مطالبة برفع (صوت صفير البلبل) من مقررات الأفراح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد...
مع انتشار الصحوة الإسلامية وتشعبها في المجتمع -بفضل الله تبارك وتعالى-؛ أصبحت أفراح الملتزمين يحضرها عدد كبير من غير الملتزمين، مما دفع الكثيرين إلى محاولة إضفاء قدر من البسمة والمرح على هذه الأفراح، مع الالتزام قدر الإمكان بالضوابط الشرعية. وقد ظن كثيرون أن وجود هذه القصة في كتاب من كتب الأدب يغني عن تمحيصها. مع أن الكثير منها يحتوي على أمور فاحشة كالطرائف التي تتعلق بسوء فهم أو خطأ في نطق لآية.
وبِغضِّ النظر عن صحة كل هذه القصص من عدمه -وهي في الغالب لا تصح-، فإن رواية مثل هذه الحكايات تولد ارتباطاً شرطياً في ذهن السامع بين الآية وبين الطرفة مما يكون له أسوأ الأثر في قلب السامع. ومما يزيد به الأمر خطورة سرعة تناقل مثل هذه الطرائف لاسيما في الأفراح إلى الدرجة التي قد يظن معها أنها مأثورة.
ومن الطرائف التي انتشرت انتشاراً واسعا -لاسيما- في الأفراح قصة قصيدة (صوت صفير البلبل)، ولا ندري على وجه الدقة من الذي بدأها في العصر الحديث، ولكن غالب الظن أنه الشيخ القطان الذي قالها على سبيل الدعابة في مناسبة من المناسبات. وقد اعتمد الشيخ في إلقائها على سرعة الإلقاء مما يجعل السامع لا يلتفت إلا إلى أنها قصيدة غريبة المعاني أعجزت الخليفة ذا الذاكرة الفولاذية أن يحفظها من مرة واحدة كما هي عادته.
وإلى هنا فالأمر يمكن قبوله كطرفة برغم اللوازم السيئة التي في القصة من تضييع الخليفة لوقته في مثل هذا العبث، وإقدامه على تضييع مال المسلمين لولا عطف الأصمعي، ولكن القصيدة تحولت إلى ما يشبه المقرر في معظم الأفراح، ثم اطلعنا على كلمات القصيدة فوجدنا فيها معاني لا تليق، من وصف مجلس شرب الخمر ومجلس غناء وموسيقى مما لا تحسن حكايته لمجرد التندر، فضلاً على أن القصيدة متى قرأتها بالسرعة الطبيعية وجدت أن حفظها أيسر بكثير من حفظ غيرها مما يخسف بالقصة من الأساس.
وليس في القصيدة سوى أبيات من الرجز، وكلما أعجز الشاعر (المجهول) الوزن أو القافية كرر الكلمة أو أضاف إليها مقطع (لي)، وربما فعل الاثنين كما هو في قوله (الدم دم لي). وطبعاً هذه الكلمة لا تمت إلى لغة العرب بصلة، وإن كنا قد فهمنا منها أنه يريد أن يقول ( الدم) تماماً كما نفهم لغة الصبي الصغير الذي يريد أن يحاول أن يأتي بالكلمة فيتتعتع فيها.
وإليك نص القصة والقصيدة من كلام الأتليدي في كتاب "إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس":
يروى أن أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور -رحمه الله- كان يحفظ الشعر من أول مرة يسمعه فيها, وله مملوك يحفظه من مرتين, وله جارية تحفظه من ثلاث مرات, وكان أبو جعفر إذا جاءه شاعر بقصيدة قال له: إن كانت هذه القصيدة لم تسمع من قبل نعطيك زنة ما كتبت عليه ذهباً, أما إذا كانت قد سمعت فليس لك شيء, فيوافق الشاعر ويلقيها على مسامع الخليفة, فيحفظها الخليفة ويلقيها على الشاعر وكأنها قد سمعت من قبل,
فيقول الشاعر : إنها من بنات أفكاري يا أمير المؤمنين, فيقول له الأمير: لا, ولَديَّ عبد يحفظها أيضاً فيأتي بالعبد فيلقيها عليه, ثم ينادي على الجارية التي عنده كي يزيد من تأكيد كلامه أن القصيدة قد سمع الناس بها من قبل, فتاتي الجارية وتلقيها على مسامعه, حتى يشك الشاعر في نفسه..!
وهكذا كان يفعل أمير المؤمنين مع كل الشعراء ( حرصا منه على أموال المسلمين حتى لا يذهب أكثرها للشعراء ) حتى سمع الأصمعي بما يفعله الأمير بالشعراء، وقد أسف على حالهم.
وهَمَّ الأصمعي إلى أمير المؤمنين، وقد تنكر بلباس إعرابي، وجعل له جدائل وارتدى جلد شاة, فلما قدم على الأمير قال: السلام عليكم يا أمير المؤمنين, أنا أعرابي أتيت إليك ولدي قصيدة أود أن أقولها لك.
فقال الأمير : أتعرف شرطنا أيها الأعرابي؟
فقال الأصمعي: نعم يا أمير المؤمنين أعرفه. فأذن له الأمير.
فقال الأصمعي :
صوت صفير البلبل
|
هيج قلبي الثمل
|
الــماء والزهر معا
|
مع زهر لحظ المقل
|
وأنــــت يــا سيدلي
|
وسيدي ومولى لي
|
فكـم فكــم تيــــمني
|
غزيل عقيقل
|
قــطفتها من وجنة
|
من لثم ورد الخجل
|
فقــال لا لا لا لا لا
|
وقد غدا مهرول
|
والخـوذ مالت طربا
|
من فعل هذا الرجل
|
فولــولت وولـولت
|
ولي ولي يا ويل لي
|
فقلت لا تــولولي
|
وبيٌني اللؤلؤ لي
|
قالت له حين كذا
|
انهض وجد بالنقل
|
وفتيـة سقـونني
|
قهوة كالعسللي
|
شممتها بأنــفي
|
أزكى من القرنفل
|
|
|
في وسط بستان خلي
|
بالزهر والسرور لي
|
والعود دندن دنا لي
|
والطبل طبطب طب لي
|
والسقف سق سق سقلي
|
والرقص قد طاب إلي
|
شوى شوى وشا هش
|
على ورق سفرجل
|
وغرد القمري يصيح
|
ملل في ملل
|
ولو تراني راكباً
|
على حمار أهزل
|
يمشي على ثلاثة
|
كمشية العرنجل
|
والناس ترجم جملي
|
بالسوق بالقلقللي
|
والكل كعكع كع كع
|
خلفي ومن حويللي
|
لكن مشيت هاربا
|
من خشية العقنقلي
|
إلى لقاء ملك
|
معظم مبجل
|
يأمر لي بخلعة
|
حمراء كالدم دم لي
|
أجرٌ فيها ماشيا
|
مبغددا للذيل
|
أنا الأديب الألمعي
|
من حي أرض الموصل
|
نظمت قطعا زخرفت
|
يعجز عنها الأدب لي
|
أقول في مطلعها
|
صوت صفير البلبل
|
فلم يستطيع أمير المؤمنين أن يحفظها لصعوبة كلماتها، فنادى على المملوك الذي عنده فسأله إن كان قد سمع بهذه القصيدة ( بمعنى: هل حفظتها؟)، ولكن العبد أشار إلى انه لم يسمع بها من قبل, فنادى على الجارية وسألها نفس السؤال، ولكن جوابها لم يكن أفضل من جواب المملوك.
حينها قال الأمير : أحضر ما كتبت عليه القصيدة.
وكان الأصمعي قد كتب القصيدة على عمود من الرخام قد ورثه أبوه عن جده، فأتى به بمساعدة أربعة من الرجال بسبب ضخامة هذا العمود, وحينما شاهده أمير المؤمنين اندهش تماماً، فأمر بوزن العمود، وإذا به يزن ثلاثة أرباع بيت المال، فأعطاه بوزنه ذهباً كما كان يعد بذلك، فأخذ الأصمعي الذهب الذي منحه إياه أمير المؤمنين وأراد الخروج من مجلسه، فمنعه الوزير، وقال: يا أمير المؤمنين ما أظن هذا إلا الأصمعي.
حينها التفت إليه الأمير وقال: أمط اللثام عن وجهك أيها الأعرابي.
فأزال اللثام وإذا هو الأصمعي، فغضب الأمير، وقال: أتفعل هذا بأمير المؤمنين؟؟
فرد الأصمعي: نعم يا أمير, بذاكرتك قطعت أرزاق الشعراء.
فأمره الأمير أن يرد المال الذي أخذه، ولكن الأصمعي رفض أن يرده الا بشرط, فسأله الأمير ما هو الشرط؟
فقال الأصمعي: أن تعطي الشعراء جوائز على قصائدهم سواء كانت من نقلهم أو من نظمهم
فقال الأمير: لا بأس نجيزهم, فرد الأصمعي المال الذي كان قد أخذه. …
نبدأ الآن التعليق على هذا الخبر
هذه القصة أو الحكاية مكذوبة على الأصمعي وغير صحيحة من عدة وجوه.
أولاً: الأصمعي كان نديماً لهارون الرشيد، واشتهرت القصص معه لا مع أبي جعفر المنصور، ولم يورد إلا هذا الخبر مع المنصور، وجُل أخباره كانت مع هارون الرشيد، فكان من الخاصة لديه ومن ندمائه.
ثانيا: كانت حياة الأصمعي ما بين 123 هـ…. إلى 216 هـ
وكانت فترة حكم أبي جعفر المنصور 136 هـ…. إلى 158 هـ
أي كان عمر الأصمعي وقت ما كان حاكم مابين العشرين والثلاثين، وأرى أنه إلى الآن لم يكن شيخ زمانه في الشعر والأدب إلا بعد هذا العمر، وفي هذا الوقت كان تلميذاً لدى خلف الأحمر وعمرو بن العلاء، وكان كثير الطواف في البلدان وسماع الأخبار بها؛ لذلك أقول: إنه كان غير مقيم في بغداد إلا وقت المهدي وبعدها.
ثالثا: قال الأخفش كان الأصمعي ((أعلم الناس بالشعر))، وكان يميز الغث من السمين، وكان راوية العرب، وكان يحفظ أكثر من عشرة ألاف أرجوزة غير الشعر، ولكنه لم يكن شاعراً أبداً.
رابعا: لم يُرْوَ من شعر الأصمعي إلا هذه القصيدة، فهل يا ترى العالم الأصمعي الذي كان يدرس تلاميذه أجود الشعر يقول هذه القصيدة التي لا معنى لها، وركيكة جداً، وألفاظها هجينة؟
قيل للأصمعي: لماذا لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا يواتيني، والذي يواتيني لا أريده، أنا كالمِسَنّ أشحذ ولا أقطع.
وهذا دليل على أن الأصمعي ليس بشاعر.
خامسا: تفرد بهذه القصة ونشرها الأتليدي في كتابه "إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس"، ولم تُرْوَ في غير هذا الموضع.
والأتليدي معروف بالكذب ونسب الأخبار الغير صحيحة منها البراكمة والكذب عليهم، كما أن هذا الكتاب من قرأ عنوانه ظن أنه فقط خاص بالبراكمة، ولكن ما تكلم عن البرامكة فيه صفحات قليلة فهذا من كذبه.