الإمام عبد الرحمن بن مهدي
كتبه/ محمد سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فهو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن، الإمام الناقد المجود سيد الحفاظ، يكنى بأبي سعيد العنبري، وقيل الأزدي، مولاهم البصري. ولد سنة خمس وثلاثين ومائة. وطلب الحديث وهو ابن بضع عشرة سنة.
مكانته وأقوال العلماء فيه وثناؤهم عليه:
قال ابن المديني: "ما رأيت أعلم منه". وقال الشافعي: "لا أعرف له نظيراً في هذا الشأن -أي الحديث-". وقال الذهبي: "كان إماماً حجة قدوة في العلم والعمل". وقال الإمام أحمد: "عبد الرحمن أفقه من يحيي القطان -الإمام العالم القدوة-. وقال: إذا اختلف عبد الرحمن ووكيع فعبد الرحمن أثبت".
وقال أيوب بن المتوكل: "كنا إذا أردنا أن ننظر إلى الدين والدنيا ذهبنا إلى دار عبد الرحمن بن مهدي". وقال محمد بن أبي بكر المقدمي: "ما رأيت أحداً أتقن لما سمع، ولما لم يسمع، ولحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي، إمام ثبت".
وقال الإمام أحمد: "عبد الرحمن ثقة خيار صالح من معادن الصدق"، وقال أيضاً: "إذا حدث عبد الرحمن عن رجل فهو ثقة"، وقال يزيد بن هارون: "وقعت بين أسدين عبد الرحمن بن مهدي ويحيي القطان"، وكان حماد بن زيد إذا نظر إليه في مجلسه تهلل وجهه.
حفظه وعلمه بالحديث:
قال عبيد الله بن عمر القواريري: "أملى عليّ عبد الرحمن عشرين ألفِ حديثٍ حفظاً"، وقال ابن المديني: "كان علم عبد الرحمن في الحديث كالسحر"، وقال أيضاً: "لو أُخذِت فحلفت بين الركن والمقام لحلفت بالله أني لم أر أحداً قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي".
قال نعيم بن حماد لعبد الرحمن: "كيف تعرف الكذاب، قال: كما يعرف الطبيب المجنون"، وقال محمد بن يحيي الذهلي: "ما رأيت في يد عبد الرحمن بن مهدي كتاباً قط -يعني كان يحدث من حفظه-"، وقال زياد الطوسي: "قمنا من مجلس هشيم فأخذ أحمد بن حنبل وابن معين وأصحابه بيد فتى فأدخلوه مسجداً وكتبنا عنه فإذا الفتى عبد الرحمن بن مهدي".
شيوخه:
أدرك جماعة من التابعين منهم جرير بن حازم، والمثنى بن سعيد، وصالح بن درهم، وأسند عن مالك والثوري وشعبة والحمادين وغيرهم. ومن شيوخه عمر بن أبي زائدة، وهشام الدستوائي، وسفيان، وعبد الله بن بُديل بن ورقاء، وأمم سواهم.
من حدث عنه:
ابن المبارك، وابن وهب -وهما من شيوخه-، وأحمد، وإسحق، وابن أبي شيبة، وبِندار، وخلق يتعذر حصرهم.
مجلس علمه:
قال أحمد بن سنان: "كان لا يُتحدث في مجلس عبد الرحمن، ولا يُبرى قلم، ولا يتبسم أحد، ولا يقوم أحد قائماً، كأن على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإذا رأى أحداً منهم تبسم أو تحدث لبس نعله وخرج".
ورعه:
"كان لعبد الرحمن جارية فطلبها منه رجل فكان منه شبه العِدَة، فلما عاد إليه قيل له: هذا صاحب الخصومات. فقال له عبد الرحمن: بلغني أنك تخاصم في الدَيْن، فقال: يا أبا سعيد إنما نضع عليهم لنحاجهم بها، فقال أتدفع الباطل بالباطل؟ إنما تدفع كلاماً بكلام. قم عني والله لا ابتعتك جاريتي أبداً".
وقال: "كنت أجلس يوم الجمعة فإذا كثر الناس فرحت، وإذا قلوا حزنت. فسألت بشر بن منصور فقال: هذا مجلس سوء فلا تعد إليه فما عدت إليه".
وقال رسته -رحمه الله-: قام ابن مهدي من المجلس وتبعه الناس، فقال: يا قوم لا تَطـَؤُنَّ عقبي، ولا تمشُنَّ خلفي، حدثنا أبو الأشهب عن الحسن قال عمران: خفق النعال خلف الأحمق قَلَّ ما يُبقي من دينه". وقال: ما تركت حديث رجل إلا دعوت الله له وأسميه.
وعن عبد الرحمن بن مهدي أنه كان يكره الجلوس إلى ذي هوى أو ذي رأي، وقال: فتنة الحديث أشد من فتنة المال والولد".
عبادته:
قال ابن المديني: "كان عبد الرحمن يختم القرآن في كل ليلتين، وكان ورده كل ليلة نصف القرآن". وحدث عنه ابنه يحيي قال: "كان أبي يُحْيِي الليل كله".
وسأل ابن المديني امرأة عبد الرحمن عن سواد رآه في القبلة قالت: موضع استراحة عبد الرحمن؛ كان يصلي بالليل فإذا غلبه النوم وضع جبهته عليه"، وكان -عليه رحمة الله- يحج كل عام، فلما مات أخوه وأوصى إليه أقام على أيتامه حتى استقرض مالاً احتاج إليه لمصلحة أرضهم.
عقيدته:
قال ابن المديني: "ثم كان بعد مالك بن أنس عبد الرحمن بن مهدي يذهب مذهب تابعي أهل المدينة، ويقتدي بطريقتهم". وقال -رحمه الله-: "إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى، وأن يكون استوى على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم.
وقال الجهمية يريدون أن ينفوا الكلام عن الله، وأن يكون القرآن كلام الله، وأن يكون كلم موسى وقد وكده الله فقال: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)(النساء:164).
طرف من أقواله:
قال -رحمه الله-: "كان يقال إذا لقي الرجل من فوقه في العلم كان يوم غنيمته، وإذا لقي من هو مثله دارسه وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلمه. ولا يكون إماماً في العلم من يحدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً في العلم من يحدث عن كل أحد".
وقال: لا يجوز أن يكون الرجل إماماً حتى يعلم ما يصح مما لا يصح.
وقال: اترك من كان رأساً في بدعة يدعو إليها.
وقال: محرم على رجل أن يفتي إلا في شيء سمعه من ثقة.
وقال: لأن أعرف علة حديث أحب إلى من أن أستفيد عشرة أحاديث.
توفي -رحمه الله- بالبصرة في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائة.
للاستزادة من ترجمته: انظر: سير أعلام النبلاء 7/598، صفة الصفوة: 2/227
شذرات الذهب: 1/355، حلية الأولياء: 9/ ترجمة 414.