إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً[النساء: 1]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70-71]
أما بعد ..
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأحبة:
شُعْلَةٌ توقِدُ شُمُوسَ الحَيَاةِ هذا هو عنوان لقاءنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكما تعودت حتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا سريعًا فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم –تحت هذا العنوان- في العناصر التالية:
أولًا: الذكرى والجراح.
ثانيًا: رجال يمهدون الطريق.
ثالثًا: خطة محكمة.
رابعًا: طيف من الحنان .. وسحابة من الحب.
خامسًا: تضحية وفداء.
سادسًا: لماذا لم تهاجر؟
فأعيروني القلوب والأسماع والله أسأل أن يجعلنا من: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18].
أولًا: الذكرى والجراح
أحبتي في الله ..
لا حاضر لأمة تجهل ماضيها، ولا مستقبل لأمة تنسى فضائلها، وإذا كان الوقوف على الماضي لمجرد البكاء والنحيب والعويل فحسب هو شأن الفارغين العاطلين، فإن ازدراء الماضي بكل ما فيه من خير ونور هو شأن الحاقدين الجاهلين، ولقد حاول أعداء الأمة بكل سبيل أن يَحوُلُوا بين الأمة وبين ماضيها المشرق المجيد .. حتى لا تستمد الأمة من الماضي شعلة توقد شموس الحياة .. وحتى لا تستمد الأمة من الماضي دائمًا نسمة ذكية تتدفق في عروق المستقبل والأجيال، وبالفعل أصبحت سيرة النبي تعرض لمجرد الإعجاب السالب أو لمجرد الثقافة الذهنية الباهتة الباردة، وكأننا لسنا مطالبين أن نُحَوِّلَ هذه السيرة الذكية العطرة في حياتنا إلى واقع عملي وإلى منهج حياة.
فأمتنا المسكينة في هذه الأيام تحتفل بذكرى هجرة النبي ، وجراحها تنْزف في كل مكان في فلسطين، وفي كوسوفو، وفي البوسنة، وفي الصومال، وفي كشمير، وفي طجكستان وفي تركستان، وفي الفلبين، وفي الجزائر، وفي كل مكان، فالأمة جراحها تنْزف بغزارة ولا زالت تحتفل بذكرى الهجرة .. بل وتتغنى في حق النبي بأبلغ الكلمات.
نعم جراح الأمة تنزف في كل مكان .. فقد انتهك عرضها .. واحتلت أرضها .. وضاع شرفها .. وزال عزها، وأهين قرآنها، ونبيها، والأمة مهانة ذليلة .. والأمة في سُبَاتٍ عميق، وإن تحركت الأمة من سباتها فهي لا تجيد إلا لغة الشجب والاستنكار، ولله در القائل:
وضعفها لم يعد في الضرب الإه
|
|
يا أمةً عَجزُها قد صار قائدها
|
تلوك ماض لها في القبر مثواه
|
|
يا أمة في خريف العمر نائمة
|
وونت وسلمت كنزها للص يرعاه
|
|
هانت على نفسها فاستعبدت
|
فاسده دون أسد الأرض أشباه
|
|
آسادها روضت في الأسر طائعة
|
للشجب يا صاحبي والكل أفواه
|
|
إن عم خطب بها فالكل ألسنة
|
ولله در القائل ..
