كانت غزوة بدر موقعة فاصلة في تاريخ الإسلام، نال من شهدها من الصحابة رضى الله عنهم من التكريم ما لم ينل غيرهم على مر الدهور.
ظهر فيها استعلاء الإيمان واضحاً جلياً، حين التقى الأب بابنه، والأخ بأخيه، خالفت بينهم العقيدة، فحكمت بينهم السيوف.
تخلف عن هذه الغزوة كثير من الصحابة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعزم عليهم بالخروج، إذ لم يكن يتوقع أن يكون القتال على هذا النحو الذي حدث، فإنهم خرجوا لأخذ قافلة أبي سفيان التجارية ولم يعلموا أنهم سيواجهون جيش قريش.
لم يأخذ المسلمون أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيراً يتناوبون عليها، بينما كان مع المشركين مائة فرس، وستمائة درع وعير كثيرة، وكان عدد المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف المسلمين.
لكن! متى كان المسلمون يُنصرون بعددهم وعدتهم ؟ إنما يُنصرون بتوكلهم على الله وإيمانهم به، وصدق لجوئهم إليه، مع الأخذ بالأسباب المستطاعة.
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن المواجهة وشيكة قال: أشيروا علىَّ أيها الناس! فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله: " امض لما أراك الله، فنحن معك! والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكم مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه " فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له به.
وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين وهم أقلية في الجيش، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرف رأى قادة الأنصار، لأنهم يمثلون أغلبية الجيش، ولأن نصوص بيعة العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم، فقال: أشيروا على أيها الناس وإنما يريد الأنصار! ففطن إلى ذلك سعد بن معاذ ـ وكان قائد الأنصار وحامل لوائهم ـ فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل، قال: فقد آمنا بك فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، وصدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسرْ على بركة الله . فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك. ثم قال: سيروا وأبشروا، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، واقترح سعد بن معاذ أن يبني عريشاً للنبي صلى الله عليه وسلم يكون فيه بمأمن.
وبات رسول الله يجأر إلى الله بالدعاء ويقول: [ اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداه ]، وظل يناشد ربه متضرعاً وخاشعاً وهو يبسط كفيه إلى السماء حتى أشفق عليه أبو بكر، فالتزمه من وراءه وقال له: يا رسول الله أبشر فوالذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك، وأقبل المسلمون يستنصرون الله ويستغيثونه ويخلصون له في الضراعة.
وكانت بداية القتال بالمبارزة فخرج من صفوف المشركين ثلاثة نفر: عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة، والوليد بن عتبة، فتصدى لهم من المسلمين على بن أبى طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث، وقتلوهم في لحظات يسيرة، فاستشاط الكفار غضباً للبداية السيئة التي صادفتهم، فأمطروا المسلمين وابلاً من سهامهم، ثم حمى الوسيط وتهادت السيوف وتصايح المسلمون أحد أحد، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشاً وقال شاهت الوجوه، ثم نفخهم بها فلم يبق فيهم رجل إلا امتلأت عيناه منها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، فقال عمير بن الحمام : بخ بخ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملك على قول بخ بخ؟ فقال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها! قال: فإنك من أهلها ، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهم ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمرات ثم قاتلهم حتى قتل!
وأيد الله يومئذ المسلمين بالملائكة يقاتلون إلى جانبهم، وقتل في هذه الموقعة سبعون من صناديد المشركين، منهم أبو جهل قائد المشركين، قتله غلامان من غلمان الأنصار حمية لله ورسوله، لمجرد أنهما سمعا أن عدو الله يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونا يعرفانه حتى دلهما عليه عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه، وأسر يومئذ سبعون آخرون من المشركين. واستشهد من المسلمين ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار فقط.
ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جثث المشركين وقد ألقيت في البئر، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم. يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا! فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم! ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مظفرا منصورا. قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها. وظهرت قوة المسلمين، وارتفع شأنهم، وذاع صيتهم، وأصبحت هذه الثلة المباركة هم أعمدة الدين، وأفضل المسلمين بعد الأنبياء والمرسلين، وفي فضلهم وردت الأخبار، وتواترت الآثار.
وبعد فإن من أعظم ما جسدته هذه الغزوة: استعلاء الإيمان على كل معنى من المعاني ولو كان أخوة النسب. بل قال عمر رضي الله عنه: ذلك المحدث الملهم الذي كان القرآن ينزل يوافق رأيه لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم في الأسرى وكيف يفعلون معهم. قال عمر: أرى أن تمكني من فلان لقريب له فاضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه. فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة لمشركين. بل لقد قتل عمر يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة. وقتل أبو عبيدة أباه الجراح؟ ومر مصعب بن عمير يومئذ بأخيه عزيز وكان في صفوف المشركين فوجده أسيراً بيد أحد الأنصار فقال مصعب للأنصاري: اشدد يديك عليه! فإن أمه صاحبة متاع! فلما سمع عزيز ذلك قال لأخيه مصعب: أهذه وصاتك لي؟
فقال مصعب: هو أخي دونك! فأين هذا من قوم يقول شاعرهم:
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجنهم
أين هذا من الوطنيين الذين يقدمون معاني الوطنية على معاني الدين حين يسوون بين المسلم وغير المسلم في الولاء، والنصرة لمجرد انتمائهم لوطن واحد، والله تعالى يقول: { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ }(السجدة:18)، ويقول عز من قائل: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }(القلم:35-36)، ويقول سبحانه: { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ }(الحشر: من الآية20)، لكن غلاة الوطنية والقومية يقولون: يستوون! الله تعالى يقول: لا يستوون، وهم يقولون: بلى يستوون!
إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانت قوميتهم الإسلام ووطنيتهم الإيمان.
لقد رفع الإسلام سلمان الفارسي وقد أدنى الكفر الشريف أبا لهب