الإعلام... وصناعة الوهم
كتبه أحمد عبد الحميد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
صناعة الوهم... تعتبر هي الصفة الرئيسية لصناعة الإعلام. يقول أحد كبار الباحثين الغربيين: إن صناعة الإعلام هي أكبر خدعة في القرن العشرين. وحياة الأوهام والخداع هنا تتم بالتراضي بين جميع الأطراف تحت شعار: (دعني أخدعك... دعني أنخدع).
فعلى سبيل المثال الذي يجلس لمشاهدة تمثيلية يعرف أن صُنَّاعها كاذبين، والأحداث متخيَّلة، والانفعالات مصطنعة، والبطل الذي مات سيراه على قناة أخرى في مسلسل آخر، وهكذا تتكامل حلقات الوهم؛ فكيف تحتمل النفس البشرية حياة الكذب والأوهام هذه، بينما هي غارقة حتى النخاع في التفاصيل الواقعية اليومية؟! وهل يبقى للإنسان بعد ذلك أي نوع من الصحة النفسية؟
هذا مجرد مثال، وحتى لا نطيل في المقدمة فلنتناول صوراً مما يعرض على وسائل الإعلام مما له أكبر الأثر في إتلاف حياة الناس.
- فعُنْصُرا الموسيقى والغناء من أهم عناصر صناعة الإعلام، سواء كان ذلك في صورة أغاني صريحة، أو مؤثرات صوتية وخلفيات للأحداث، بما فيها ما يعرض في نشرات الأخبار الجادة، وبين الموسيقى الناعمة الحالمة، والأخرى الجادة الصارمة، يضطرب قلب السامع فربما يبكي حرقة، أو ينتفض مذعوراً في مكانه، ويبقى في حالة مَُنْتَحَلة من المشاعر الكاذبة المتقلِّبة بتقلُّب المعروض أمامه.
والنفس تحتاج إلى قدر من الثبات في المشاعر حتى يكون للحزن أو الفرح قيمة ترويحاً أو تسكيناً. فتخيل نفسك تركب أرجوحة من المشاعر، هل تستقر؟ ولعل هذا من حِكَم تحريم المعازف، والشرع لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر، ولو كان في الموسيقى خير لأباحها الشرع، والواقع يشهد بأنه لا يُجْتَنَى من ورائها إلا المرارة.
- وكذلك يقوم الإعلام على عرض نماذج شكلية نمطية للرجال والنساء (موديلز)، وفق مقاييس معينة لا تتوفر إلا في فئة محدودة من البشر، وعلى الكل أن يتسابق بعد ذلك للوصول لهذه المقاييس التي لا تعدو كونها شكلاًَ معيناًَ للحواجب، أو طولاً معيناً للشعر، أو حجماً معيناً للجسم إلى آخر صور التفاهة هذه. والانتشار المريب لجراحات التجميل النسائية والرجالية، والرواج الفائق لأدوات التجميل ومراكزه أوضح الأدلة على حالة الهزيمة النفسية التي يعاني منها الرجال والنساء، وعُقَد النَّقْص الضاغطة عليهم حتى يصلوا إلى هذا النموذج النمطي للجمال أو ذاك، والذي يتغير كل وقت حسب أمزجة صناع الخبائث تلك. فلا يرضى كل واحد بخلقته، بل يسعى في تغيير خلق الله؛ طلباً لمدح الناس، وهروباً من ذمهم، مما يربي في نفوس الناس الاهتمام بالخلق، وعدم مراقبة الخالق، وكفى بذلك هماً وسبباً للكآبة.
- وكنتيجة لهذا الخَبَث كلِّه تدُبُّ الغيرة في قلوب النساء الطبيعيات، وتدخل الفتنة في قلوب أزواجهن؛ لأن الواقع شئ وما يعرض على الشاشة شئ آخر لا يمكن تحصيله، فكيف يمكن لامرأة مهما بلغت درجة فراغها وترفهها أن تبقى بهذه الصورة البهية طوال الوقت؟! وكيف يمكن لرجل جاد مهموم بطلب الرزق أن يتفرغ للمرآة كل هذا الوقت؟! وأني له أن يكون مثل ذلك البطل الوسيم المفتول العضلات في الوقت ذاته، والذي يصْرَع جميع أعدائه بصيحة صارمة، أو بنظرة حارقة؟! وبالتالي تضطرب البيوت، وتأكلها نيران الغيرة والاحتقار المتبادل بين الزوج وزوجه؛ فكل منهما دون طموحات الآخر وأمانيه.
