كلام العلماء المنير في فقه التصوير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ثم صلاة وسلاما دائمين علي خير البرية سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم وبعد فقد كثر اللغط والإضطراب والتشتت في حكم الصور التي لا ظل لها ( مثل الفوتوغرافية والصور التي علي الجدر والتي في الستائر المعلقة )
وكذلك في حكم الصور التي لها ظل ( مثل التماثيل والعرائس ونحو ذلك ) فأقول مستعينا بالله عز وجل : قال الله تعالى } وأن هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { الانعام 153
وقال الله تعالى } فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { النور 63
وقال الله تعالى }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا { المائدة 3
. وقال تعالى } قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبونَ اللَّهَ فَاتَّبعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ { آل عمران 31
قال الإمام مالك رحمه الله :[ ومن أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم خان الدين لأن الله تعالى يقول الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً]
وعن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلي الله عليه وسلم صلاة الفجر ثم وعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل :
يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا . فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح ورواه أحمد وابن حبان ، وهو حديث صحيح صححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي
وقال عمر بن عبد العزيز :[ سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق بكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها . من عمل بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً ] رواه ابن عبد البر وذكره الشاطبي في الاعتصام وقال إنه كان يعجب مالكاً جداً
قال الشاطبي :[ إنه كلام مختصر جمع أصولاً حسنة من السنة منها ما نحن فيه لأن قوله : ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها . قطع لمادة الابتداع جملة . وقوله : من عمل بها فهو مهتد . مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك ، وهو قول الله سبحانه وتعالى
} وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {]
أولا : النصوص التي جاءت في التصوير : -
الحديث الأول : عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت
سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما راه هتكه , وتلون وجهه وقال : يا عائشة ! أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله , قالت عائشة : فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين فقد رأيته متكئا علي إحداهما وفيها صورة . رواه البخاري ومسلم والبيهقي
سهوة : تعني مخدع صغير القرام : يعني الستر الرقيق وراء الستر الغليظ
الحديث الثاني : عن عائشة رضي الله عنها قالت : حشوت وسادة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها تماثيل كأنها نمرقة فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه , فقلت : نالنا يا رسول الله ؟ , قال : ما بال هذه الوسادة ؟ قالت : قلت وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها , قال : أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة , وأن من صنع الصور يعذب يوم القيامة فيقال : أحيوا
ما خلقتم , قالت : فما دخل حتي أخرجتها . رواه البخاري ومسلم وابو بكر الشافعي
الحديث الثالث : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاني جبريل عليه السلام , فقال لي : أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان علي الباب تمثال وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل , وكان في البيت كلب , فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة , ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتين توطآن ومر بالكلب فليخرج ( فإنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب ) وإذا الكلب جرو لحسن أو حسين كان تحت نضد لهم فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه " رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبوداود
رواه خمسة من الصحابة هم : أبو هريرة وعائشة وميمونة وابورافع وأسامة بن زيد
الحديث الرابع : عب ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم " رواه البخاري ومسلم
الحديث الخامس : عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صور صورة عذبه الله حتي ينفخ فيها الروح وليس بنافخ , ومن استمع إلي حديث قوم يغرون منه صب في أذنه الإنك يوم القيامة " الإنك : الرصاص المذاب رواه الترمذي وقال حسن صحيح
الحديث السادس : عن سعيد بن أبي الحسن قال : جاء رجل إلي ابن عباس فقال : إني رجل أصور هذه التصاوير فأفتني فيها فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل مصور
في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس تعذبه في جهنم " ثم قال ابن عباس : فإن كنت
لا بد فاعلا فاجعل الشجرة وما لا نفس له " رواه البخاري ومسلم
الحديث السابع : عن أبي الهياج قال : قال لي علي رضي الله عنه : ألا أبعثك علي ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته "
رواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي
الحديث الثامن : عن عتبة انه دخل علي ابي طلحة الأنصاري يعوده فوجد عنده سهل بن حنيف ( صحابي اخر ) فدعا ابو طلحة إنسانا ينزع نمطا تحته فقال له سعد لم تنزعه قال لأن فيه تصاويروقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما قد علمت قال سهل : أو لم يقل إلا ما كان رقما في ثوب ؟ فقال أبو طلحة : بلي ولكنه اطيب لنفسي . رواه الترمذي والنسائي وهو صحيح
الحديث التاسع : عن عائشة أنها كانت تلعب بالبنات فكان النبيصلى الله عليه وسلم يأتي بصواحبي يلعبن معي . رواه البخاري ومسلم وأحمد
الحديث العاشر : عن الربيع بنت معوذ قالت : أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلي قري الأمصار , من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه ومن أصبح صائما فليصم فكنا نصوم بعد ونصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكي أحدهم علي الطعام أعطيناه ذلك حتي يكون عند الأفطار . رواه البخاري ومسلم
الحديث الحادي عشر : عن علي رضي الله عنه قال : صنعت طعاما فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأي في البيت تصاوير فرجع , فقلت يارسول الله ما أرجعك بأبي أنت وأمي ؟ قال : إن في البيت سترا فيه تصاوير وإن الملائكة لا تدخل بيت فيه تصاوير .