والمُحاقُ الأعمى يليه مُحاقٌ
|
|
أه يا مسلمون .. متنا قرونا
|
آدميون أم نعاقٌ تُساقُ
|
|
أي شيءٍ في عالم الغاب نحنُ؟
|
الجثث الحمر والدم الدفاق
|
|
نحن لحم للوحوش والطير منا
|
يا لعرض الإسلام كيف يراق
|
|
وعلى المحصنات تبكي البواكي
|
من الردى ترياق
|
|
وقد هوينا لما هوت وأعدو
|
الدنيا علينا، واسودت الأعماقُ
|
|
واقتلعنا الإيمان فاسودت
|
الأرض تموت الأغصان والأوراقُ
|
|
وإذ الجذرمات في باطن
|
أه يا مسلمون .. والله إن العين لتدمع، وإن القلب ليتمزق كمدًا وأسى ضعف المؤمنين والموحدين، وعلى قلة حيلة الصادقين المخلصين من هذه الأمة وعلى تمرد المشركين وخيانة المنافقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن الأمة الآن تحتفل بذكرى الهجرة وهي لا تعي حقيقة ما تحتفل به فالأمة تتغنى بالهجرة على كل المستويات .. في كل بقاع الأرض، وهي لا تعي أن الهجرة شعلة توقد شموس الحياة، وهي لا تعي أن الهجرة عطاء متجدد، وهي تجهل أنها لن تسلك طريقة للعزة والكرامة وسط صخور الكفر، وحجارة الشرك العنيدة، وأحجار النظام العالمي الجديد الصلدة- إلا برجال يحفرون هذه الصخور والحجارة بالعرق والدماء، رجال يحاكون الأطهار الأبرار الذين ضحوا بأنفسهم، وأوقاتهم، وأولادهم ليمهدوا الطريق لهجرة النبي ، بل إن شئت فقل ليجعلوا جماجمهم وأشلاءهم، ولحومهم، ودمائهم سدًا منيعًا يَعْبُر عليه المصطفى بعقيدته وبإسلامه العظيم إلى الدنيا كلها، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء.
ثانيًا: رجال يمهدون الطريق
نعم لقد مَنَّ الله على النبي برجال ضمدوا جراحه .. إنهم نفر قليل مبارك كانوا إثنى عشر نفر من الخزرج .. هذه هي البداية .. وهذه هي القاعدة، هذا النفر القليل الكبير بايعوا مع النبي بيعة العقبة الأولى ثم انطلقوا من معلمهم الرشيد الحكيم مصعب بن عمير إلى يثرب ليزرعوا شجرة التوحيد بل وأثمرت.
ولم لا؟! وقد عادوا في العام التالي مباشرة، وكانوا سبعين رجلًا ليبايعوا النبى بيعة العقبة الثانية، وفيها بايعوا رسول الله على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن يقولوا لله لا يخافوا لومة لائم، وعلى أن ينصروا النبي إذا هاجر إليهم، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وأموالهم وأولادهم وأزواجهم، ولهم الجنة، والحديث بطوله رواه أحمد وابن هشام والبزار وغيرهم وهو حديث صحيح.
نعم هذه أركان البيعة الثانية، ولذا أعلم يقينًا أنه لا عزة للأمة، ولا كرامة إلا إذا قام كل فرد فيها وأعلن هذه البيعة من جديد وعاهد ربه سبحانه وعاهد النبي على أن يكون جنديًا وَفيًّا لأركان هذه البيعة بحروفها وكلماتها.
نعم .. لقد عاهدوا النبي ، وبالفعل استطاع النبي ، بفضل الله ثم بفضل دعوته الصابرة الحكيمة الراشدة، ثم بفضل هؤلاء الرجال الأبطال الأطهار الأبرار من الأنصار أن يؤسس للإسلام وطنًا وسط صحراء تموج بالكفر موجًا.
بالفعل بدأت طلائع الهجرة المباركة تصل إلى المدينة .. بدأ المقهورون المعذبون تحت سياط صناديد الشرك في مكة يهربون، ويفرون، ويَضحون بالوطن، والأموال، والعلاقات بل بالنفس والدماء من أجل العقيدة .. من أجل كلمة لا إله إلا الله .. من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وحل المهاجرون لا أقول في بيوت الأنصار ودورهم- وإنما حلَّ المهاجرون في عيون الأنصار وقلوبهم، وصدق ربي إذ يقول:
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9].
نعم لقد حلَّ المهاجرون في القلوب والعيون، وهنا أمر الله نبيه أن يهاجر هو الآخر يقول ابن عباس ، والحديث في مسند الغمام أحمد، وسنن الترمذي، وهو حديث حسن: كان رسول الله بمكة فَأُمِرَ بالهجرة ونزل عليه قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [الإسراء: 80]([1]).
وهنا خطط النبي للهجرة خطة محكمة دقيقة مسددة، وهذا هو عنصرنا الثالث بإيجاز لأُعَرِّج على كل عناصر الموضوع.
ثالثًا: خطة محكمة
نعم .. خرج النبي وصاحبه، وقد وضع للهجرة خطة مدروسة دقيقة وأتمنى لو وعت الأمة هذا الدرس من رسول الله ، فإنني أرى الأمة الآن قد تخلت عن التخطيط والتنظيم والأخذ بالأسباب كأمة النبي ولا حول ولا قوة إلا بالله، نعم لقد خطط النبي ابتداءاً من أمره لعليَ لينام في فراشه ليخدع الطواغيت الذين عمى الحقد أعينهم وقلوبهم لأنهم ما تجمعوا إلا للانقضاض على النبي لقتله، فإن البرلمان الشركي في مكة قد عقد اجتماعًا طارئًا، واتخذ قرارًا بالإجماع، بقتل محمد لقطع تيار نورها عن الوجود نهائيًا، ولكن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وكان مما أنزل الله عزَّ وجلَّ من القرآن الكريم في ذلك اليوم: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ الأنفال: 30]([2]).
إن الله عصم نبيه وحفظه، فها هو يخرج من بعد أن خدع –فالحرب خدعة- صناديد الكفر والشرك الذين ما انتهوا لخيبتهم الكبيرة العريضة إلا والصبح يتنفس في وجوههم، فينظرون فيعلمون يقينًا أن الذي يتغطى بالبُرْد النبوي هو علي بن أبي طالب ذلكم الفدائي العظيم الذي علَّم الدنيا حقيقة التضحية، وشرف البطولة، وعظمة الفداء.
وينطلق المشركون ينقبون بين الصخور، بل ويقلبون الحجارة في الجبال بل وينقبون بين الرمال على النبي المختار ، ولكن انظروا إلى دقة تخطيط النبي ، فهو يعلم أنهم سيتجهون شمالًا إلى المدينة يبحثون عنه وصاحبه في دروبها وطرقها، فيتجه جنوب مكة ليظلل المطاردين حتى تهدأ حركة المطاردين، ويخرج من بعد ذلك هو وصاحبه الصديق الأمين، ويمكث النبي في الغار ثلاثة أيام حتى تهدأ الحركةُ تمامًا، وعبد الله بن أبي بكر يُكَلِّف هو الآخر –وهو الجندي الأمين في هذه المعركة- بأن يسمع الأخبار جيدًا بفهم دقيق، ووعي عميق، ليكون في النهار بين القوم وفي الليل بين يدي النبي ينقل له أخبار القوم، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ذالكم الراعي الأمين، يأني في اول الليال ليقدم اللبن والطعام للنبي وصاحبه، ولتتمحوا أثار أقدام الأغنام آثار الأقدام، انظروا إلى التخطيط! وبعد انتهاء المدة بحسب المكان المحدد والموعد والمضروب ينتظر رجل مشرك وثق النبي في أمانته لكنه رجل عالم خبري بضروب الصحراء يعلم أقصر الطرق للمدينة، فيأمره الصدِّيق أن ينتظر في المكان المحدد بالبعيرين الذين أُعِدَّا لهذه الرحلة الطويلة الشاقة، ويخرج النبي وصاحبه لينطلقا إلى يثرب.