- ومن نفس الباب الصورة التي تُرَوَّج للفنانين ونجوم المجتمع -زعموا- فهي صورة متأنقة، لامعة براقة تخطف الأبصار، ليس فيها غبار طريق أو عرق جبين من شدة الحر أو إرهاق العمل؛ فمن الطبيعي أن يتنقل كل إنسان بين مكيفات الهواء في سيارته ومنزله وعمله -إن كان له عمل أصلاً- وإلا فكيف يكون إنساناً من الأساس من لا يملك مكيفاً في كل مكان ينزل به؟!!
ومن حق النجم على الناس أن يتعرفوا على كيفية لبسه وأكله وشربه، وهواياته وآخر أخبار زواجه أو طلاقه، وأن يمضوا الساعات الطوال في مشاهدة ذلك، وأن ينفقوا الأموال على شراء المجلات التي تتحدث عن هذه الأخبار التافهة المملة.
وصناعة الرموز الوهمية هذه من أخطر أسباب الاكتئاب، فالنجوم هم الفنانون ولاعبو الكرة، وما على الإنسان حتى يصبح ناجحاً وثرياً إلا أن يكون أحد الصنفين، وحينها ستفتح له خزائن الأرض، وستتهافت وسائل الإعلام على نيل رضاه السامي.
ومن أكثر الصور النمطية شيوعاً في وسائل الإعلام: صورة الفقير البائس الذي بلغ أعلى درجات السلم الاجتماعي فقط؛ لأنه أصبح مغنياً أو لاعباً. أما أن يكون الإنسان تقياً خفياً قانعاً برزقه الحلال، أو مجتهداً مثابراً في عمل حقيقي منتج أو في طلب علم نافع دينياً أو دنيوياً فهذا أمر لا محل له من الاحترام.
فالشهرة هي الهدف، والثراء الفاحش هو الحياة الحقيقية، وما سوى ذلك قبض الريح.
ومن الناحية العملية فلعب الكرة أو حتى الغناء يحتاج إلى مهارات خاصة، لا يملكها أكثر الناس، وبالتالي تكتفي الأكثرية بالمتابعة والتحسر على كون هذا سميناً بعض الشيء، أو كون الآخر غليظ الصوت كالرجال، فهو ليس مُخَنََّثا بما يكفي لممارسة الغناء.
- والمتابع لمسابقات صناعة المُخَنَّثين كـ (ستار أكاديمي) وأخواتها يرى هذا اللهاث المحموم من الرجال والنساء على ركوب قطار الوهم، ومن فاته القطار فلا تعزية له.
وصار معتاداً أن تسمع أن الشاب الفلاني ضَحَّى بامتحاناته الدراسية في سبيل كفاحه الفني، من أجل أن يلحق بموعد المسابقة. فماذا ستعطيه الدراسة ولو بعد سنين؟ وهذا المفهوم دأبت وسائل الإعلام على ترسيخه بكل الطرق المباشرة وغير المباشرة، وسنأتي عليه لاحقاً إن شاء الله.
- ومن أخصب المواد في وسائل الإعلام: قصص العشق المحرم، سواء على هيئة أفلام أو قصص منشورة، أو في صورة أخبار حقيقية، أو إشاعات، أو في صفحات الحوادث، أو حتى على هيئة استشارات نفسية في البرامج المخصصة لذلك، أو في أبواب صحفية من نوعية (طبيب القلوب).
وهذا كله نوع من إشاعة الفاحشة في المجتمع، وعواقب ذلك وخيمة، حيث تبقى هذه القصص مادة للترفيه المُحَرَّم الذي يعود على متلقيه بأنواع من الكآبة والضيق لا يعلم حدها إلا الله. خاصة ما يعتري الناس من رغبة في التقمص لهذه الصور- حتى المَرَضِّية منها-، وكم من صور للجريمة بأنواعها لم تَرُج في المجتمعات إلا كنتيجة لطرحها في وسائل الإعلام على عوام الناس وضعاف النفوس!
يُتْبَع إن شاء الله.