حوار موقع الجماعة الإسلامية مع الشيخ ياسر برهامي الجزء الثاني
الأمة صحيت يا ولاد !!
حاوره وقدم له د.ناجح إبراهيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فبعد أن لاقى الجزء الأول من حوارنا مع الدكتور ياسر برهامي هذا القبول الواسع، فإنه يسعدنا أن نقدم الجزء الثاني من حوارنا معه، حيث نناقش معه في هذا الجزء ذكرياته في المعتقل، وما هي أهم ما استفاده من مدرسة الابتلاء، ومن هم شيوخه في العلم، وما هو رأيه في الدعاة الجدد، كما يحدثنا كذلك عن آماله وطموحاته، وكلها تنصب على الدين والآخرة.
فهيا بنا نتابع سويا هذا الحوار الثري مع الداعية الدكتور ياسر برهامي.
عشت فترة في السعودية في السبعينات، سمعت فيها من الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي السعودية الأسبق -رحمه الله- فهل تذكر لنا شيئاً عن أهم ما يميز هذا الرجل في العلم ومساعدة الناس وصنع الخير؟ وماذا تقول للذين يسيئون إليه اليوم؟
ـ الشيخ "عبد العزيز بن باز" -رحمه الله- كان طوال الوقت في قضاء حوائج المسلمين، لا يسد بابه عن أحد ولا شفاعته، في فترة الشهور الأربعة التي قضيتها سـنـ1979ـةم في مكة المكرمة كنت مواظباً على حضور مجالسه، وبيته كان مفتوحاً لكل داخل مع الغداء والعشاء مع الشيخ.
ودون طلب منا لما لاحظ مواظبتنا على الحضور والسؤال، بادر إلى دعوتنا عن طريق سكرتيره الخاص إلى الحج ضمن هيئة التوعية الإسلامية، ووفر لنا سكنا في شقق دار الحديث المكية.
فما الظن بمن كان يطلب منه -رحمه الله-.
ولما حدثت أحداث الحرم المعروفة بفتنة "جهيمان" دخل بعض إخواننا إلى الحرم من باب الاستطلاع، ولم يكونوا من المشاركين في الفتنة، فحبسوا داخل الحرم حتى قبض عليهم وظن أنهم من المشاركين، وقد نجانا الله من ذلك بتزكية "الشيخ ابن باز" -رحمه الله- لمن كان يرغب منا في دخول جامعة أم القرى، فجعلها الله سبب لمعافاتنا، وكنت أيامها مريضاً لا أتحرك فلم أكن أذهب للحرم كما ذهب هؤلاء الإخوة.
وأما من يسيئون إليه، فأقول لهم: اتقوا الله فإن لحوم العلماء مسمومة، وإن خالفتم الشيخ في بعض الأمور فاعرفوا له قدره، وعلمه، وسبقه، ونفعه للمسلمين، واعلموا أن ما أجرى الله على ألسنة المؤمنين من الثناء عليه هو من علامات القبول -إن شاء الله-، وهذه جنازته شاهدة على ذلك. فنسأل الله لهم الهداية، ونسأل الله له الرحمة.
اقتربت من الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- قبل شهرته ووفاته، فهل تحدثنا عن أهم ما يميزه وأبرز خصاله؟ وماذا تقولون للذين لا يعرفون شيئاً عن مرونته في الاجتهاد العصري؟
ـ "الشيخ ابن عثيمين" -رحمه الله- عالم فذ مجتهد من أكثر العلماء المعاصرين علما بالشرع والواقع، ومن أكثر العلماء نفعاً لطلابه ولعموم المسلمين، متواضع زاهد يقبل مناقشة الصغير فضلا عن الكبير، يبدي الاحترام لمن يسمعه.
أذكر أني عرضت عليه مسألة الترتيب في أعمال يوم النحر ورأي الشوكاني في وجوب الترتيب إلا لعذر موافقا للحنفية والمالكية وخلافا للشافعية والحنابلة، -وذلك في سـنـ1979ـةم-، فقال: إن استدلاله استدلال قوي بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، والذي فيه: فما سمعته يُسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعضها وأشباهها إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (افْعَلُوا وَلاَ حَرَجَ) رواه البخاري ومسلم، فتقييد الأمر بالنسيان والجهل دون العمد له وجه قوي، هذا كلامه، ورغم صغر سني في ذلك الوقت إلا أنه كان يسمع باهتمام، ويقبل الأخذ والرد ولا يحتقر من أمامه ولو كان صغيراً.
