تنبيه قلوب المتدينين عند فَقْدِ مطالب الدين
كتبه/ د.محمد رجب
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،أما بعد :
فهذا تذكير للقلب بما ينبغي عليه في حاله مع الله -عز وجل- حال حصول النوازل والحوادث، وحال رؤيته لما يجريه الله -عز وجل- عليه من الأقدار، من عطاء وسلب، ومن منح ومنع، ومن إيجاد وفقد.
والكلام في شأن حال الفقد، فإنه متعين لما نراه من رفع لدلائل على الدين كانت،وفقد لمطالب من الإيمان زالت .
وهذا إن كان في شأن العبد كله؛ فهو آكد في أمور الدين، فإنه إذا ما فقد العبد شيئاً من الدين، أو من وسائل ما يُحَصِّلُ به التدين في قلبه، وما يطلب من خلاله مرضاة ربه: فلابد أن يجد القلق والأسى والأسف والحزن على ذلك، فهذا يعني حياة القلب ووجود مادة الإيمان والخير فيه، فهو حريص على ما ينفعه شحيح بما يوصله إلى ربه، وبما يجد الله تعالى عنده، خائف قلق من فقد ذلك وسلبه، فإن فقده وجد الأسف والأسى والحزن لزوما، وزاد قلقه وخوفه؛ ترى هل يكون ذلك الفقد مقدمة بين يدي فقد آخر؟
وقد علمنا أن الله عز وجل قد رتب الأسباب لحصول الدين والإيمان، بل كل مقام من مقامات الدين والإيمان فله أسبابه ومعطياته ومقدماته، ففقد مقدمة يعني فقداً أو خللاً في مقام من مقامات الدين والإيمان . ومثال ذلك فيما قال الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة (111)
فهذا مقام عالٍ من مقامات الدين والإيمان وهو طلب الجنان وموعود الرحمن -الذي وعد في التوراة والإنجيل والقرآن، وقد جعل الله تعالى ثمن ذلك ووسيلته تحقيق الجهاد في سبيل الله تعالى– فهذه وسيلة من ورائها مطلب وغاية؛ بل مقام من ورائه مقام، فالجهاد في نفسه -وإن كان وسيلة لتحصيل موعود الله عز وجل بالجنة- فإنه مقام ودين وإيمان، جعل الله -عز وجل- لتحصيله مقدمات ووسائل وتمهيداً وأسباباً، إن حصَّلها العبد حصَل له ذلك المقام، وإن فقدها العبد فقد ذلك الدين والإيمان، فقدَ تدينا لله -عز وجل- بالجهاد في سبيله، وفَقَدَ من ورائه كذلك تحقيق ما ترتب عليه من الموعود الأعظم والمطلوب الأكرم في جنة الرضوان، إذ قال : ( وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ، أما وقد غلقت دون ذلك الأبواب ؛ ترى كيف نحقق ذلك؟ كيف ندرك هذا الدين،ونحصل ذلك المقام الكريم؟ كيف نستوجب جنة رب العالمين؟ كيف نكون من أهل الجهاد في سبيل الله الحق المبين؟ فإذا برحمة الله تعالى تدركه في لحاق الآيات،ليبين له عدته لتحقيق ذلك المقام وهذا الدين،فلا يفوته ذلك،ولا يحرم بفقده موعوده،إذ لابد من النظر في خطاب الله – عز وجل –،والتدبر في سياق موعود الآيات،فإنه تعالى يبين له مقدماته وأسبابه وآلات تحصيله،فيدرك العبد برحمته ولطفه: عبدي،أُريك كيف تحصل ما وعدتك به.
فيقول تعالى في لحاق الكلام : (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) التوبة (112)
فما أسرع الجواب لما أشكل،وما أعجل البيان فما أثقل،فكأن كلمات الآيات وقد صارت علامات تشير إلى طريق التحقق بذلك المقام،من المجاهدة والمقاتلة في سبيل الله،وما يكون عليه من موعود الله في الجنة،فلتحقيق ذلك لابد من الاتصاف بتلك الأوصاف، فيا أيها المكلفون : إن أغلق عليكم الباب،وسدت عليكم الطرق ؛ فلابد أن تتحلوا في أنفسكم بتلك الأوصاف التي يفتح الله – عز وجل – لكم بها ما غلق من الأبواب، (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فهؤلاء المؤمنون الذين اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة كما بين في الآية الأولى، هؤلاء المتصفون بتلك الأوصاف حقيق أن يكونوا أهل الجهاد والقتال في سبيل الله، فيقاتلون في سبيله؛ فيقتُلون ويُقْتَلُون، ثم يحصل وعد الله تعالى الذي وعد في التوراة والإنجيل والقرآن (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ)، فهذا الاستبشار يؤكد في نهاية وخاتمة الآية : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني المؤمنين الذين اتصفوا بتلك الأوصاف، فلا يتم أبداً أن يتحقق العبد المكلف من مقام ودين الجهاد والقتال في سبيل الله على الحقيقة إلا أن يكون متصفاً بتلك الأوصاف الكرام،فمن غلق أمامه الباب فلا يزال في شغل،فإنه ما يُغَلَّق باب تلك الأوصاف أبداً أبداً ، فما زالت التوبة والعبادة والحج والصوم والصلاة وطلب العلم النافع :- ما زال كل ذلك مفتحة أبوابه، ما يحول بينه وبينها عارض، ولا يمنعه الاشتغالَ بتحققها مانع، فإذا تحقق بها فتح له باب ما غلق من المقام المطلوب، وتفضل الله تعالى عليه برجاء موعوده المرغوب.
وهذا الذي ذكرنا من كليات القرآن، وسنته الجارية في وعده وعطاياه، بل هو سنة ربنا – تبارك وتعالى – في كل ما أقامه ديناً ورتب عليه موعوداً وفوزاً وثواباً عظيماً.
وكذلك منه قول الله – عز وجل –: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) آلـ عمران (102)،فهذا الخطاب من الله – عز وجل – لعباده وقد اشتمل على هذا الاحتمال المخيف،والأمر المهيب،الذي يفزع قلوب أهل الدين والإيمان أن يموت العبد على غير الدين والإسلام،أن يختم له بخاتمة السوء والكفر -والعياذ بالله-، فهذا الذي أقلق العباد، أن يكون الله -عز وجل- يوم طبعهم، طبعهم على سوء خاتمة وعلى كفر وذلة، فما زال ذلك القلب قلقاً،فكأن الله -عز وجل- في ذلك الخطاب أمرهم : أيها العباد المكلفون إياكم أن تموتوا غير مسلمين، مت عبد الله مسلماً، وإياك أن تحرم التوفيق إلى ذلك. إلا أن سؤال تعجب وكأنه جاء من المكلف:- كيف أحصل ذلك، والأمر فيه كله لله، لا يملك عبد من أمر موته وخاتمته شيئا ؟! فيجئ الجواب ببيان ذلك، وما يحصل به العبد عدته فيه،وذلك في سياق الآيات ،من بين يدي ذلك الخطاب ؛ في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
فهذا البيان قد جاء في سباق تلك الآية التي أقلقته في سعيه، ويبقى على العبد النظر فيه، فهو عدة الرجاء في الموت على الدين والإسلام، فعدته في ما يتلى من آيات الله تعالى، وفي ما يؤثر من هدي رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفي استمساك بهما، علما وعملا، ظاهرا وباطنا، شرطَ استعانة لازمة بالله، لا تنفك عنه طرفة عين، وافتقار تام إليه يستغرق منه كل نظر إلى ذلك السعي والاستمساك، فذاك عين اعتصامه بالله تعالى . ويزيد بيان الله تعالى له في لحاق الآية ؛ فيقول جل ذكره بعدها : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم منها) .
فكأن طلب العبد الموت على الدين والإسلام ؛ وهو المنة العظمى في خاتمته،يتطلب تدبرا في منن أخرى سابقة، بالنظر فيها يتأهل القلب ويتأهب للمنة الخاتمة، فيتوجه الكلام في الآيات إلى تلك المنن، إلى مِنَّة الله السابقة عليه بالهداية، وبالإنقاذ من النيران، ولو شاء سبحانه لوكله إلى نفسه وإلى طباعها وإلى أخلاقها وإلى شرها، لو شاء الله لوكله إلى نفسه فتلفت نفسه في تلك الحفرة من النار، ولكنه أقامه واجتباه واصطفاه بغير استحقاق منه أو سبب، بل بفضل واسع من الله تعالى عليه. ثم لما لم يكله إلى نفسه وشر طباعها، بل جعله على طريق مستقيم وهدى مبين قويم، كان ذلك مستلزماً لألفة خاصة،هذه الألفة أن يجتمع ذلك القلب بما أقامه الله -عز وجل- فيه من الحق مع قلوب أخرى على ذات الطريق يجتمعون، يتحابون، يتآلفون، يتعاونون على مرضاة رب العالمين ليحققوا وصف الإيمان الذي وصفهم به ربهم (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله ) ، هذه الألفة التي هي مَجْلَبَةُ الرحمة، فما أعظم سابق نعمته، وما أجل سابغ منته، فبذلك يعان على الاعتصام بالله، والتمسك بحبله وهداه، استمساكا بالآيات المتلوة، والهدي المأثور، في افتقار تام إلى الله تعالى .
والمقصود أن كل مقام من الدين من ورائه مطالب، ومن بين يديه مقدمات ودلائل عليه، فما زال تحصيل تلك الدلائل شغل العبد، يتقلب بينها من مرتبة إلى مرتبة، وكلما حصَل خلل رُد إلى التي قبلها، فيفزع ويعود على نفسه بالأسف والتأسف والمعاتبة بل المعاقبة،عسى أن يدفع ذلك الحرمان، وأن يستجلب ما فاته من خيرات الرحمن.
فإذا فقد العبد ما يأخذ به إلى دين الله -عز وجل- لابد وأن يجد الأسف والحزن، فالحزن في أي قلب ما يكون إلا من مفارقة المحبوب، ليس له سبب سواه، سواء كان ذلك المحبوب المفقود من أمور الدين أو من أمور الدنيا، قد يجد الحزن على فراق المال، الولد، العافية، العلم، السعة، ولذلك جعل الله -عز وجل- مفارقة المشتهيات المحبوبات من أعظم العقوبات كما قال الله تعالى: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ) سبأ(54).
فالفرح والسرور بالظفر بالمحبوب، والهم والحزن والأسف بفوات ذلك المحبوب، فإن حجب العبد عن خير كان يصيبه، وعن طريق كان في معرفة الله يسلكه، لابد أن يرجع ذلك على قلبه بالأسف والأسى والحزن، فالله تعالى حجبه، ستر عنه ورده. لكن إذا صح مقام الأسى والتأسف على فوات ذلك التدين؛ عوضه الله وجبره، فكان كعبد عصى ليريه الله منزلة ضعفه ليكسره وليكسر ما فيه من طباع نفس متكبرة فيعود ضعيفاً ذليلاً منكسراً بين يدي الله تعالى . فإذا فقد محبوبٌ يأخذ بيد العبد إلى الدين، حجب العبد عنه، فعساه بذلك التحسر والأسى أن يستدرك خيراً، ليزداد في طلبه، ليتقوى شوقه إليه، فإنه لو دامت له الأحوال لألفها واعتادها ولم يقع منه موقع التلذذ والاستيطاب، فلربما حجبه الله تعالى ورده عن ذلك المقام، وأفقده ذلك التدين، ليكمل فرحه ولذته وسروره بها إذا ما استدرك أمره وجبره الله تعالى وعَوَّضَه، بعد أن يرى في قلبه الأسى والتأسف والحزن ومعاتبة النفس ومحاسبتها ومعاقبتها، فيستدرك ثانيةً ما فاته .
وكذلك ليعرفه الله قدر نعمته عليه بما أعطاه،فإنه لما ذاق مرارة الفقد عرف حلاوة العطاء والوجد .
كذلك ليعرفه الله فقره وحاجته وضرورته إليه، وأنه غير مستغنٍ عن فضله وبره طرفة عين، وأنه إن انقطع عنه إمداده فسد بالكلية، فإنه إن فقد فسد، فيعرف العبد بذلك أن هذا الفضل والعطاء ليس بسبب منه (من العبد)، وأن ذلك العبد عاجز عن تحصيلها بكسب واختيار،بل هي موهبة، وصدقة، تصدق الله بها عليه لا يبلغها عمله، ولا ينالها سعيه.