رواه ابن ماجه وابويعلي في مسنده بسند جيد
الحديث الثاني عشر : عن ابي طلحة الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" ان الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة " رواه البخاري ومسلم
الحديث الثالث عشر : عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حولي هذا فاني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير فكنا نلبسها . رواه مسلم
ثانيا : أقوال العلماء واستدلالاتهم من النصوص السابقة : ــ
1- قال ابن تيمية رحمه الله في كتابه " شرح العمدة " : لا يجوز لبس ما فيه صور الحيوان والطير وغير ذلك ولا يعلق ستر فيه صورة وكذلك جميع انواع اللباس إلا الأفتراش . واحتج بتحريم المعلق والذي يلبس وجواز الذي يوطأ بالحديث الأول والثامن . وهذا ما رجحه ابن تيمية بعد ذكر الاراء المبيحة
2- قال البهوتي في كتابه " كشاف القناع " : يحرم علي الذكر والانثي لبس وتعليق ما فيه صورة حيوان للحديث الثاني عشر , ويحرم تصويره للحديث الرابع . وهذا ما رجحه
3- ذكر المرداوي في كتابه " الأنصاف " : قال الامام أحمد رحمه الله يحرم تعليق ما فيه صورة حيوان او ستر الجدار به , ويحرم تصويره , ولا يحرم افتراشه او جعله مخدة .
4- قال زين بن ابراهيم في كتابه " البحر الرائق شرح كنز الدقائق " : وفي الخلاصة تكره التصاوير علي الثوب صلي فيه أو لم يصل , والكراهة هنا تحريمية , وظاهر كلام النووي علي شرح مسلم الإجماع علي تحريم تصوير صورة الحيوان ثم قال ولا يكره صورة الشجر وما لا روح له والمفترش والذي يوطأ واحتج بالاحاديث الاول والثاني والثالث والسادس والثامن .
5- قال ابن عبد البر في كتابه " التمهيد " : قال بتحريم الصور إلا التي توطأ او تهان او يتكأ عليها وذكر فيما استثني الصحابة ما يؤيده منها عن سالم بن عبدالله بن عمرانه كان متكئا علي وسادة حمراء فيها تماثيل فقلت له في ذلك فقال انما يكره هذا لمن ينصبه ويصنعه , ومثل ذلك عن سعد بن ابي وقاص و ابن عباس وابن الزبير . ورجح هو هذا
6- قال ابن حجر في كتابه " فتح الباري " : بعد ان ذكر الحديث الاول
واستدل بهذا الحديث علي جواز اتخاذ الصور اذا كانت لا ظل لها وهي مع ذلك مما يوطا ويداس ويمتهان بالاستعمال كالوسائد والمخاد وذكر ان النووي قال وعلي هذا قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وهو قول مالك وابوحنيفة والشافعي ووجه عند احمد وذكر
ان النووي وابوبكر بن العربي المالكي نقلا الإجماع علي تحريم الصور التي لها ظل
وقال ابن حجر بعد ان ذكر الحديث التاسع : استدل بهذا علي جواز اتخاذ صور البنات واللعب من اجل لعب البنات بهن لتدريبهن من صغلاهن علي امر بيوتهن واولادهن وهذا خاص من النهي عن الصور التي لها ظل وجزم بذلك بن عياض ونقله عن الجمهور .
7- قال ابن عثيمين رحمه الله في كتابه " القول المفييد علي كتاب التوحيد " :
الذي يصور بالالة ( الكاميرا ) لا يدخل في الوعيد الذي في الأحاديث الرابع والخامس والسادس اذا كان هذا لغرض مباح مثل الرخصة والبطاقة وجواز السفر ومثل ذلك , اما اذا كان لغرض حرام فيدخل في الوعيد مثل صور الذكري سواء كانت للتمتع بالنظر اليها فقط او التلذذ بها او من اجل الحنان والشوق الي الذكري فان ذلك يحرم ولا يجوز لما فيه اقتناء الصور لأنه لا شك أن هذه صورة ولا أحد ينكر ذلك .
8- قال النووي في شرح مسلم بعد الحديث الثالث عشر : هذا محمول علي انه كان قبل التحريم فلهذا كان يدخل ولا ينكره . ومن قال غير ذلك فعليه الدليل والبرهان لإثبات تأخره عن التحريم .
9- قال الخطابي في معالم السنن وكلك ذكره ابادي ابو الطيب في كتابه " عون المعبود بشرح سنن ابي داود " : تعليقا علي الحديث الثالث انه يدل علي جواز ما فيه صورة اذا كان مثل الوسادة والفراش والبسط , وانه لا بأس بالصورة اذا غيرت بأن تقطع رأسها أو تتغير هيئتها بحل أوصالها . ( هذا بحيث ان من يراها لا يظنها من الصور المنهي عنها )
10- قال الامام أبو جعفر الطحاوي في كتابه " شرح معاني الاثار " : بعد ذكر جملة أحاديث التصوير أن الحديث الثالث دل علي اباحة صور ما لا روح له مثل الشجر في قول جبريل فاقطع الراس فيصير كهيئة الشجرة , كما دل علي ان الصورة لا بأس بها اذا قطعت رأسها أو تغيرت ملامحها تماما , كما دل علي جوازر الصور المرقومة في الثوب اذا كانت ممتهنة مثل الوسائد والبسط .
مما سبق نقول :
1- تحريم جميع التماثيل والصور التي لها ظل إلا ما تغير هيئته بقطع الرأس مثلا فلا يظنه الذي يراه تمثال بل يراه مثل الشجرة ونحوها .
2- تحريم جميع الصور التي ليس لها ظل إلا ما كان للضرورة او في الوسائد والفرش والبسط ونحوه او تكون لاشياء لا روح لها مثل الشجر والقمر والشمس .
3- جواز اللعب البسيطة للبنات لتدريبهن علي امور النساء وكذلك لتدريب الاطفال علي الطاعات مثل الصيام للحديث التاسع والعاشر
4- الوعيد الشديد لكل المصورين وأنهم سيعذبون في النار بسبب تلك الصور الا ما تم اسثنائه من الذين يصورون صور فوتوغرافية لحيوان وانسان لكن لغرض مباح مثل توضيح مرض معين في الجسم او صورة البطاقة او جواز السفراوصورة حيوان شديد الخطورة للتحذير منه ...الخ
شبهة وجوابها : -
يقول قائل : لما دخل عمرو بن العاص مصر لم يهدم ابوالهول حتي نتعلم من تلك الاثار
نقول : قد اتي إجماع العلماء من السلف والخلف بتحريم الأصنام , لكن ما الذي جعل عمرو بن العاص يترك تماثيل الفراعنة فهذا نجيب عليه بوجوه هي
1- إما أنه لم يمتلك أدوات تستطيع ذلك
2- أو أنه تركها لأن اهل مصر كانوا حديثي عهد بإسلام
كما فعل الرسول في ترك إدخال حجر اسماعيل في البيت الحرام كما روت عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لولا ان الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوي علي بنيانه لكنت ادخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت لها بابا يدخل الناس منه وبابا يخرج منه " رواه النسائي والسيوطي وصححه الألباني هذا والله أعلم