وناقشته في بيع الشقق قبل بنائها.
وناقشته أيضا في مسألة كشف الطبيب على المريضة من النساء هل هو من باب الضرورات أم الحاجات؟
فقال بمنع بيع الشقق قبل بنائها، وأن كشف الطبيب على النساء من الحاجات ولا يلزم أن يكون من الضرورات، بل يجوز مع وجود البديل كطبيبة، ولكن الأولى أن تكشف الطبيبة على النساء، والطبيب على الرجال، وأحسب أن هذا هو ما تقصد بلفظ المرونة.
وإن كنت لا أدري ورود لفظ المرونة أو حتى معناها في مدح العالم المجتهد أو المفتي، بل الذي ورد مدح الثبات على الحق فقلب المؤمن في الحديث الصحيح: (أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا) رواه مسلم، أي مثل الصخر صلابة في الحق.
وإن كان هذا لا يعني إهمال الأدلة الدالة على الرخص عند ثبوتها، وكذلك كان الشيخ -رحمه الله- أحسبه كذلك يدور مع الدليل حيث دار تخفيفا أو تشديدا ومع مراعاة الواقع وحساب المصالح والمفاسد ورعاية الخلاف السائغ في المسائل.
الأستاذ الدكتور/ جمال برهامي شقيقك يحظى بحب ومكانة قد تفوق عند كثير من الناس مكانة الكثير من الدعاة، فما الذي جعله يحظى بهذا الحب الجارف؟، وهل تعلمت منه شيئا؟ وماذا تقول له؟ وهل تذكر شيئا من مواقفه تهديها لبعض أطباء اليوم الذين لا هم لهم سوى جمع المال؟ أو التكبر علي المرضى في المستشفيات؟
ـ أخي الحبيب "د/ جمال الدين برهامي" أظنه قد جعل الله له القبول في قلوب المؤمنين -والله حسيبه ولا أزكيه على الله- أحسبه قد جعل الله له هذه المكانة لشدة حرصه على الطاعة، وحبه للدين وصدق رغبته في نصرته، وإعلاء كلمته، وحبه لخدمة المسلمين حيث كانوا.
أغبطه على ما وفقه الله له من خدمة المجاهدين في الثمانينات عندما سافر ضمن "الوفد الرسمي لنقابة الأطباء" لـ "باكستان" ثم وفد"الهلال الأحمر".
لم يكن يفرق بين أحد من المسلمين بسبب انتمائه، بل كل مسلم له منه نصيب من الخير، لم يعد من هناك إلا براً بأبيه الذي أصر على عودته.
وسبحان الله قدر الله بعد عودته وفاة الوالد بحضوره -رحمه الله-. شديد الورع فيما يخشى أن يكون حراما، بل شبهة، لا يهتم بكلام الناس ولا هيئته عندهم لا يزال يصر على السيارة السيات موديل 81.
لا أظن أستاذا في الجامعة، وليس في كلية الطب غيره يرضى بهذه السيارة، كشفه إلى الآن خمسة عشر جنيها وهو أستاذ مستواه عالمي يتعلم منه الأطباء الأمريكان والألمان، ويحسن ما لا يحسنون.
ما أكثر خدمته للمسلمين؟! أظنه أكثر مني بكثير في هذا المجال، أقول له: زادك الله حرصاً، وتقوى،وهدى، وثباتاً، وعلماً، وإيماناً، وتواضعا، لولا أنه شقيقي لقلت أكثر من ذلك.
ما الأسلوب الأمثل برأيكم للتناصح بين العاملين في الحقل الدعوي لاسيما مع التباين الواضح بين بعض المناهج مما قد يؤدي بالبعض إلى سلوك عنيف بعض الشيء في نصيحته لإخوانه؟ ألا يكفيهم ما يقع من هجوم العلمانيين؟
ـ طريقة النقد الهدام لا نرتضيه أسلوباً لنا ولا لغيرنا في الدعوة إلى الله، ولنتأمل كيف قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في ما تنتقد به المسلم قال: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) متفق عليه، لم يقل النقد ولا الجرح ولا التشهير فضلاً عن الفضيحة والتهم الباطلة دون تثبت.
