كم يساوي الخلود في جنة الله -عز وجل-
كتبه: أحمد فريد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
نظرت إلى بعض المناظر الطبيعية المشتملة على الحدائق الزاهرة، والسماء الصافية، وشلالات المياه المتدفقة، وقلت في نفسي: إذا كانت هذه الدنيا الدنيئة الفانية، فكيف بالجنة العالية الغالية؟! ثم كم يساوي الخلود في الجنة، والعمر قصير، والآخرة نعيم مقيم وجنة عالية قطوفها دانية؟؟ وصفها شيخ الإسلام وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، فقال: وكيف يقدر قدر دار خلقها الله بيده وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير. وأودعها الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص؟!
فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن ملاطها فهو المسك الأذفر، وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجوهر، وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب أو فضة، لا من الحطب والخشب، وإن سألت عن ثمارها فأمثال الإقلال، ألين من الزبد، وأحلى من العسل، وإن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحلل، وإن سألت عن أنهارها، فأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفَّى.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله عز وجل-: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) قال أبو هريرة: فاقرءوا إن شئتم: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(السجدة17)
جنة هذه صفتها كم يقدر قدر ثمنها؟
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) فمهما كان عمل العبد وبذله في سبيل الله -تعالى- فإنه لا يساوي بحال من الأحوال جنة الله -تعالى-. قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا إن يتغمدني الله برحمته).
فكل أعمال الأمة في ميزان نبيها -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن من دعا إلى هدى فهل مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. بالإضافة إلى ثواب أعماله التي هي أكمل الأعمال، وأخلصها للكبير المتعال. ومع ذلك لا يساوي ذلك الخلود في جنة الله -تعالى-، فلابد من الاحتياج إلى عفو الله -تعالى- ورحمته، فينجون من النار بالعفو، ويدخلون الجنة بالرحمة، ويتقاسمون الدرجات بأعمالهم. ومن تأمل هذا المعنى وتدبر هذه الخاطرة فإنه يستصغر بذله وجهده، كلما تذكر جنة الله -تعالى-، ويعلم أنه مهما وفق للطاعات، والاستجابة لرب الأرض والسموات، فإنه لا يزال فقيراً إلى رحمة الله. وعمله على كل حال لا يساوي جنة الله -تعالى- وإن كان سبباً من أسباب دخول الجنة، كما قال -تعالى-: (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(الأعراف43).
وقال -تعالى-: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)(الحاقة24) فالباء في الآيتين باء السبب، أما قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) فهي باء العوض والمقابلة، التي يتساوى ما قبلها وما بعدها، كما تقول: بعني سيارتك بكذا، فهذه باء العوض والمقابلة، ولو حاسب الله -تعالى- العباد على نعمه عليهم، لم تف جميع أعمالهم الصالحة في وفاء بعض نعم الله عليهم، فتبقى بقية النعم بلا وفاء، بالإضافة إلى الذنوب والمظالم، ولذلك يقولون: إذا جاء عدله لم يبق لأحد حسنة، وإذا جاء فضله لم يبق لأحد سيئة.
فالله -تعالى- لا يظلم مثقال ذرة، ولكنه إذا عامل العباد بعدله هلك العباد، كما قي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (من نوقش الحساب عُذِّب)، وفي رواية: (من نوقش الحساب هلك).
قال النووي: ومعنى "نوقش" استُقصِيَ عليه.
وقوله: "عُذّب" له معنيان: أحدهما: نفس المناقشة، وعرض الذنوب والتوقيف عليها، هو التعذيب، لما فيه من التوبيخ.
والثاني: أنه مفض إلى العذاب بالنار، ويؤيده في الرواية الأخرى "هلك" مكان "عذب" وهذا الثاني هو الصحيح. ومعناه أن التقصير غالب في العباد فمن استُقصِيَ عليه ولم يُسامَح هلك ودخل النار، ولكن الله-تعالى- يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء.