنا نتابع إعجابه البالغ بابن تيمية لعلنا نراه قريباً من دعاة السلفية، وما ذلك على الله بعزيز.
إن المتابع لكلام الدكتور عمارة يجد أنه قد أعطى كل عقله لابن تيمية بينما مازال قلبه لا يستطيع أن يخطئ رموز العقلانية القدماء كالغزالي، والمعاصرين كمحمد عبده، فلم يستطع أن يخطئهم في اجتهادات جوهرية.
ولو أنه تمَعَّن قليلاً في طريقة ابن تيمية في التعامل مع الرجال -لاسيما من أفضى منهم إلى ما قدَّم، حيث يسعه تعظيم حسناتهم مع استدراك أخطائهم، والاعتذار لهم عنها بكل ما أمكن من أعذار طالما أنكرنا الخطأ ذاته وتبرأنا منه - لوجد في ذلك مخرجاً يجمع فيه بين الانتصار للحق وبين حفظ الجميل لرجال أَثْرَوا الحركة الإسلامية قديماً وحديثاً رغم ما عندهم من بدع أو انحرافات.
تجربة الدكتور عمارة تذكرنا بتجربة الأستاذ "محمد رشيد رضا" الذي سيبقى مثالاً فذاً للتجرد والإنصاف، حينما تحول عن المشروع العقلاني وهو آنذاك إمامه الأوحد، على الرغم من العلاقة القوية بينه وبين رائد المدرسة العقلانية قبله الشيخ محمد عبده.
ورغم أن الأستاذ رشيد رضا لم تتسنى له فرصة مراجعة كل كتاباته لآرائه القديمة وفق المنظور السلفي إلا أنه وبهذا الانتصار للحق لقب بأبي السلفية في مصر، رغم بعض المآخذ عليه.
فهل نأمل أن نرى من الدكتور عمارة "محمد رشيد رضا" جديدا، هذا ما نتمناه من كل قلوبنا، وما ذلك على الله بعزيز.