أيها الأحبة الكرام:
خطة دقيقة محكمة .. أتمنى لو وعت الأمة الآن أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل ولا يقدح فيه، فغن رسول الله لم يترك سببًا من أسباب الحيطة والحذر إلا وأخذ به وهو في الوقت ذاته يعلم أن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع ، ولا ترزق ولا تمنع ، إلا بأمر مسبب الأسباب –جل وعلا- ويُفاجأ الصدِّيق بمفاجأة تهز قلبه هزًّا، فتنحبس أنفاسه، وهو ينظر إلى الطغاة المطاردين، البغاة المجرمين يحاصرون المكان، وفي أنفاس متدجة منقطعة يقول لحبيبه وخليله: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا؟ فيرد عليه النبي بلغة يحدوها الأمل وبقلبل يمثله اليقين: «يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما»([3]).
قال الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40].
فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومن فوض إليه أموره هداه قال جل في علاه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3].
تمنيت –بكل قلبي- أن لو وعت الأمة عظمة وحلاوة التوكل، فأخذت هذا الدرس، فأخذت بأسباب العزة والتمكين والنصرة والاستخلاف وتوكلت على الله، وهي تعلم يقينًا أن الأسباب لا تنفع ولا ترزق، ولا تمنع إلا بأمر مسبب الأسباب جل وعلا.
أيها الأحباب .. إنني ألمح حبًا غامرًا وطيفًا من الحنان العجيب الذي سربل به أبو بكر حبيبه المصطفى وهذا هو عنصرنا الرابع من هذا اللقاء.
رابعًا: طيف من الحنان .. وسحابة من الحب
والله لو وقفت أمام قواميس لغة العرب، لتقف على مترادفات الحب والإيثار، والوفاء والإخلاص، والصدق والشهامة، والرجولة والغيرة، والمروءة إلى آخر هذه المترادفات .. سترون المترادفات كلها تتوراى خجلًا وحياءً أمام عظمة هذا العملاق الكبير الذي يزن بين الرجال وحده أُمَّة الذي كان طيف من الحنان وسحابة من الحب، الذي جعل من جسده الطاهر درعًا أمينًا يحمي به حبيبه وخليله المصطفى.
فتراه في طريق الهجرة يكثر الإلتفات خائفًاً على حبيبه، ويسأله النبي عن سبب ذلك فيقول الصدِّيق: يا رسول الله .. إن مشيت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك، وإن مشيت من خلف خشية أنت تؤتى من أمامك.
فهو يخاف على النبي من أولئك الذين خرجوا ويطلبون رسول الله حيًا أو ميتًا ليحصلوا على هذه الغنيمة الثمينة التي رصدتها قريش لأي فارس يأتي بالنبي وصاحبه.
انظروا إلى حنان الصدِّيق .. الصدِّيق مع رسول الله في هذا السفر الطويل الشاق بلا نزاعٌ ولكن يقول كما في الصحيحين من حيث البراء ابن عازب وفيه يقول أبو بكر : أدلجنا من مكة ليلًا، فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة([4]) فرميت ببصرى: هل أرى ظلًا من ظل نأوي إليه؟، فإذا صخرة فانتهيت إليها، فإذا بقية من ظل لها فسويته ثم فرشت للرسول فروة ثم قلت :أضطجع يا رسول الله فاضجع النبي ثم ذهبت أنفض ما حولي هل أرى من الطلب أحد، فإذا يراعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا (يعني الظل) فسألته: لمن أنت يا غلام؟ قال: أنا لرجل من قريش، فسمّاه فعرفته فقلت له: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت: له أنت حالب لي؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاةً من غنمه، وأمرته أن ينفض ضرعها من التراب، ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا، فضرب إحداهما على الأخرى، فحلب لي كُثْبَةً من لبن، يقول الصديق: قد جعلت لرسول الله إداوةً على فهما قرقة، فأخذت أصب على اللبن حتى برد أسفله فانطلقت به إلى النبي، فوافيته قد استيقظ فقتل: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قلتك يا رسول الله أو قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: «نعم»، فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: «لا تحزن إن الله معنا»([5]).
أيها الأحبة الكرام ..
ومن هنا استحق الصديق أن يتبوأ ذروة سنام الصدِّيقين في هذه الأمة بجدارة واقتدار، بل واستحق أن يكون رفيق النبي في الدنيا، وأن يكون رفيق النبي في القبر، وأن يكون رفيقه في جنات النعيم، فهو الخليل والصاحب في جميع الأسفار، وهو ضجيع النبي في الروضة المحفوفة بالأنوار، وهو رفيق النبي في جنة العزيز الغفار .. ولم لا؟ وقد كان الصديق أحب الخلق إلى قلب المصطفى كما في صحيح البخاري من حديث عمر بن العاص قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» قلت: من الرجال؟ قال: «أبوها» قتل: ثم من؟ قال: «عُمر»([6]).
وها أنا ذا ألمح طيفًا آخر وسحابة أخرى من الحنان تظلل على النبي في آخر طريق الهجرة، وعلى أول حبات التراب في يثرب، أرى طيفًا من الحنان وسحابة من الحب من الأنصار الأطهار الأبرار الذين فرحوا باستقبال النبي المختار، بل وقام سيد كل قبيلة يأخذ بخطام ناقة النبي يريد أن يتشرف باستضافة النبي ، والرسول يقول لهم: «خَلّوا سبيلها، فإِنَّها مأمورةٌ خلو سبيها فإنها مأمورة» أي في المواطن التي يختار الله لنبيه ستبرك الناقة فتركوا سبيلها، وفي حائط لبن النجار من أخوال النبي المختارن بركت الناقة، وأنطلق أبو أيوب الأنصار ليأخذ رحل النبي، وكان دار أبي أيوب تتكون من طابقين.
عن أبي أيوب أن النبي نزل عليه، فنزل النبي في السّفل (أي في الدور الأرضي)، وأبو أيوب في العلو، قال: فانتبه أبو أيوب ليلة، فقال: نمشي فوق رأس رسول الله ! فتنحوا، فباتوا في جانب، ثم قال للنبي ، فقال النبي : «السفل أرفق» فقال: لا أعلوا سقيفة أنت تحتها، فتحوّل النبي في العلو وأبو أيوب في السفل، فكان يصنع للنبي طعام، فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبع موضع أصابعه، فصنع له طعامًا فيه ثوم فلما ردّ إليه سأل عن موضع أصابع النبي ، فقيل له: لم يأكل، ففزع وصعد إليه، فقال: أحرام هو؟ فقال النبي : «لا، ولكن أكرهه» قال: فإن أكره ما تكره –أو ما كرهته-([7]).
أيها الأحبة ..
أي إجلال هذا؟ وأي حنان هذا؟ وأي حب هذا؟ بل وأي اتباع هذا؟ لقد أحبوا النبي وكرهوا ما كرهه النبي وامتثلوا كل أوامر النبي واجتنبوا كل نواهي النبي ووقفوا عند حدود النبي .
ولم يفد من هديه فسفاهة وهراءُ
|
|
فمن يدْعى حُبَّ النبي
|
إن كان صدقًا طاعةٌ ووفاءُ
|
|
فالحب أو شرطه وفروضه
|
قال جل وعلا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31].
بل وهذا عروة بن مسعود الثقفي يرى النبي مع أصحابه في الحديبية فيرجع إلى قوم من قريش ليقول له: يا قومن والله لقد وفدت على الملوك على كسرى وقيصر والنجاشين والله ما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه كما رأيت أصحاب محمد يعظمون محمدًا، والله . ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجلٍ منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوءه، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، ولا يرفعون أصواتهم عنده، ولا يحدون النظر إليه إجلالًا له وتعظيمًا، والحديث رواه البخاري([8]) بطوله.
أي حب هذا أيها الأحبة الكرام؟! وأي إجلال؟!
أقول: لولا هذا الحب ما رأين هذه النماذج المشرقة، وما وقفنا على هذه الصور العظيمة الجليلة، من صور التضحية، والفداء، وهذا هو عنصرنا الخامس من عناصر اللقاء ألا وهو:
خامسًا: تضحية وفداء
هذا هو الصديق ، وهذا عبد الله بن أبي بكر وهذه عائشة، وأسماء وعامر بن فهيرة، ومن قبل هؤلاء أصحاب النبي المختار الذين ضربوا أروع الأمثلة في التضحية الجماعية، وبالنفس والوطن والأرض والأهل والمال من اجل العقيدة إذ أن الهجرة لم تُكَرَّم؛ لأنها سفر من مكة إلى المدينة ولم تكرم؛ لأنه انتقال من مكان إلى مكان، بل كُرِّمت لأنها تضحية للعقيدة، لأنها إعلاء لكلمة الله، لأنها انتقال عقدي ونفسي وروحي وخلقي إلى حيث أراد الله، وإلى حيث أراد رسول الله وكيف يُنسى عليَ في هذا الموطن؟!
ذلكم البطل الصغير الكبير لقد كان شابًا في ريعان شبابه، ينام في فراش النبي ، ويتدثر بِبُرده الأخضر الحضرمي، بل وهو على أتم استعداد أن يتشح بالدماء ليف بنفسه حبيبه المصطفى ، والله .. كلما تذكرت هذا المشهد ليعل أشعر بضآلة حقيرة لنفسي، وأعلم في الوقت ذاته لماذا انتصر الإسلام؟
ففي الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أن واقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمال فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فغمزني إحدهما وقال لي: يا عم .. هل تعرف أبا جهل؟ فقلت له: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ فقال: أُخْبِرت أنه يسبُّ رسول الله ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله فأخبراه فقال: «ايكما قتله» قال كل واحد منهما: أن قتلته، فقال النبي : «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: «كلاكُما قتلهُ»([9]).
هل تعرفون من البطلين؟! هم معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهم أجمعين وعن جمي أصحاب النبي الذين تربوا على التضحية والبذل والفداء وحققوا الحب لرسول الله .
أيها الأحبة الكرام:
لماذا لا نحرص على هذا الأجر؟! لماذا نحرم أنفسنا من هذا الفضل؟! لماذا لا يحرص أحدنا أن يُحصِّل ثواب الهجرة؟
لذا كان سؤالي الأخير ألا وهو آخر عناصر اللقاء: لماذا لم تهاجر؟! سؤال عجيب ولكن بالجواب يزول العجب والإشكال.
سادسًا: لماذا لم تهاجر؟
إذا علمت أيها الهجرة بالجسد في المدينة هي وحدها التي انقضتلقو ابن عمر كما في الصحيحين: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية»([10])ولكن بقيت هجرة .. هجرة باقية ولكن ما هي؟!
إنها الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن البدعة إلى السنة، ومن الحرام إلى الحلال، ومن الباطل إلى الحق، ومن الشر إلى الخير، ومن المعصية إلى الطاعة، فلماذا لم تهاجر؟!
سأزف إلى حضراتكم بشارة في آخر اللقاء والله الذي لا إله إلا هو لو وضعت في كفو ووضعت كنوز الأرض في كفة لرجحة كفتها سأذكر فيها حديث النبي ، والحديث رواه مسلم من حديث معقل بن يسار أن النبي قال: «العبادة في الهرج([11]) كهجرة إليّ»([12]).
لماذا لم تهاجر؟! هاجر الآن، اتبع النبي في هذه الفتن، عض على السنة بالنواجذ في هذه الفتن، استمسك بالقرآن والسنة، الزم غَرْسَ النبي، وسِرْ مع العلماء الأفاضل الكرام، ولا تمت إلا على الإسلام لتنال الآن أجر هجرة النبي .
مغبون ورب الكعبة من حُرِمَ هذا الفضل، ومن حُرِم من هذا الخير فهاجر أيها المسلم من البدع إلى السنن، ومن الحرام إلى الحلال، ومن الشر إلى الخير، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن البُعد عن الله ورسوله إلى القرب إلى الله ورسوله، هذه الهجرة لا تنقطع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أيها اللاهي .. أيها الساهي .. أيها العاصي .. أيها الصّاد عن سبيل الله .. أيها المحروم من قرب الله .. متى ستتوب إلى الله؟ متى ستهاجر إلى الله؟
واذكر ذنوبك وابكها يا مُذنب
|
|
دع عنك ما قد فات في زمن مضى
|
بل أثبتاه وأنت لا تلعبُ
|
|
لم ينسه الملكان حين نسيته
|
ستردها بالرغم منك وتُسْلَبُ
|
|
والروحُ منك وديعةٌ أودعتها
|
دار حقيقتها متاعٌ يذهبُ
|
|
وغرور دنياك التي تسعى لها
|
أنفاسُنا فيهما تعد وتحسبُ
|
|
الليلُ فاعلم والنهار كلاهما
|
إذا برز العباد لذي الجلالِ
|
|
أبت نفس أن تتوب فما احتيالي
|
بأوزارٍ كأمثال الجبالِ
|
|
وقاموا من قبورهم سُكارى
|
فمنهم من يكبُّ على الشمال
|
|
وقد نصب الصراطُ لِكَي يَجُوزوا
|
تلقاهُ العرائسُ بالغواني
|
|
ومنهم من يسير لدار عدن
|
غفرتُ لك الذنوب فلا تبالي
|
|
يقول له المهيمن يا وليَّ
|
متى تهاجر إن لم تهاجر الآن؟! متى تترك المعصية إن لم تتركها الآن؟! متى سيرق قلبك إن لم يرق قلبك الآن؟! متى ستدمع عينيك إن لم تدمع الآن؟! عد إلى الله –جلَّ وعلا- .. هاجر من المعاصي إلى الطاعات .. هاجر حيث الرضا إلى مرضات الله –جل وعلا- .. إلى مرضات الرسول .
أسأل الله أن يعلِّمنا دروس الهجرة، وأن يجعلنا أهلًا لفهمها، وأن يُعيننا لتحقيقها وعلى تحويلها من حياتنا إلى واقع عملي ومنهج حياة.
... الدعاء
([1]) أخرجه الترمذي رقم (3138) في التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، وقال: حسن صحيح، وأخرجه أحمد في المسند (1/223) وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر.
([2]) أخرجه أحمد في المسند (1/348) وقال الشيخ شاكر في إسناده نظر من أجل عثمان الجزري وقال الهيثمي في المجمع (7/27): رواه أحمد والطبراني وفيه عثمان بن عمرو الجزري وثقة ابن حبان وضعفه غيره وبقية رجاله رجال الصحيح، وله شاهد عند الحاكم في المستدرك (3/4) وقال حديث صحيح ووافقه الذهبي.
([3]) رواه البخاري رقم (3653) في فضائل الصحابةن باب مناقب المهاجرينن ومسلم (2381) في فضائل الصحابة، باب في فضائل ابي بكر الصديق .
([4]) الوقت الذي تتعام في الأرض.
([5]) رواه البخاري رقم (3652) في فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين، ومسلم رقم (2009) في الزهد، باب في حديث الهجرة.
([6]) رواه البخار رقم (3662) في فضائل الصحابة، باب قول النبي : «لو كنت متخذًا خليلًا» ومسلم رقم (2384) في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر .
([7]) رواه مسلم رقم (2053) في الأشربة، باب إباحة أكل الثوم، أخرجه أحمد في المسند (5/415).
([8]) رقم (2731، 2732) في الشروط، باب الشروط في الجهاد.
([9]) رواه البخار رقم (3141) في فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب، ومسلم رقم (1752) في الجهاد والسير، باب استحقاق القتال سلب القتيل.
([10]) رواه البخاري رقم (3899) في مناقب الأنصار، باب هجرة النبي وأصحابه.
([11]) المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس.