لماذا صبروا؟
كتبه أحمد عبد الحميد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا.فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا. وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا. ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا. فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)
انظر إليه وهو يناجي ربه، يعذر نفسه بين يديه بأنه أدى ما عليه. ظل في قومه ألف سنة إلا خمسين يدعوهم إلى جنة الله ورحمته وهم يفرون منه، يحذرهم النار وهم يقتحمونها على بصيرة، ليس هذا فحسب بل إنهم قابلوه بأنواع الأذى بالتهديد والسخرية حتى وصفوا في القرآن (وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى)، ومع ذلك صبر عليهم صبرا عجيبا تنوء به الجبال، بل ويترفق بهم كذلك ويتخذ كل وسائل الدعوة بالجهر والإسرار والتبشير والإنذار و الترغيب والترهيب، ثم هم في غي وصل بهم إلى أن يدعوا على أنفسهم (قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، أي ظلام هذا الذي يمكن أن يخيم على قلب الإنسان فيستعجل عقوبة الله مستهينا بها. كل ذلك ونوح صابر صبرا طويلا جعله واحدا من أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإتباعهم (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)
صبروا لأنهم أخذ عليهم الميثاق الغليظ (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) فتحملوا هذه الأمانة العظيمة، ليس هم فحسب بل أنصارهم وحواريوهم كذلك فقاموا بأشرف وظيفة وهي دعوة الناس إلى رحمة الله عزوجل (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) ويقول الله عزوجل(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
هذه الوظيفة تخلت عنها أمة بني إسرائيل فتحول الاصطفاء والخيرية إلى هذه الأمة (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) فهذه الأمة هي أمة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا الوصف من أخص صفات المؤمنين (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وهذه نعمة عظيمة من الله أن تجد في هذه الأمة من يعينك على القيام بأمر الله تعالى ولربما عز المعين في الأمم السابقة أما في هذه الأمة فتجد من يعين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والصلاة والصيام والحج وأنواع الطاعات.
اسمع لقول ربك عز وجل (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)...خسر كامل محقق لمن لم تتوفر فيه هذه الصفات..كم يكون قدر هذه الخسارة التي يجتنيها من لم يكن له دور في إصلاح بيته وشارعه وعمله، إن لم يكن له دور في رفعة أمته ونصرة دينه.وكم يكون حجم الخسارة وقد قال الله عز وجل (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) فيتخلف المرء ويقعد مع القاعدين ويستبدل الله به قوما آخرين يقدرون الأمانة وينهضون بأعبائها. كم تكون خسارة الجندي الهارب من ميدان المعركة والجيش باق ثابت موعود بالنصر والغنيمة في الدنيا والآخرة يوشك الناس أن يعودوا إلى ديارهم بغنائمهم ويعود هو بحسرة تعصر قلبه إن كان له قلب. بل كم يكون حجم الخسارة إذا كان (الدال على الخير كفاعله) و (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه غير أنه لا ينقص من أجورهم شئ) كم هي حسنات النبي -صلى الله عليه وسلم- وحسنات الأمة كلها في ميزانه يوم القيامة، بل كم هي حسنات أبي بكر الصديق الذي دعا ستة من العشرة المبشرين بالجنة، كم هي حسنات الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين وأبي هريرة، كم هي حسنات رافعي ألوية الجهاد الذين فتحوا المشارق والمغارب ونوروا الدنيا بنور الإيمان، كم هي حسنات علماء الأمة المتبوعين ..مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد و المتأخرين كابن تيمية وتلاميذه، بل كم هي حسنات أقل جندي في جيش عمرو بن العاص أو صلاح الدين أو غيره من أعلام الجهاد.
لكل هذا صبر نوح والنبيون وصبر الصحابة وضحوا بأموالهم وديارهم وأنسابهم و نوم الليل ودفء الفرش، تركوا ذلك لله وانطلقوا في المشارق والمغارب ينشرون الدين ،يبذرون الخير، ويبددون ظلمات الجهل والكفر بالله عز وجل...كل ذلك لأنهم علموا أن الجنة عرضها كعرض السماوات والأرض وأن الله أعدها لعباده الصالحين وطيبها لهم
فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
والحمد لله رب العالمين