الجواب:
الحمد لله
أولاً:
أمر الله تعالى بحفظ اللسان ، وأن لا يتكلم العبد بالكلمة إلا وهو يعلم أنه ليس فيها إثم ، وأخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه الناس يُكبون في جهنم بحصائد ألسنتهم ، وما أكثر ما يخترع الناس أمثالاً ، أو تجري ألسنتهم بكلمات تكون فيها مهلكتهم ، إن لم يتداركهم ربهم تعالى برحمته .
وإن العبد الموفَّق ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يثيبه الله عليها أعظم الثواب ، وإن العبد المخذول ليتكلم بالكلمة لا يظن أنها تبلغ به شيئاً تهوي به في نار جهنم .
قال تعالى : ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ق/ 18 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ) .
رواه البخاري ( 6113 ) .
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ ) .
رواه البخاري ( 6109 ) .
وقال بعض السلف : " ما على وجه الأرض شيء أَحوج إلى طول حَبْس من اللسان " ! .
ثانياً:
مثل هذا الكلام القبيح يدرج في أمثال بعض البلاد ، وتتناقله الألسن ، دون أن يعي أحدهم أنه وقع بقوله في مخالفات شرعية ، تتعلق بصفات الله تعالى ، وأسمائه ، وأفعاله ، ففي هذا القول الوارد في السؤال اعتراض على أفعال الله تعالى ، وتقديراته ، وعلمه ، وحكمته ، وعدله .
ومن تلك الأمثال الدارجة " يعطي الحلَق للذي ليس له أُذُن ! " و " يعطي اللحم للذي ليس له أسنان " ، ويعنون به : الله تعالى .
وفي هذا الكلام ما لا يخفى من سوء الأدب مع الله تعالى ، وسوء الظن به ، فيقال فيه :
1. في كلام السوء هذا يعني أن الله تعالى أعطى النعمة من لا يستحقها ، وأن هناك مَن هو أولى بهذه النعمة مِن هذا المُعطَى ! وهذا من أعظم الطعن في حكمة الله ، وعدله .
وليس أحدٌ في غنى عن فضل الله وعطائه ، وقد قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) فاطر/ 15 .
والله تعالى يقدِّر ما يشاء لحكَم جليلة ، فمن أغناه الله فلحكمة ، ومن أفقره الله فلحكمة ، فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لحكَمة ، قال تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة/من الآية 28 ، وقال تعالى : ( فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) الحجرات/ 8 .
ولله خزائن السموات والأرض ، وما يهبه تعالى لخلقه : فهو بقدَرٍ معلومٍ ، قال تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحِجر/ 21 .
2. وما يظنه الإنسان القاصر في فهمه وإدراكه أن الخير له هو في غناه ، وسلطانه ، وجاهه : خطأ ، وقصور ، يتناسب مع طبيعة الإنسان القاصرة ، فقد يكون الخير في نزع تلك الأشياء منه ، كما قد يكون الذل خيراً له ! نعم ، فلربما ذلُّه قاده إلى إسلام بعد كفر ، أو طاعة بعد معصية ، كما أن المال ، والملك ، والجاه ، والعز قد يكون شرّاً له ، فيكون هذا المسكين يعترض على قدر الله وحكمته ، ويسعى لما فيه تلفه ، وهلاكه .
قال تعالى : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) آل عمران/ 26 .
ومن تأمل حديث الأقرع والأبرص والأعمى : علم أن القَرَعَ والبَرَصَ كانا خيراً لصاحبيهما من المال الذي طلباه ، فلما طلب الأول شعراً حسناً فأُعطيه ، وطلب الثاني جلداً حسناً فأُعطيه ، بل وأُعطي كل واحد منهما مالاً وفيراً : كان ذلك سبباً في فتنتهما ، وسخط الله عليهما ، حيث أنكرا نعمة الله عليهما ، وبخلا بما أعُطيا من مال .
والحديث رواه البخاري ( 3277 ) ومسلم ( 2964 ) .
3. ثم إن الله تعالى هو المتفرد بالملك ، والخلق ، والرزق ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، ولم يحصل الاعتراض على هبة النعمة من الله إلا من المشركين وإخوانهم .
قال ابن كثير – رحمه الله – تعليقاً على آية ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ) - :
أي : أنت المتصرف في خلقك ، الفعَّال لما تريد ، كما ردَّ تبارك وتعالى على من يتحكم عليه في أمره ، حيث قال : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) الزخرف / 31 ، قال الله تعالى ردّاً عليهم : ( أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) الآية ، الزخرف/ 32 ، أي : نحن نتصرف في خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ، ولا مدافع ، ولنا الحكمة ، والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد ، كما قال تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) الأنعام/ 124 ، وقال تعالى : ( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) .
" تفسير ابن كثير " ( 2 / 29 ) .
ولما ذكر الله تعالى اعتراض بعض الناس على مُلكٍ آتاه الله بعض خلقه : أرجع الله تعالى الأمر إلى علمه ، وحكمته ، وفضله ، وأن الأمر لا يرجع إلا إليه عز وجل ، وذلك في قوله تعالى : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) البقرة/ 247 .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
قوله تعالى : ( والله يؤتي ملكه من يشاء ) أي : يُعطي ملكَه من يشاء ، على حسب ما تقتضيه حكمته ، كما قال تعالى : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ) آل عمران/ 26 .
قوله تعالى : ( والله واسع ) أي : ذو سعة في جميع صفاته : واسع في علمه ، وفضله ، وكرمه ، وقدرته ، وقوته ، وإحاطته بكل شيء ، وجميع صفاته وأفعاله .
و ( عليم ) أي : ذو علم بكل شيء ، ومنه : العلم بمن يستحق أن يكون ملِكاً ، أو غيرَه من الفضل الذي يؤتيه الله سبحانه وتعالى من يشاء .
" تفسير سورة البقرة " ( 3 / 213 ، 214 ) .
4. أن قائل مثل هذه العبارات وقع في الفتنة من حيث يشعر أو لا يشعر ، فالله تعالى جعل الناس بعضهم لبعض فتنة ، منهم الغني ، ومنهم الفقير ، ومنهم الشريف ، ومنهم الوضيع ، فمن رضي بما قسم الله ، ولم يسخطه : نجا من الفتنة ، ومن اعترض وسخط : فله السخط ، قال تعالى : ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ) الفرقان/ من الآية 20 ، وقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) الأنعام/ 53 .
قال القرطبي – رحمه الله - :
قوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ) أي : إن الدنيا دار بلاء ، وامتحان ، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس ، مؤمن ، وكافر ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الصابر فتنة للغني ، ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه ؛ فالغني ممتحن بالفقير ، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه ، والفقير ممتحن بالغني ، عليه ألا يحسده ، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق ، كما قال الضحاك في معنى ( أَتَصْبِرُونَ ) : أي : على الحق .
وأصحاب البلايا يقولون : ِلمَ لمْ نُعَافَ ؟ والأعمى يقول : لمَ لمْ أُجعل كالبصير ؟ وهكذا صاحب كل آفة ، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره ، وكذلك العلماء ، وحكام العدل ، ألا ترى إلى قولهم ( لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) الزخرف/ 31 ، فالفتنة : أن يَحسد المبتلى المعافى ، ويَحقر المعافى المبتلى ، والصبر : أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر ، وذاك عن الضجر. ( أَتَصْبِرُونَ ) محذوف الجواب ، يعني : أم لا تصبرون ؟ .
" تفسير القرطبي " ( 13 / 18 ) .
5. أن مثل هذه الكلمات الدارجة على الألسنة فيها سوء ظن بالله تعالى ، وهي فتنة لم يَنج منها كثير من الناس ، فيظن الواحد منهم أنه يستحق أكثر مما قدِّر له ، وأنه أولى بكثرة الخير والصرف عن السوء والشر من غيره ، وفي ذلك من الاعتراض على قدر الله تعالى ما يخلخل به المرء ركناً من أركان الإيمان ، وهو الإيمان بالقدر شرِّه وخيره ، وأنه كله من عند الله ، قدَّره ، وكتبه ، وشاءه ، ثم خلقه ، بحكمته تعالى ، وعدله .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
فأكثر الخلق ، بل كلهم ، إلا مَن شاء الله : يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْءِ ، فإن غالبَ بني آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق ، ناقصُ الحظ ، وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ اللهُ ، ولِسان حاله يقول : ظلمني ربِّي ، ومنعني ما أستحقُه ، ونفسُه تشهدُ عليه بذلك ، وهو بلسانه يُنكره ، ولا يتجاسرُ على التصريح به ، ومَن فتَّش نفسَه ، وتغلغل في معرفة دفائِنها ، وطواياها : رأى ذلك فيها كامِناً كُمونَ النار في الزِّناد ، فاقدح زنادَ مَن شئت : يُنبئك شَرَارُه عما في زِناده ، ولو فتَّشت مَن فتشته : لرأيت عنده تعتُّباً على القدر ، وملامة له ، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقِلٌّ ، ومستكثِر ، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم مِن ذلك ؟ .
فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِى عَظِيمَةٍ ... وَإلاَّ فَإنِّى لاَ إخَالُكَ نَاجِيَاً
فليعتنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضعِ ، وليتُبْ إلى الله تعالى ، وليستغفِرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظن السَّوْءِ ، وليظنَّ السَّوْءَ بنفسه التي هي مأوى كل سوء ، ومنبعُ كل شرٍّ ، المركَّبة على الجهل ، والظلم ، فهي أولى بظن السَّوْءِ من أحكم الحاكمين ، وأعدلِ العادلين ، الراحمين ، الغنيِّ الحميد ، الذي له الغنى التام ، والحمدُ التام ، والحكمةُ التامة ، المنزّهُ عن كل سوءٍ في ذاته ، وصفاتِهِ ، وأفعالِه ، وأسمائه ، فذاتُه لها الكمالُ المطلقُ مِن كل وجه ، وصفاتُه كذلك ، وأفعالُه كذلك ، كُلُّها حِكمة ، ومصلحة ، ورحمة ، وعدل ، وأسماؤه كُلُّها حُسْنَى .
فَلا تَظْنُنْ بِرَبِّكَ ظَنّ سَؤْءِ ... فَإنَّ اللهَ أَوْلَى بِالجَمِيلِ
وَلا تَظْنُنْ بِنَفْسِكَ قَطُّ خَيْراً ... وَكَيْفَ بِظَالِمٍ جَانٍ جَهُولِ
وَقُلْ يَا نَفْسُ مَأْوَى كُلِّ سُوءِ ... أَيُرجَى الخَيْرُ مِنْ مَيْتٍ بَخيلِ
وظُنَّ بِنَفّسِكَ السُّوآى تَجِدْهَا ... كَذَاكَ وخَيْرُهَا كَالمُسْتَحِيلِ
وَمَا بِكَ مِنْ تُقىً فِيهَا وَخَيْرٍ ... فَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرَّبِّ الجَلِيلِ
وَلَيْسَ بِهَا وَلاَ مِنْهَا وَلَكِنْ ... مِنَ الرَّحْمن فَاشْكُرْ لِلدَّلِيلِ
" زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 3 / 235 ، 236 ) .
وبنصيحة ابن القيم الرائعة نختم كلامنا ، فلعلَّ كلَّ واحدٍ منَّا أن يفتِّش نفسه ، ويتأمل في حالها ، ونرجو الله تعالى أن يصلح أحوالنا ، وأن يسدد أقولنا ، وأعمالنا .
والله أعلم