لما نزل قوله تعالى: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً {2} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً {3} }(1)، وكان ذلك في حجة الواع، علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد نعيت إليه نفسه، ولا ريب أن الأحداث العظيمة يسبقها من الإرهاصات و العلامات ما يشير إلى قرب وقوعها، وقد تم فتح مكة أم القرى في السنة الثامنة للهجرة، وفي السنة التاسعة أقبلت الوفود تقر بالإسلام، أو تعطي الجزية عن يد وهم صاغرون، وأرهب جيش العسرة الذي خرج به النبي صلى الله عليه وسلم جحافل الروم حتى فروا من مواجهته، ودانت جزيرة العرب بالإسلام، وكان ذلك بعد عشرين سنة من الجهاد المتواصل الذي خاضه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، فكل العلامات تشير إلى انتهاء مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وأصبح على الناس محجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فكأن الله يخبره : أنك إذا فتحت مكة ـ وهي قريتك التي أخرجتك ـ ودخل الناس في دين الله أفواجا، فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا، فتهيأ للقدوم علينا، والوفود إلينا، فالآخرة خير لك من الدنيا، ولسوف يعطيك ربك فترضى، ولهذا قال: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً }، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، حين أنزلت ـ يعني هذه السورة ـ فأخذ في أشد ما كان اجتهاداً في أمر الآخرة، فمن ذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم يعتكف كل سنة عشراً في رمضان، فاعتكف في السنة الآخيرة عشرين ليلة، وكان جبريل يعارضه القرآن مرة في رمضان، فعارضه في السنة الأخيرة مرتين، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض بقرب أجله، فمن ذلك قوله لمعاذ وهو يودعه إلى اليمن: ( عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك تمر بمسجدي هذا وقبري!) وأخذ يرغب أصحابه في كثرة ملازمته والجلوس إليه صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرموا ذلك، ويتمنى أحدهم لو رآه بأهله وماله،( والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثم لأن يرآني أحب إليه من أهله وماله معهم ) ولما أراد أن يحج حجته التي لم يحج بعدها ـ بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ـ أعلم الناس بنيته حتى يحرصوا على الحج معه والاستفادة منه، وجعل يقول: ( خذوا عني مناسككم، فإني لا أدري! لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )، وطفق يودع الناس، وفي يوم عرفة من حجة الوداع نزل قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً }(1) وقد تتابع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته كما قال أنس رضي الله عنه حتى توفاه الله أكثر ما كان الوحى، وذلك أن الوفود كثروا بعد فتح مكة وكثر سؤالهم عن الأحكام ، فكثر النزول بسبب ذلك، ومن أواخر ما نزل قوله تعالى: { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }(2).
ولما ازداد شعور النبي صلى الله عليه وسلم بقرب اللقاء خطب الناس فقال: ( إن عبداً خيره الله بين الدنيا، وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله )، فبكى أبو بكر رضي الله عنه ثم قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، فتعجب الناس من بكائه، ولم يفطنوا لما فطن إليه، فكان أبو بكر أعلمهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد المخير. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرطكم وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وأني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدى، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها. وقد بدأت آلام النبي صلى الله عليه وسلم صداعاً وجده في بيت عائشة رضي الله عنها حتى ثقل عليه الوجع، فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها، فأذنّ له لما علمن من ارتياحه لخدمتها له، وقد استغرق مرضه عشرة أيام وقيل ثلاث عشر يوماً، وكان يقول لعائشة مازلت أجد ألم الطعام الذي أكلته في خيبر، يعني الشاة المسمومة التي قدمتها له المرأة اليهودية، وكانت عائشة تقرأ المعوذتين، وتمسح بيده صلى الله عليه وسلم لبركتها، ولما ازدادت حرارة جسمه طلب أن يصب عليه سبع قرب من ماء حتى يخرج إلى الناس فيعهد إليهم، ففعلوا حتى طفق يقول: ( حسبكم حسبكم ) ثم عصب رأسه ودخل المسجد، وصعد المنبر وخطب الناس قائلاً: ( قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) تقول عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا، وذلك من حمايته صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، ثم خاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى فأشار إلى ذم من يفعل ذلك، وجعل يوصي بالصلاة والرقيق ويكرر ذلك، ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم )، وأوصى بالأنصار خيراً، كما أوصى بإخراج المشركين من جزيرة العرب، ( لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ) ووصى بإجازة الوفود على نحو ما كان يخبرها صلى الله عليه وسلم، ووصى بالاعتصام بالكتاب والسنة، وأوصى أن تغلق الأبواب المفتوحة بالمسجد إلا باب أبي بكر رضي الله عنه، وقال: إن أمنَ الناس على في صحبته وماله أبو بكر ولوكنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، ألا لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر، وهذا من الإشارات العديدة إلى استخلافه رضي الله عنه، ومن ذلك أنه لما اشتد عليه الوجع قال: مروا أبا بكر يصلى بالناس، وقال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، فلعن الله قوماً يؤخرون مَن قدمه الله ورسوله والمسلمون، ولا يقرون للشيخين منزلتهما ـ أبي بكر وعمر ـ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا فاطمة رضي الله عنها فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت، فسألتها عائشة بما لها عليها من حق، فقالت: ما كنت لأفشي سر أبي! ثم سألتها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنه أخبرها أنه يموت فبكت، وأخبرها أنها أول من يلحق به من أهله فضحكت، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين! فضحكت لذلك رضي الله عنها وازدادت وطأة المرض على النبي صلى الله عليه وسلم، ورأت فاطمة رضي الله عنها وجعه الشديد فقالت، واكرب أباه: فقال لها: ( ليس على أبيك كرب بعد اليوم ).
تقول عائشة ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إنك لتوعك وعكاً شديداً ! فقال أجل! إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، وظل أبو بكر يصلى بالناس حتى صبيحة اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه أراد أن يودع أمته فكشف في صلاة الفجر ستر حجرة عائشة، ونظر إلى صفوف المسلمين وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم وضحك، وهم المسلمون أن يفتتنوا فرحاً بخروجه، وتأخر أبو بكر ظاناً أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يعود إلى مكانه في إمامة الناس، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
ولما حضرته الوفاة أسند صدره إلى عائشة، فدخل أخوها عبد الرحمن بسواك، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه أعجبه، فأخذته عائشة فلينته وأعدته، فاستن به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بين يديه علبة فيها ماء، فجعل يمسح بها وجهه ويقول: ( لا إله إلا الله ،إن للموت لسكرات )، وأخذته بحة وهو يقول: ( مع الذين أنعم الله عليهم، اللهم الرفيق الأعلى، فكانت آخر كلمة قالها ).
قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أبتاه! أجاب رباً دعاه! يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه!، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه، واضطرب المسلمون، فمنهم من دهش وخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، وقال إنما بعث إليه، حتى جاء أبو بكر وكشف عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أقبل عليه يقبله، ثم قام بتثبيت الناس: فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات! ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلى قوله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ }(1)، ثم غسلوا النبي صلى الله عليه وسلم في ثوبه، وكفنوه، وصلوا عليه أرسالاً أرسالاً، يدخلون من باب ويخرجون من الآخر.