وإن كان لابد لنا من بيان الحق والرد على الباطل والبدع، لكن بالأسلوب المهذب الراغب في الإصلاح، فإن أصر المخالف على مخالفة الكتاب والسنة، بينا مخالفته بالدليل دون سباب ولا شتم.
ولنتعلم من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا،)، دون أن يصرح بأسمائهم وقال عن عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين: (مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي) متفق عليه، ولم يسمه -صلى الله عليه وسلم-.
فأين هذا مما نسمعه اليوم من تهم بالباطل دون تثبت، ومن هؤلاء من يزعم أنه من أهل الحديث فهل كان أهل الحديث يتهمون الناس دون تثبت؟
وأنا أنصح إخواني وجميع الدعاة بالتحري والتثبت، ثم عفة اللسان، وصدق النصيحة للمسلمين خاصة الدعاة إلى الله.
وليس يعني ذلك عصمة الدعاة أو عدم نقدهم أو بيان خطأ من أخطأ منهم، لكن بالعدل والإنصاف وصدق الرغبة في الإصلاح لا الهدم، وبحب أن يجري الله الحق على ألسنتهم، وليس بصيد الأخطاء لهم، فإن لم يجد عد لهم الأخطاء النحوية، أو انتقد شكلهم وهيئتهم كما يفعل البعض.
وعلى الدعاة أن يرجعوا إلى أهل العلم فيما أشكل عليهم، ولا يتسرعوا في الإفتاء لكل ما يعرض عليهم فليس إقبال الناس على الداعية ووعظه وتذكيره بدليل على أنه بلغ مبلغ العلماء والمفتين فلابد من رد الأمور إلى أهل العلم.
أما هجوم العلمانيين فلا نتوقع أن يستجيب الأعداء لمطالبنا، ولا أن يتوقفوا عن مهاجمة الإسلاميين، فإذا كانوا لا يتوقفون عن مهاجمة الإسلام فكيف بالإسلاميين؟!
كم مرة اعتقلت فيها؟ ومتى؟ وما هي ذكرياتك في المعتقل؟ وما أصعب لحظة كانت عليك؟ وما أسعد لحظة مرت عليك بالمعتقل؟ وما أهم المواقف الإيمانية التي لا تنساها والتي شاهدتها أو عشتها في المعتقل؟
ـ اعتقلت مرتين، مرة سـنـ1987ـةم في حادثة محاولة اغتيال "حسن أبو باشا" وزير الداخلية في ذلك الوقت.
والمرة الثانية سـنـ2002ـةم، المرة الأولى كنت مع أخي الحبيب "د/ أحمد فريد" و"الشيخ/ فاروق الرحماني" -رحمه الله- وغيرهم، وكانت المدة حوالي أربعين يوما في سجن "استقبال طرة".
وكان من المعلوم يقينا أننا لا دخل لنا بحادثة الاغتيال، ولذا لم يكن تحقيق ولا سؤال ولا شيء. والله -سبحانه- إذا ابتلى عبده ببلاء لم يستجلبه لنفسه يسر له من أنواع اليسر والراحة والسعادة في هذا البلاء رغم الألم ما لا يخطر بباله، ولقد كانت هذه المرة في رمضان وقضينا العيد في المعتقل.
أتذكر من الطرائف أننا كنا في "عنبر أ" في الدور الرابع، وكان الماء كثيراً ما يقطع عن العنبر كله، فكان الإخوة يعترضون بكل قوة وبهتافات قوية، وذات مرة أخذوا المفتاح من الشاويش عنوة، وفتحوا كل الزنازين، ومن لم يفتح له حاول كسر الأبواب، وكانوا يحرقون الأغطية، وخرج العنبر كله خارج الزنازين -طبعا حدث ذلك قبل المبادرة- ورفضنا نحن الخروج من زنزانتنا.
وكان معنا أحد الإخوة شيخ أزهري كان ينظر من باب الزنزانة فيسمع الهتافات فيقول متهللا: "الأمة صحيت يا ولاد"، فنقول له: "تعال يا شيخ محمد انظر من الشباك الآخر المطل على الساحات المحيطة بالعنابر والأسوار والأبواب المغلقة"، فكنا نرى عربات الأمن المحملة بالجنود وهي تتحرك ناحية العنبر بكميات هائلة لفض التمرد وإدخال الإخوة إلى الزنازين، وكنت أعد عدد الأبواب التي تغلق وراءنا بعد الباب الرئيسي للسجن فكان باب الزنزانة هو الباب رقم 19 فأقول له: "يا شيخ محمد لو فتحنا باب واحد أو اثنين فماذا سنفعل في ال18 أو ال17 الأخرى، هذه محاولة فاشلة".
ومع ذلك استمر التمرد حتى وصلت القوات ونادوا بالميكروفونات، بأنه إذا لم تـَعُد المفاتيح فسيتم إطلاق النار فلم يستجب أحد والحماسة كانت وصلت غايتها، وبالفعل تم إطلاق الرصاص الخرطوشي، ففي لحظة واحدة سكت الجميع وجرى الكل إلى الزنازين وأغلقها على نفسه.
ورغم أننا لم نفتح زنزانتنا، ولم نخرج منها إلا أن العقاب العام كان قد تقرر وقطع الغذاء والكهرباء بالإضافة إلى المياه.
وأخذ السجن كله "علقة ساخنة بالعصا" أعقبها الدخول إلى زنازين انفرادية.
وكانت -بحمد الله- فرصة عظيمة لاستغلال العشر الأواخر من رمضان بدلاً من الضحك المستمر في الزنزانة الكبيرة.
وكان معي الشيخ محمد الأزهري نفسه -اثنان في الزنزانة الانفرادية- فقلت له: الأمة صحيت يا شيخ محمد؟! فقال لي:" دي نايمة وفي سابع نومة".
أما في المرة الثانية سـنـ2002ـةم، فكانت قضيتنا نحن، فكان فيها تحقيق، ولا شك أن أيام التحقيق التي استمرت نحو عشرين يوما لمراجعة خمسة وعشرين سنة من الدعوة كانت أطول أيام العمر فإن ليل السجن وليل المرض طويل.
واستمر الاعتقال بعدها بالنسبة لي نحو السنة، خففه الله علينا بحسن استقبال إخواننا لنا، ثم بحسن صحبتهم.
ولا شك أن إخوة الجماعة الإسلامية خصوصا الأخ "علاء الخولي" -حفظه الله- كانوا نعم العون لنا في هذه الفترة، جزاهم الله خيراً.
ورغم آلام هذه الفترة فقد كانت من أفضل أيام عمري، لا تفوقها إلا فترات الاعتكاف والحج والعمرة، وفيها لحظات لا نظير لها. نسأل الله أن يغفر لنا ويتقبل منا.
أما أسعد لحظة فلا أحددها بالضبط إلا أنها لحظات كان للصلاة ولقراءة القرآن فيها طعم لا يوصف، وكما ذكرت لا نظير لها، فخلاصتها أنها لحظات في الصلاة.
أما عن المواقف الإيمانية فهي نابعة من أن الروح مع البلاء تسمو فوق حدود الجسد، وفوق أسوار السجن حتى ينظر الإنسان إلى العالم صغيراً كما خلقه الله والدنيا لا تساوي شيئا كما هي عند الله، لا تساوي جناح بعوضة، ورؤية ملكوت السماوات والأرض يصعب بغير خلوة وعبادة، ويتعسر في ازدحام الحياة، ويستحيل مع الشهوات والشبهات.
فأين يجد الإنسان الفرصة أحسن من هذا البلاء الذي هو كما ذكرت بغير استدعاء، ثم روح الأخوة العالية التي لا تنمو ولا تكبر إلا في مثل هذه الظروف.
أتذكر موقف أحد إخواننا وقد عدنا من النيابة، وقد أمرت بإخلاء سبيله، واستمر حبسنا فكان في سيارة الترحيلات يبكي على فراق إخوانه، وهو الأخ الحبيب "أحمد الشريف" من العامرية، وكذلك كان كل أخ لحظة مغادرته السجن وحين وداع إخوانه الباقين، أتذكر كيف نمت المحبة بين جميع الإخوة بصورة أظنهم لا يجدون مثلها الآن.
ولا تزال ذكرى هذه الأيام مستقرة في القلوب، حاولت جمعها في كتابي رسائل إلى الأحبة حيث كانت رسائلي إلى الأهل والأولاد خلال هذه المدة معبرة عن المشاعر الإيمانية التي تجول بالقلب.
وأتذكر ليلة قدم "الشيخ سيد حسن العفاني" إلى زنزانتنا، وكيف ملأ العنبر كله مرحاً وسروراً بروحه الطيبة ومواعظه الجميلة وذكرياته التاريخية الحافلة،
ويوم قدم "الشيخ شريف الهواري" وإخوة العامرية والفرصة الطيبة التي حصلت لهم ولنا بانتقالهم إلى عنبرنا، أسأل الله أن يجمعنا يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
الجماعة الإسلامية تشعر بالامتنان لكم حيث أنكم أيدتم مبادرتها لمنع العنف فما رأيكم في المبادرة وكتبها، وماذا ترى لتفعيل دورها بين الشباب المسلم؟
ـ لقد كانت فترة عصيبة على الحركة الإسلامية كلها ما بين اغتيال السادات إلى تفعيل المبادرة، لقد كنا نتألم أشد الألم كلما سمعنا عن سفك الدماء المعصومة من المسلمين وما يتبع ذلك من مفاسد وفتن، فكان لابد من وقفة.
وكما كانت الجماعة الإسلامية جريئة في مواجهتها كانت جرأتها أعظم في الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الحق.
قد يخطئ الإنسان ولكن الخطأ الأكبر أن يصر على ذلك، حين قرأت الكتب الأربعة للمبادرة وجدتها في جملتها تعبر عن فكرنا الذي كنا ننادي به طيلة هذه الفترة، وقد كنت أرسلت إلى حضرتك نسخة من كتابي "فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من "استقبال طرة" إلى "سجن دمنهور" مع أحد إخواننا من الجماعة وقلت له أن يقول لك: "هذه الرسالة هي الأخت الكبرى للمبادرة إذ أنها ولدت قبلها بعشر سنين"
فكتابة هذه الرسالة كانت موقفا يعبر عن قناعات ومبادئ الدعوة ككل ومنذ نشأتها الأولى من سنين بعيدة.
لقد كانت المبادرة ضرورية لوقف نزيف الدم والفتن والمفاسد المترتبة على مواجهة في غير موطنها وغير زمانها، فبلادنا كانت تحتاج إلى مثل هذا الموقف.
وكان لازما وواجبا علينا أن نؤيدها في جملتها، وأن نشجع إخواننا سواء من كان منهم في الجماعة الإسلامية أو غيرها من الجماعات كإخوة الجهاد على قبول خطوطها العامة وتفعيلها بين الشباب والقيام بمثلها إن لم يكونوا موافقين على بعض ما فيها.
وبحمد الله رأينا مراجعات "الدكتور/ سيد إمام" تسير على نفس الخطوط، وقد حاولنا كثيرا فترة وجودنا بالمعتقل مع إخواننا في جماعات الجهاد إلى أن يسر الله ذلك بهذه المراجعات.
وأنا لست في مقام التفصيل والبحث العلمي لكل ما ورد في المبادرة والمراجعات، لكن في مقام تحديد مدى موافقة الخطوط العريضة لهذه المبادرة للشرع وكلام أهل العلم من السلف والمعاصرين.
فالحمد لله على تيسير هذه المبادرة، وأظن أن المناقشات العلمية المستمرة المفتوحة الصادقة هي من أهم ما يؤدي إلى تفعيل هذه المبادرة بين الشباب.
ماذا تقول للذين يقومون بتفجيرات في بلاد المسلمين مثل السعودية والجزائر والمغرب وغيره؟ وهل أدت هذه التفجيرات في السعودية لضعف أهل السنة فيها وعلو شأن الشيعة والعلمانيين كما يقول معظم المراقبين؟
ـ هذه التفجيرات في بلاد المسلمين تسفك فيها دماء معصومة من مسلمين وكفار مستأمنين أو معاهدين ومن غير مصلحة شرعية، بل بمفاسد لا يحصيها إلا الله، ومن أعظمها التضييق على الدعوة إلى الله، وإعطاء المبرر لإضعاف أهل السنة والجماعة، وفتح أبواب الانتشار لأهل البدع كالرافضة والعلمانيين.
فأنا أتفق مع وجهة نظرك أنها تضر أهل السنة فضلا عن كونها غير مشروعة، ليست بجهاد شرعي كما ذكرت، فأقول لمن يقوم بهذه التفجيرات قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِى فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) رواه البخاري.
فاتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في إخوانكم، واتقوا الله في بلادكم وبلاد المسلمين، واتقوا الله في الدعوة إلى الله وحرمات المسلمين التي تنتهك بسبب ذلك.
ما هي مؤلفاتك؟ وما هو أحبها إلي قلبك؟ وما هي ذكرياتك مع كل كتاب منها؟ وهل تدعو لمؤلفاتك كما تدعو لأولادك؟
ـ أستغفر الله أن يكون لي مؤلفات، وإنما هي محاولات لجمع فوائد وتيسير مسائل بلغة معاصرة وطريقة سهلة، تسهل على إخواني طلبة العلم.
وكان أولها مذكرة التوحيد التي صارت بعد ذلك كتاب "فضل الغني الحميد"، وكان جمعها كمخلص لكتاب التوحيد وشرحه "فتح المجيد"، مع إضافة تعليقات مهمة حول مسائل العذر بالجهل والتوسل والحكم والولاء والبراء والقضاء والقدر
ثم كان "منة الرحمن في نصيحة الإخوان" سـنـ1988ـة ثم "قصة أصحاب الأخدود"،وكذلك مجموعة مقالات "فقه الخلاف"، التي نشرت في مجلة "صوت الدعوة".
ومن أحبها إلى قلبي "رسائل إلى الأحبة"، و"رسائل على طريق النور"، و"قصة يوسف "-عليه السلام- والمنة.
الكتاب الأول فضل الغني الحميد كان الإخوة في "الدعوة السلفية" سـنـ1980ـةم يبحثون عن كتاب مختصر في التوحيد ليدرس للإخوة في لقاءاتهم.
أقترح بعض الإخوة كتاب "دعوة التوحيد" "للشيخ هراس" واقترح البعض "تطهير الجنان" واقترحت "كتاب التوحيد" لأنه شامل لقضايا كثيرة، فاعترض بعض المشايخ، لأنه طويل، ولأن بعض العبارات في الشروح قد تفهم خطأ في أبواب التكفير، وليس فيه ما يوضح قضية العذر بالجهل.
فاقترحت عمل تلخيص له وإضافة المسائل المطلوبة فأسندوا ذلك إلي، فقمت به بحمد الله، ولقي قبولا عاما من الإخوة المدرسين والدارسين وتوسعت فيه بعد ذلك في بعض المسائل حتى وصل إلى الصورة الحالية.
أما كتاب المنة فكان المقصود منه وضع ما يجمع القضايا الكلية التي تميز منهج أهل السنة.
وكان أول مرة يظهر فيها للناس يوم عقد زواجي الأول وزعته على الإخوة الحاضرين كهدية، ثم شرحته بعد ذلك.
أما كتب رسائل إلى الأحبة ورسائل على طريق النور وقصة يوسف -عليه السلام- فهي مؤلفات المعتقل.
وأنا أدعو الله أن يعلمني ما ينفعني، وأن ينفعني بما علمني، فقد دخل في ذلك كتب ودروس وأستغفر الله من الزلل.
ما التطور الذي ترجوه لموقع صوت السلف؟
ـ أرجو الله أن يتسع صوت السلف ليشمل لغات عدة لتوصيل المنهج الإسلامي النقي لشعوب الأرض.
وأن يتسع ليشمل المكتبة الصوتية لدعاة أهل السنة.
وأن يوجد فيه أقسام لمقارنة الأديان ولدعوة أهل الأديان الأخرى للإسلام، وأقسام متخصصة في الرد على أهل البدع ودعوتهم إلى منهج أهل السنة.
وأن أراه من أوسع المواقع انتشارا في العالم.
حدثنا عن بعض ذكرياتك مع الشيوخ د/ محمد إسماعيل، ود / أحمد فريد، ود/ سعيد عبد العظيم، ود/ أحمد حطيبة.
ـ أذكر أول لقاء بفضيلة "الشيخ محمد إسماعيل" في دورة إعداد لمعسكر الجماعة الإسلامية بجامعة الإسكندرية صيف عام 77 بإستاد الجامعة.
حيث درس لنا رسالة في الرد على جماعة التكفير الذين قتلوا الشيخ الذهبي في هذا العام، وأتذكر أنه الذي رشحني لعمل بحث عن قضية التأويل بين السلف والخلف والذي ضمه كتاب فضل الغني الحميد.
أما "الشيخ أحمد فريد" فأول لقاء معه كان في مسجد السلام بسيدي بشر، وكان يقيم بالمسجد وهو أول شيخ قابلته من شيوخ الدعوة، حيث كنت في الثانوية العامة، ثم كانت لنا اللقاءات الدافئة النافعة في توطيد أركان الأخوة بما لا تحققه غيرها وهي لقاءات المحن في مرتي الاعتقال الأولى عام 87 والثانية عام 2002، حيث وجدته في الزنزانة مع الشيخ "شريف الهواري" حيث جدد لي الاعتقال بعد إخلاء السبيل من النيابة.
ومن طرائف المرة الأولى، أننا أفرج عنا في يوم واحد، وكان ترحيلنا في يوم واحد، وكنا معا في "كلبش حديد واحد"، وكانت يد الشيخ رقيقة جدا فاستطاع تخليص يده من القيد الحديدي، وترك القيد في يدي وذلك في قسم ترحيلات الخليفة.
وأما مسيرة العمل الدعوي فهي بفضل الله مليئة بالندوات واللقاءات المشتركة نفعنا الله بها.
أما "الشيخ سعيد عبد العظيم" فكانت لقاءاتي معه في شقته فوق مسجد السلام أسبوعية، نتدارس المسائل الفقهية معا، ونبحث عما أُشكل علينا في الكتب، فكان ذلك من أكبر أسباب التقارب والتوافق والمعرفة الدقيقة لكل منا بالأخر، وفي صقل المعلومات وترجيح المسائل.
ثم كان الشيخ سعيد ولم يزل من أكثر المشايخ تحملا لمسئولية العمل الدعوي، والتواجد والتواصل مع الناس، والواقعية، والبذل والتضحية بالوقت والجهد من أجل استمرار الدعوة.
أما "الشيخ أحمد حطيبة" فهو رفيق العمر كما سبق أن ذكرت زمالتنا في المرحلة الثانوية، ولا يزال أقرب الإخوة إلى نفسي وعلاقتي به وحبي له لا أستطيع أن أحده.
وتبقى العلاقة بهؤلاء المشايخ الأفاضل وغيرهم، والذكريات المشتركة معهم مستعصية على أن تستوفيها كلمات سريعة كتلك، فهي رحلة عمر ورفقة طريق طويل تملؤه الآمال والآلام، والأفراح، والأتراح.
وأسأل الله -تعالى- كما جمعنا في الدنيا على طاعته أن يظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله وأن يجمعنا وإياكم وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا والمسلمين والمسلمات في جنته
وأقول في نهاية حديثي: جزاكم الله خيرا، وسددكم، وهداكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، ورزقنا حبه، وأذاقنا من نعيم قربه.
وأنتهز الفرصة لإرسال السلام للإخوة الكرام الشيوخ ( كرم محمد زهدي وعصام دربالة وعاصم عبد الماجد وعلى الشريف وأسامة حافظ وحمدي عبد الرحمن وفؤاد الدواليبي)
وهكذا ينتهي الجزء الثاني من حوارنا مع فضيلة الدكتور الداعية ياسر برهامي،على أمل اللقاء به في الجزء الثالث من حوارنا معه نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.