وليشهد العبد كذلك عز الله تعالى في منعه، وبره في عطائه فهو العزيز ومن عزه منع، وهو البر الرحيم ومن بره أعطى، فيشهد العبد كرمه وجوده في عوده عليه بما حجبه عنه، فينفتح على قلبه من معرفة الأسماء والصفات ما يشهده القيام بحقها،فمن فتح عليه بما زاده معرفة بالله تعالى ثم حُجِبَ عنه وفقده، فوجد الأسى والتأسف والحزن والقلق والخوف من الإبعاد والطرد، ومن فقد بعد الفقد، فيعود على نفسه، ويظهر لله -عز وجل- تحسره على ما فاته، فيرجع ذلك عليه بأن تتفتح عليه أنوار الأسماء والصفات، يشاهد أشياء لم يكن يشاهدها، يتعقل عن الله -عز وجل- ويفهم مراده بما لم يكن يفهم، يرى عزه وتدبيره وملكه في منعه، ويرى بره ورحمته وكرمه وجوده في عطائه.
ومن ذلك المشهد أن يعلم أن طبيعة نفسه لم تَمُتْ، فما جُبِلت عليه من الظلم والجهل لم يُعْدم، بل هو موجود فيها، ولولا ذلك ما كان هناك امتحان وتكليف في تلك الحياة الدنيا، ولكن قهر الله -عز وجل- ظلم نفسه بسلطان الإيمان والمحبة، وقهر الله تعالى جهل نفسه بسلطان العلم والمعرفة، فالله -عز وجل- فعل ذلك لما اصطفاه في طريق دينه، لكن لابد للمغلوب أحياناً أن يتحرك ولو قليلا، وقد كانت حركته قبل الاصطفاء والهداية بالدين حركة سلطان غاشم متجبر، فمن تمام إحسان الرب إلى عبده، وكمال تعريفه قدر نعمته أن أراه في الأعيان ما كان حاكماً عليه قاهراً له، أن يريه في الواقع والفعل ما لو لم يستدركه لَوُكِّلَ إليه، ليشهده بالتجربة ما كان قاهراً له من ظلم وجور وجهل فيجد منه ما كان يتقاضى منه أولاً، فحين إذن يستغيث العبد بربه، يستغيث بوَليِّه ومالك أمره كله: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك.
وا حسرة العبد لو وُكِلَ إلى ما كان قاهراً له قبل سلطان العلم والمعرفة والدين والإيمان، فبفقد محبوبك من الله –تعالى- قد ذقت ذلك، عرفت ما كنت تُوكَل إليه، عرفت نفسك، عرفت قدرها، عرفت الخسارة التي كنت ستؤول إليها، فإذا شهد هذا، زال من قلبه آفة عظمى، آفة الركون إلى تلك النفس, بل آفة الركون إلى عمله، إلى علمه، إلى حاله، كما قيل: إن رَكَنْتَ إلى العلم أنسيناكه، وإن رَكَنْتَ إلى الحال سلبناك إياه، وإن رَكَنْتَ إلى المعرفة حجبناها عنك، وإن رَكَنْتَ إلى قلبك أفسدناه عليك، هل هذا القلب الذي كان بين يدي الله قائماً قانتاً، ما باله تغير؟!، ما باله تغير حاله، ما عاد ذلك العزم فيه، ما عادت تلك الهمة فيه، ما باله فقد بعدما وَجَدَ ؟!. فإن رَكَنْتَ إلى قلبك،إلى نيتك،إلى حالك،إلى عزيمتك،إلى إخلاصك،إلى كسبك،أفسد عليك،فلا يركن العبد إلى شئ سوى الله البتة، ومتى وجد من قلبه ركوناً إلى غيره فليعلم أنه قد أُحِيلَ على مُفْلِس.
والمقصود أن هذه بعض مشاهد الفقد بعد الوِجد،بعد وِجد العبد لمحبوب يطلب من ورائه معرفة الله والدين والإيمان،فإن فقده وجد الأسى والتأسف والحسرة،فإن صح مقام الحزن والقلق والأسى فيه رجع ذلك عليه بمزيد من المعرفة،وقف مشاهد الأسماء والصفات،وقف مشهد القيومية،مشهد قيومية الله -تعالى -.
وسر ذلك، سر صحة تلك المقامات في القلب، سر ذلك: أن يفرغ القلب من الاهتمام بالدنيا وما يتعلق بها، وما يجري فيها من صور، وأعراض وأغراض، بل يتعلق بالآخرة.
فإذا وجد اعتناء قلبه وشغله بذلك،فقد سطع فجر تأهبه للقدوم على الله تعالى، فذلك أول تباشير قلبه، عند ذلك يتحرك القلب لمعرفة ما عند الله، لمعرفة ما يرضي به ربه، فيفعله ويتقرب به إليه، وما يسخط ربه فيجتنبه ويبتعد عنه، وهذا عنوان صدق إرادته، فإن كل من أيقن بلقاء الله واستعد وتأهب للمثول بين يدي مولاه لابد أن يتنبه لطلب معرفة معبوده والطرق المُوَصلة إليه، فإذا تمكَّن منه ذلك، فُتِحَ له باب الأُنس بالخلوة والوحدة، يخلو بالله، يطلب الأماكن التي تهدأ فيها الأصوات والحركات التي تلفته عن ربه، فلا شئ أشوق إليه من ذلك، فإنه يجد تلك الخلوة، يجد ذلك الأنس بالله وحده، بغير صوت، بغير حركة، بغير صورة، بغير غرض أو عرض، يجد ذلك يجمع عليه قوى قلبه وإرادته، ويسد عليه الأبواب التي تفرق همه، وتشتت قلبه، فيأنس بخلوته ويستوحش من الخلق، فإن تمكن له ذلك فتح له باب آخر، فُتِحَ له باب حلاوة العبادة، بحيث لا يكاد يشبع منها ويجد فيها من اللذة والراحة، أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيل الشهوات وإتيان الحظوظ، بحيث أنه إذا دخل في الصلاة مثلاً، ودّ ألا يخرج منها، ثم يفتح له باب آخر، يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله، فلا يشبع منه وإذا سمعه هدأ قلبه، فيفتح له باب آخر، يفتح له باب شهود عظمة المتكلم بذلك الكلام، يفتح له شهود عظمة الله وجلاله وكمال نعوته وصفاته وجماله، ومعاني خطابه في كلامه، فيستغرق ذلك قلبه، ويستغرق قلبه في ذلك، حتى يغيب القلب فيه، يُحِسُّ بقلبه وقد دخل في عالم آخر غير ما الناس فيه.
فإن تمكن من ذلك، فُتِحَ له باب آخر، فُتِحَ له باب الحياء من الله، نور يقع في القلب، يُريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه -عز وجل-، فيستحيي منه في خلواته وجلواته، وعندها يُرزق المراقبة للرقيب، يُرزق الإحسان، يعبد الله وكأنه يراه، يدوم تطلعه إلى حضرة العلي الأعلى، حتى كأنه يراه، يشاهده فوق سماواته، مستوياً على عرشه، ناظراً إلى خلقه، سامعاً لأصواتهم، مشاهداً لبواطنهم، فإن صح ذلك منه، فُتِحَ له باب شهود قيومية الله –تعالى- فيرى سائر التقلبات، يرى كل التصاريف والمقدورات، يرى كل الموجودات بيده سبحانه يقلبها كيف يشاء، يشهده وحده مالك الضر والنفع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، فيتخذه وحده وكيلاً، ويرضى به رباً ومدبراً وكافياً وعند ذلك إذا وقع نظره على شئٍ من المخلوقات دلَّه على خالقه وسالكه، وصفات كماله ونعوت جلاله، ما حصل من سراء دله على رب السماء، وما حصل من ضراء دله على الله -عز وجل-فكل أمر يحصل وكل تقدير وتصريف فإنما يشاهد بقلبه يد الله، يقلب ذلك كيف يشاء، يتصرف في ملكه كيف يشاء، الناس في واد وهو في واد، الناس يقيسون بمقاييس، وهو بعيد عنهم، يشاهد الله –تعالى- يُصَرِّفُ ملكه كيف يشاء، ليشهد قيومية الله -تعالى-،يناديه كل من في السماوات والأرض، يناديه كل الخلق بلسان حاله: أنا صنع الله الذي أتقن كل شئ، إذا جرت مقادير مكروهة، نادته: أيها العبد أنا تقدير الله، مقدورةٌ مثلك،أنا صنع الله الذي أتقن كل شئ.
فهل مثل ذلك القلب ينشغل بغير الله؟ يركن إلى عرض؟ يتعلق من الدنيا بغرض؟
فإذا استمر ذلك له وصحَّ منه، واستمر على حاله واقفاً بباب مولاه، لا يلتفت عنه يميناً ولا شمالاً، ولا يجيب غير من يدعوه إليه، ويعلم أن الأمر وراء ذلك، وأنه لم يصل بعد، ومتى توهم أنه قد وصل وعرف، انقطع عنه المزيد، بل رُدَّ إلى مقام سابق، وحُجِبَ عما كان يجد قبل ذلك، فإن استمر على حاله مستغرقاً قلبه في مشاهدة مشاهد أسماء الله وصفاته، لافي مشاهدة قيومية الله -عز وجل-، مازال ذلك القلب مُثَبَّتَاً من الله –تعالى-، ليتولد في ذلك القلب من المحبة لله-عز وجل- نار، محبةٌ تولد ناراً؟!! فما أعجب ذلك !!
وما أشد تلك النار التي أُضرمت في قلوب العارفين بالله العالمين بالله، العاملين لله !!!...
و يزداد خوف القلب أن يفقد الله –تعالى- حينما يتوفاه الله -عز وجل- و يُتوفى ذلك العبد أجله، أن يفقد الله – تعالى – يوم القيامة، قَلَقٌ وشَوقٌ، يحرق القلب ذلك الشوق، تَضَّرِمُ في أحشاء ذلك العبد هذه النار، نار المحبة، يعز معها الاصطبار، فتراه مستوفزاً قلِقاً، مستيقظاً لا يهدأ له جفن، قلقٌ على تلك العلاقة التي سارت بينه وبين الله -وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء-، فيا له من قلب مُمْتَحن مستغرق بما ظهر له من أنوار الجمال والكمال والجلال للهِ المتعال، والناس مفتونون ممتحنون بما يفنى من الصور والأغراض والأعراض، معذبون بذلك قبل حصوله وحال حصوله وبعد حصوله، فهذا العبد لايزال الله يُرَقيه، طَبَقاً بعد طبق، ومنزلاً بعد منزل، إلى أن يوصله إليه، بأن يُمَكِّنَ له بين يديه، أو يموت في الطريق فيقع أجره على الله.
فالسعيد كل السعيد، والموفَق كل الموفَق، الذي لا يلتفت عن ربه تبارك وتعالى يميناً ولا شمالاً، ولا اتخذَ سواه رباً ولا وكيلاً ولا حبيباً ولا مدبراً، ولا حكماً، ولا ناصراً، ولا رازقاً .
فهذه مشاهد القيومية التي إذا قامت في القلب، عوضته عما فقد، وتحول الفقد إلى وجد، والمنع إلى منح، والتقهقر والتأخر إلى تقدم وقربى.
إذا صح ذلك، إذا صح في قلبي وقلبك، إذا صحَّ الأسى والتحسر والتأسف على فوت، وعلى حَجْبٍ، وعلى تأخر وردةٍ ورجوع، على فوت محبوب كان يدله على الله -تعالى- ....، على فوت مقام من مقامات الدين والإيمان كان يُرجى من ورائه مزيد معرفة بالله -تعالى-، على فقد الله لحظة، على ركون إلى النفس، إلى القلب، إلى العلم، إلى الحال، إلى الصدق، إلى الإخلاص، إلى النية، إلى الهمة، إلى القوة، إلى أعراض النفس، إلى كسب السعي،... كل ذلك حرمان وعجز وخيبة، فإن صح مشهد القيومية ركن إلى الله -تعالى-، ورَدَّهُ الله –تعالى- إليه، ووكله إليه، فعاد له ما فات.
فمن وجد ذلك، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وليعتب فإنه لم يزل مستعتباً وليرجع فإنه يُرجى له من الله -عز وجل- الإقاله، أن يُقيله من العثرة.
طوبى لقلب فَقَدَ فأَسِفَ، فلما أَسِفَ تحسَّر، فلما تحسر خاف وقلِق، رجع على نفسه، والتجأ إلى ربه، وشاهد نعمه وكرمه، وتدبيره وتقديره، وعزه وحكمته، وشهد نفسه وشرها ومكرها، وظلمها وجهلها، وألََّو كان الله وَكِلَهُ إلى نفسه ما كان يصير إليه منها من ذلة وخزي وضياع وفوات، فيرجع إلى الله رب الأرض والسماوات، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، فهذا كله هو عين وُجْدِ الله تعالى .
فاللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين، واحفظنا بالدين والإيمان أحياءً وميتين، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين.