قد تقدم قبل أن الله عز وجل أمر العباد بعبادته، وعدّ ذلك أسمى مطلوب خلق له هذا المخلوق الضعيف. والعبادة من التعبد الذي هو التذلل والخضوع، والاشتقاق يواكب المعنى، فإن المعبد من الطريق هو المذلل للمشاة، ولكن التذلل والخضوع للخالق له خاصية ، وهو أنه غير مجرد، إذ هو مصحوب بالحب والرجاء.
والعبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:هي قول جامع للأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة التي يحبها الله ويرضاها.
فهي شاملة لأعمال الجوارح والقلوب، بشرط أن تكون محبوبة لله عز وجل، فاحفظ هذا وكن له على ذكر. أما أنها كيف تكون محبوبة لله عز وجل، فهذا لا يتم إلا بأصلين تقدما: التوحيد الخالص من شوائب المقاصد الدنيّة. العمل الصالح الخالص من شوائب البدع والمبطلات الردّية. والذي أجمله الله بقوله تعالى: ﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَد ﴾ … [الكهف:110]، وبقوله أيضاً ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه ﴾ رباه بنعمه، ولأنه هو الخالق البارئ؛ وذاك الطالب هو المخلوق الضعيف .
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ … [فاطر:15].
فإن قلت: قد فهمنا هذا من جهة الدلالة اللفظية، والعلاقة العقدية ولكن ما دليلك عليه؟ فالجواب: طبعاً الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ … [غافر:60]، وقال أيضاً على لسان إبراهيم ـ عليه السلام ـ: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ……… ﴿48﴾ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه ﴾… [مريم:48 ـ49]، فقابل الدعاء بالعبادة.
وأصرح منهما قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )… [ رواه الترمذي ].
فنرجع إلى مقصودنا، وهو قول الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ ﴾ … [الأعراف:180]، فبأدنى تأمل تعلم أن المراد [ ولله الأسماء الحسنى فاعبدوه به]، أو قل [ وله الأسماء الحسنى فادعوه بها، ودعاؤكم إياه بها عبادة منكم له]، والله أعلم. ولكن لعلك تقول: كيف السبيل إلى ذلك، وما مداه؟ فالجواب: قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ … [البقرة:208]، قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ " إنهم أُمروا أن يعملوا بجميع شعب الإيمان، وشرائع الإسلام وهي كثيرة جداً " أ.هـ.
وهذا يشهد له قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( الإيمان بضع وسبعون ـ وفي رواية بضع وستون ـ شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق……الحديث ) … [ متفق عليه]، وعليه فيكون أعظم ما يمكنك أن تلتزم به عند الدخول في الإسلام هو، لا إله إلا الله. قولاً: باللهج بها، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله ). وعملاً: قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ … (البينة: من الآية5) وقال تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾… [الأنعام:162]. واعتقاداً: قال تعالى:﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ …… ﴾ … [محمد:19]، ومن العلم [ بلا إله إلا الله ] العلم بأسمائه وصفاته، ولا يتم علم بلا عمل، فقد قيل : هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، فكن لهذا ذاكراً ، وهو أن أعلى شعب الإيمان [ لا إله إلا الله ] ومنها الأسماء والصفات. ثم نرجع بك إلى آلة هذه الشعب، وهي التي جمعها شيخ الإسلام في تعريفه للعبادة، وهي الأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال الظاهرة والباطنة.
أما العمل الظاهر فهو العمل بالجوارح، وأما العمل الباطن فهو المتعلق بالقلب من جهة التأثر، كالخشية والرجاء مثلاً، وأما القول الظاهر فهو الذكر، والقول الباطن هو الاعتقاد.
فكانت العبادة شاملة عامة، تجمع قلبك وقالبك لله، فأنت به وله وإليه وعليه، لا تخرج عن طواعيته طرفة عين . قال تعالى: ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ … [آل عمران:83].
فلك في كل خطرة من خطراتك، وحركة من حركاتك عبادة، وكل عبادة في عباداتك يجب أن تكون لله، ولا يتم لك ذلك إلا بأن تكون عالماً بأسمائه وصفاته، فللقلب عبادة، وللبصر عبادة، ولليد عبادة، …… وهكذا.
فعلمك بأن الله عليم وأن علمه وسع السماوات والأرض وأنه لا تخفى عليه خافية وأنه يعلم السر وأخفى عبادة القلب لله باسمه العليم . استحضارك أن الله عليم بأفعالك فتنزه لأجله السمع عن سماع اللغو والباطل عبادة لله باسمه (العليم) . استحضارك أن الله عليم بأفعالك فتنزه لأجله البصر عن النظر إلى المحرمات، عبادة لله باسمه ( العليم ).
وكذا علمه بأقوالك فتذكره، وتتنزه عن قول الزور والباطل واللغو، وهكذا اليد والرجل وغيرها من الجوارح، وكل الأسماء على هذا كما سيأتي عند شرحنا لكل اسم منها . قال ابن القيم رحمه الله في [مفتاح دار السعادة] ص (1/137): " والأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية، فلكل صفة عبودية خاصة هي موجباتها ومقتضياتها، أعني موجبات العلم بها، والتحقق بمعرفتها .
وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية، التى على القلب و الجوارح، فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق، والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبادة التوكل عليه باطناً ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً.
وعلمه بسمعه تعالى وبصره وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياءَ باطناً ويثمر له الحياءُ اجتناب المحرمات والقبائح.
ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء وتثمر له ذلك في أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه … " أ.هـ . وعليه فثمرة هذه المعرفة من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب درجة المعرفة والعلم بهذه الأسماء والصفات، فمتى كانت المعرفة بها عالية وصحبها العمل أثمرت ثماراً يانعة، وغمرت صاحبها بالمعارف القلبية، والأعمال الظاهرية، ومتى نقصت، نقصت ثمرتها. وأكد هذا المعنى رحمه الله في موضع آخر فقال في كتابه البديع [ طريق الهجرتين ] ص ( 215 ) : " ومن كان له نصيب من معرفة أسمائه الحسنى واستقراء آثارها في الخلق والفعل رأى الخلق والأمر منتظمين بها أكمل انتظام، ورأى سريان آثارها فيهما، وعلم بحسب معرفته ما يليق بكماله وجلاله …… " .
والأمر كما قال ـ رحمه الله ـ فإن العبادة لا تتم إلا بالمعرفة والعلم بهذه الأسماء والصفات، لأن من لا يدرك حقيقة اسم (العليم)، (الخبير)، (اللطيف) …… لا يمكنه أن يعبده حق عبادته، ولذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ( أنا أعلمكم بالله ).
وشتان بين مصليين، مصل قائم بين يدي ربه، عالم باطلاع ربه على كل صغير وكبير من حركاته ظاهراً وباطناً، مستحضراً لذلك، وآخر لا يعلم من اسم (العليم) إلا رسمه، وما ورثه عن أبيه وأمه، إن كانا ورثاه من المعرفة شيئاً.
والله أعلم، والحمد لله أولاً وأخرا ،،