الفصل السادس: الثناء على أصناف معينة منهم رضي الله عنهم:
المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين:
السبق هو التقدم إما في الصفة أو في الزمان أو في المكان.
فالتقدم في الصفة: يكون لمن سبق إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر واتخذ ما ينفق قربات عند الله عز وجل.
والتقدم في الزمن: يكون لمن تقدم في أوان قبل أوان.
والتقدم في المكان: يكون لمن تبوأ دار النصرة واتخذها بدلاً عن موضع الهجرة، وأفضل هذه الوجوه هو السبق في الصفات[1].
قال الراغب الأصبهاني: "أصل السبق التقدم في السير نحو: ﴿فَٱلسَّـٰبِقَـٰتِ سَبْق﴾ [النازعات:4]، ويستعار السبق لإحراز الفضل والتبريز وعلى ذلك: ﴿وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ﴾ [المعارج:10] أي: المتقدمون إلى ثواب الله وجنته بالأعمال الصالحة نحو قوله: ﴿يُسَارِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ﴾ [الأنبياء:89]" [2].
ومما يدل على أن السبق بالصفات هو الأفضل قوله عليه الصلاة والسلام: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد)[3].
وقد اختلف العلماء في المراد بالسابقين الأولين على أقوال ستة:
الأول: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قاله أبو موسى الأشعري وابن المسيب وابن سيرين وقتادة.
الثاني: أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان وهي الحديبية. قاله الشعبي.
الثالث: أنهم أهل بدر. قاله عطاء بن أبي رباح.
الرابع: أنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل لهم السبق بصحبته.
الخامس: أنهم السابقون بالموت والشهادة، سبقوا إلى ثواب الله تعالى قاله الماوردي.
السادس: إنهم الذين أسلموا قبل الهجرة [4].
والقول الراجح من هذه الأقوال ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال بعد ذكره لقوله تعالى: ﴿لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَـٰتَلَ﴾ [الحديد:10] قال: "وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين بعده، ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ﴿وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلأوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلأنْصَـٰرِ﴾ هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلـى إلى القبلتين، وهذا ضعيف، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به، ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة، ولكن فيه سبق الذين أدركوا ذلك على من لم يدركه، كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد أو قبل أن يفرض هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم، والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل تحريم الربا كذلك، فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئاً فشيئاً وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه، وله بذلك فضيلة من أسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا الباب، وليس مثل هذا ما يتميز به السابقون الأولون عن التابعين، إذ ليس بعض هذه الشرائع أولى بمن يجعله خيراً من بعض، ولأن القرآن والسنة قد دلا على تقديم أهل الحديبية، فوجب أن تفسر هذه الآية بما يوافق سائر النصوص، وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وبايع النبي بيده عن عثمان، لأنه قد كان غائباً قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته" [5].
المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر:
أما الآيات التي أثنى الله عز وجل فيها على أهل بدر فمنها:
1- قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَـٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِى ٱلأبْصَـٰرِ﴾ [آل عمران:13].
قال ابن جرير الطبري: "يعني بذلك جل ثناؤه: قل ـ يا محمد ـ للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك: قد كان لكم آية، يعني: علامة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون، والفئة الجماعة من الناس التقتا للحرب وإحدى الفئتين: رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهدوا وقعة بدر والأخرى مشركوا قريش ﴿فِئَةٌ تُقَـٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه، ﴿وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ﴾ هم مشركو قريش" [6].
2- وقوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ J وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال:62، 63].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإنما أيده في حياته بالصحابة" [7].
وقال القرطبي: "﴿هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ﴾ أي: قواك بنصره يريد يوم بدر، ﴿وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار" [8].
3- مدح الله عز وجل أهل بدر بصفة الإيمان في غير ما موضع كما في قوله تعالى: ﴿وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنً﴾ [الأنفال:17]، وقوله: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ﴾ [آل عمران:123]، وقوله تعالى: ﴿فَثَبّتُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُو﴾ [الأنفال:12].
أما ثبوت فضل أهل بدر والثناء عليهم في السنة النبوية فكثير من ذلك:
1- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير -وكلنا فارس- قال: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ [9] فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين)، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، وأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها -وهي محتجزة بكساء- فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك؟) قال حاطب: والله، ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله به عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق، ولا تقولوا له إلا خير) فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فأضرب عنقه فقال: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفر لكم) فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم [10].
قال الحافظ ابن حجر: "ووقع الخبر بألفاظ منها: (فقد غفرت لكم)، ومنها: (فقد وجبت لكم الجنة)، ومنها: (لعل الله اطلع...)، لكن قال العلماء: إن الترجي في كلام الله وكلام رسوله للوقوع" [11].
2- وعن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه ـ وكان أبوه من أهل بدر ـ قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: (من أفضل المسلمين) ـ أو كلمة نحوها ـ قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة" [12].
3- عن أنس رضي الله عنه قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع فقال: (ويحك أوَهبلت؟! أوَجنة هي؟! إنها جنات كثيرة وإنه في جنة الفردوس) [13].
قال الحافظ ابن كثير: "وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر فإن هذا لم يكن في ساحة القتال ولا في حومة الوغى بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب [14] وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوسَ" [15].
4- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدعاء الذي دعا به يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) [16].
المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد:
جاء الثناء على أهل أحد في القرآن الكريم في آيات كثيرة منها:
1- قال تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[آل عمران:121].
هذه الآية تضمنت الثناء البالغ على أهل أحد بشهادة الله تعالى لهم بحقيقة الإيمان الذي حل واستقر في قلوبهم الطيبة، وفي هذه الشهادة فضيلة أيما فضيلة لمن حضر من الصحابة موقعة أحد [17].
2- وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:152].
3- وقال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَـٰبَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران:172].
قال ابن جرير الطبري: "يعني بذلك جل ثناؤه: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله وللرسول من بعدما أصابهم الجراح والكِلام، وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب العدو أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أحد" [18].
ما جاء في فضل ومنزلة أهل أحد في السنة النبوية:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم)، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات على رسوله: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوٰتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران:169] [19].
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم أحد جيء بأبي مسجّى وقد مثل به، قال: فأردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي، ثم أردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي، فرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فرفع فسمع صوت باكية أو صائحة فقال: (من هذه؟) فقالوا: بنت عمرو أو أخت عمرو فقال: (ولِمَ تَبكي؟ فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع) وفي رواية أنه قال: (تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) [20].
قال ابن حجر: "(أو) في قوله، (تبكين أو لا تبكين) للتخيير، ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه" [21].
المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان:
لقد ورد في فضل أصحاب بيعة الرضوان نصوص محكمة كثيرة من القرآن والسنة النبوية من ذلك:
1- قول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَـٰناً مَّعَ إِيمَـٰنِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيم﴾ [الفتح:4].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ﴾ أي: الطمأنينة قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وعنه الرحمة، وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين وهم الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم، وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب" [22].
2- قال تعالى: ﴿لّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوْزاً عَظِيم﴾ [الفتح:5].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِين﴾ [الفتح:1] قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئاً مرئياً فما لنا؟ فأنزل الله: ﴿لّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ﴾ [23].
3- قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَـٰهَدَ عَلَيْهِ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيم﴾ [الفتح:10].
قال ابن جرير رحمه الله: "وقوله: ﴿وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَـٰهَدَ عَلَيْهِ ٱللَّهَ﴾ يقول تعالى ذكره: ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدو في سبيل الله ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه، ﴿فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيم﴾ يقول: فسيعطيه ثواباً عظيماً، وذلك أن يدخله الجنة جزاء له على وفائه بما عاهد عليه الله، ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الإيمان" [24].
4- قال تعالى: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَـٰبَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً R وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيم﴾ [الفتح:18، 19].
قال أبو بكر الجصاص: "فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية، وصدق بصائرهم، فهم قوم بأعيانهم... فدل على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة، أولياء الله، إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان، وقد أكد ذلك بقوله: ﴿فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ يعني: الصبر بصدق نياتهم وهذا يدل على أن التوفيق يصحب صدق النية وهو مثل قوله: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلَـٰحاً يُوَفّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَ﴾ [النساء:35]" [25].
ومما ورد في فضل أهل بيعة الرضوان في السنة المطهرة:
1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: (خير أهل الأرض) وكنا ألفاً وأربعمائة، ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة [26].
قال الحافظ ابن حجر: "هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما" [27].
2- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أخبرتني أم مبشر: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: (لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذي بايعوا تحته) قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها فقالت حفصة: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَ﴾ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد قال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ نُنَجّى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّ﴾ [مريم:72]) [28].
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحته) قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعاً... وإنما قال: (إن شاء الله) للتبرك لا للشك" [29].
3- عن جابر أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذبت، لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية) [30].
4- عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يصعد الثنية، ثنية المراد، فإنه يُحَط عنه ما حُطّ عن بني إسرائيل) قال: فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج، ثم تتام الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر) فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم، قال: وكان رجلاً ينشد ضالة له [31].
___________
[1] انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/1002) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/237).
[2] المفردات (228).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب فرض الجمعة (876)، ومسلم في كتاب الجمعة باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (855) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] انظر: زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (3/490-491).
[5] منهاج السنة النبوية (1/154-155)، وانظر: شرح الطحاوية (ص 530).
[6] جامع البيان (3/193-194).
[7] منهاج السنة (1/156).
[8] الجامع لأحكام القرآن (8/42).
[9] روضة خافي: موضع بين مكة والمدينة بقرب المدينة.
[10] أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب الجاسوس (3007) وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أهل بدر(2494).
[11] فتح الباري (7/305-306).
[12] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: شهود الملائكة بدراً (3992)، وابن ماجة في المقدمة باب فضل أهل بدر (160).
[13] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب فضل من شهد بدراً (3982).
[14] هو الذي لا يعلم راميه أو لا يعرف من أين أتى أو جاء دون قصد راميه.
[15] البداية والنهاية (3/361).
[16] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر (1763).
[17] انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (1/183).
[18] جامع البيان (4/176).
[19] أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد باب: في فضل الشهادة (2520)، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (2384)، والحديث حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (2199) (2/479).
[20] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب الدخول على الميت بعد الموت (1244)، ومسلم في فضائل الصحابة باب: من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام (2471).
[21] فتح الباري (3/116).
[22] تفسير القرآن العظيم (6/330)، وانظر تفسير البغوي مع الخازن (6/158)، وفتح القدير (5/45).
[23] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة الحديبية (4172).
[24] جامع البيان (26/76).
[25] أحكام القرآن (5/273).
[26] أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب: غزوة الحديبية (4155)، ومسلم في كتاب الإمارة باب: استحباب مبايعة الإمام الجيش(4155).
[27] فتح الباري (7/507).
[28] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل أصحاب الشجرة وأهل بيعة الرضوان (2496).
[29] شرح النووي لصحيح مسلم (16/85).
[30] أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب: من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم (2495).
[31] أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2780).