بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعد،
أنزل الله القرآن الكريم نوراً وشفاء وموعظة للمؤمنين، والناس في حاجة إلى كل القرآن، بل في حاجة إلى السنة الشارحة والموضحة له يستوي في ذلك آيات الأحكام وآيات العقائد وآيات القصص وسائر آيات القرآن الكريم.
ولكن تبقى بعض سور وآيات القرآن أجمع لكثير من المعاني من البعض الآخر كفاتحة الكتاب التي جمعت كل معاني الإيمان، ولذلك جعلها الله في الصلاة، وهناك سور أخرى جامعة لكثير من معاني الإيمان ويأتي على رأسها تلك السور التي رتب لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وظائف معينة، ومنها سورة الأعلى التي جعلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع سورة الغاشية لأعياد المسلمين السنوية وكذلك لعيدهم الأسبوعي الجمعة، والعلة في ذلك أنها موعظة جامعة تلخص أهم آفة تعرض للإنسان في سيره إلى الله لذلك أنزلها الله في جميع كتبه السابقة (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (الأعلى: 18- 19). سبح اسم ربك الأعلى، افتتح الله هذه السورة بالأمر بتسبيحه عز وجل والذي هو تنزيهه عز وجل عن كل نقص، وأمر الله بتسبيحه باسمه الأعلى ولعل السبب في ذلك أن السورة سوف ترشد الخلق إلى أنواع من التأمل في المخلوقات فالله عز وجل هو الأعلى على جميع خلقه، وهذا يتضمن ثلاثة أنواع من العلو:
علو الذات كما قال تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه: 5).
علو القهر كما قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام: 18).
علو الشأن كما قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) (الرعد: 9).
وهذا الأمر المطلق بتسبيح الله ـ عز وجل ـ باسم الأعلى قد جاء في السنة أن أولى الأحوال بهذا الذكر هو في السجود حيث الجسد في أكثر أحوال اعترافه بأن ربه هو الأعلى فحري أن ينضم إلى ذلك اللسان ومن قبله القلب.
(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى والذي قدر فهدى) هاتان الجملتان القصيرتان يمكنك أن تذكر تحتهما كل ما تقع عينك عليه من عجائب القدرة ولطائف التدبير وأنواع هداية الكائنات إلى ما يصلحها، حتى الطيور المهاجرة والأسماك المهاجرة، ترجع صغارها إلى مأوى آبائها الأصلي وإن فقدتهم في أثناء الطريق.
(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى) أي الذي أخرج النبات أخضر، ثم يستحيل بعد ذلك يابساً أسود، ولعل هذه كالتوطئة لموضوع السورة وهي أن الدنيا بأسرها فانية وإن كان بعضها أسرع فناء من بعض، فليتعظ العبد بحال الأشياء السريعة الفناء كالزرع، وليعلم أن كل شيء من الدنيا وإن طال فصائر إلى نفس المصير.
(سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) بعد أن ذكر الله النعم الدنيوية، وأشار إلى فنائها عن طريق ضرب المثل بالنبات ذكر هذه النعم الدينية العظيمة إنزال القرآن، وحفظه وتسهيل الشرع.
(فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى) أمر بشكر نعمة القرآن الذي أنزله الله ذكرى للبشر، فشكر نعمة على أهل القرآن وعلى رأسهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو التذكير به، ولكن ينبغي أن يضعوا التذكير في موضعه، حيث يغلب على الظن نفعه، إما بإيمان المذكر أو بإقامة الحجة عليه، ومتى غلب على الظن عدم حصول شيء من ذلك بل حصول مفاسد فلا يشرع التذكير حينه.
(سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لاّ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى) ثم أتى الله ـ عز وجل ـ على المنتفعين بالذكرى وهدد المعرضين عنها بالنار الكبرى خالداً مخلداً فيها. ووصفه قبل هذا بالشقاء أي في الدنيا والآخرة.
(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) هذا هو أول الموعظة التي ختمت الآيات بذكر أنها نزلت في الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى.
وهي كما ترى جامعة لعبادات القلب "تزكى" واللسان "ذكر اسم ربه" والبدن "فصلى" وهذه هي العبودية التي من حققها فقد أفلح ونجا وفاز، ومن زكاة القلب عبادة الزكاة المالية فإن الإنسان جُبل على حب المال (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات: 8) فإذا ترك شيئاً منه لا سيما بعد تحصيله فهذا دليل على زكاة قلبه ولذلك سميت تلك العبادة المالية بالزكاة، ولأنها أيضا تزكي مال المتصدق.
ومن المناسبات العظيمة التي يجمع فيها المسلم بين هذه الأمور الثلاثة عيد الفطر، حيث يخرج زكاة الفطر، ويخرج للصلاة مكبراً تكبيرات العيد، ولذلك فالآية وإن كانت عامة إلا أن إحدى أهم أفراد ذلك العام هو عيد الفطر، وعليه يحمل قول من قال من السلف: "هي زكاة الفطر وصلاة العيد".
(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) هذا هو الداء العضال الذي ابتليت به البشرية عبر تاريخها، وكما قالوا في الآثار "حب الدنيا رأس كل خطيئة"، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ضعف الأمة وتكالب الأعداء عليها إنما يحصل حينما يلقى في قلوبهم الوهن، وفسره بأنه حب الدنيا وكراهية الموت.
(وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) وهذا هو الدواء لذلك الداء، أن تعلم أن الآخرة أفضل من الدنيا من جهتين أنها خير منها، وأنها أبقى منها، ولو لم تكن إلا هذه الصفة الأخيرة لكان على العاقل أن يختارها فكيف مع اجتماع هاتين الصفتين، وهذا معنى قول من قال من السلف "لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان على العاقل أن يختار الخزف الباقي على الذهب الفاني، فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى".
ولكن لماذا يختار الناس الدنيا ويتركون الآخرة التي هي خير وأبقى، والجواب في قوله تعالى (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وتذرون الآخرة) (القيامة: 20).
ولذلك فإن العلاج ليس فقط معرفة أن الآخرة خير وأبقى بل في استحضار ذلك ماثلاً أمام العين، كما في حديث حنظلة ـ رضي الله عنه ـ: (نكون عندك يا رسول الله فتذكرنا بالجنة والنار حتى كأنها رأي العين).
(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) أي أن هذه الموعظة قد نزلت في الكتب السماوية السابقة، قيل بنصها وقيل بمعناها، وخص بالذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام لكونهما أفضل الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
وإليك أخي المسلم هذه التساؤلات:
لماذا يحتج الناس بالقدر في أمر الطاعة ولا يحتجون في أمر الرزق؟
لماذا ينظر الناس إلى من فوقهم في الدنيا وإلى من هم تحتهم في الدين مخالفة لأمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟
لماذا يرضي باليسير من الطاعة بينما لو كان له واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً؟
لماذا يطعن في المظاهر الإسلامية إذا تستر أحد ورائها كالنقاب مثلاً، ولو يطالب بإلغاء أزياء الشرطة والجيش وغيرها إذا تستر الناس ورائها؟
لماذا ينصرف كثير من الناس عن الطاعة والعمل لدين الله بدعوى اختلاف الدعاة إليه بينما أهل الدنيا يختلفون عليه في الصغير والكبير فلا يزيده هذا إلا حرصاً على اختيار الأجود والأفضل؟
لماذا يترك بعض العاملين لدين الله الثغرة التي هو عليها مغضباً من أي تصرف يسوءه من إخوانه ـ ولو بغير قصد ـ بينما في دنياه يتحمل العنت والأذى من رؤسائه وزملائه؟
لماذا يتصور البعض أنه بوسعه أن يدعوا إلى الله كجزيرة مستقلة بينما لا يكاد يستطيع أن يتناول طعامه وحده؟
لماذا لا يطيق الرجل من سب أباه وأمه بينما يحب ويخالل من سب الله ـ عز وجل ـ ونسب إليه الصاحبة والولد؟
لماذا .....؟
لماذا......؟
والجواب عن ذلك كله "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" والعلاج يكمن في استحضار أن "الآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى"