بتـــــاريخ : 10/13/2009 2:05:07 AM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 2216 0


    مقدمة سورة الأنعام - في ظلال القرآن

    الناقل : elmasry | العمر :42 | المصدر : www.khayma.com

    كلمات مفتاحية  :
    مقدمة سورة الأنعام

    مقدمة سورة الأنعام

    بسم الله الرحمن الرحيم طبيعة القرآن المكي وحله لمشكلات الإنسان هذه السورة مكية من القرآن المكي القرآن الذي ظل يتنزل على رسول الله ص ثلاثة عشر عاما كاملة يحدثه فيها عن قضية واحدة قضية واحدة لا تتغير ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر ذلك أن الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى لقد كان يعالج القضية الأولى والقضية الكبرى والقضية الأساسية في هذا الدين الجديد قضية العقيدة ممثلة في قاعدتها الرئيسية الألوهية والعبودية وما بينهما من علاقة لقد كان يخاطب بهذه القضية الإنسان الإنسان بما أنه إنسان وفي هذا المجال يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان والإنسان العربي في كل زمان كما يستوي الإنسان العربي وكل إنسان في ذلك الزمان وفي كل زمان إنها قضية الإنسان التي لا تتغير لأنها قضية وجوده في هذا الكون وقضية مصيره قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء وهي قضية لا تتغير لأنها قضية الوجود والإنسان لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله كان يقول له من هو ومن أين جاء ; وكيف جاء ; ولماذا جاء وإلى أين يذهب في نهاية المطاف من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك وكان يقول له ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه والذي يحس أن وراءه غيبا يستشرفه ولا يراه من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار من ذا يدبره ومن ذا يحوره ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه وكان يقول له كذلك كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ومع الكون أيضا كيف يتعامل العباد مع خالق العباد وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود الإنسان وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده على توالي الأزمان وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاما كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان وأنها استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان التي قدر الله لها أن يقوم هذا الدين عليها ; وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين حكمة البدء بالعقيدة وليس بالقومية أو الإجتماعية أو الأخلاقية وأصحاب الدعوة إلى دين الله وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة ; خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما لتقرير هذه العقيدة ; ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة وأن يبدأ رسول الله ص أولى خطواته في الدعوة بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ; وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق ويعبدهم له دون سواه ولم تكن هذه في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب هي أيسر السبل إلى قلوب العرب فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى إله ومعنى لا إله إلا الله كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله سبحانه بها معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ورده كله إلى الله السلطان على الضمائر والسلطان على الشعائر والسلطان على واقعيات الحياة السلطان في المال والسلطان في القضاء والسلطان في الأرواح والأبدان كانوا يعلمون أن لا إله إلا الله ثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب ; وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله ولم يكن يغيب عن العرب وهم يعرفون لغتهم جيدا ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة لا إله إلا الله ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة أو هذه الثورة ذلك الاستقبال العنيف وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناء لقد بعث رسول الله ص بهذا الدين وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب ; إنما هي في يد غيرهم من الأجناس بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحارى القاحلة التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك وكان في استطاعة محمد ص وهو الصادق الأمين ; الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود وارتضوا حكمه منذ خمسة عشر عاما ; والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة ; الرومان في الشمال والفرس في الجنوب ; وإعلاء راية العربية والعروبة ; وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة ولو دعا يومها رسول الله ص هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة على الأرجح بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة وربما قيل إن محمدا ص كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة ; وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة ; وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه ولكن الله سبحانه وهو العليم الحكيم لم يوجه رسوله ص هذا التوجيه إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء لماذا إن الله سبحانه لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه إنما هو سبحانه يعلم أن ليس هذا هو الطريق ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي إلى يد طاغوت عربي فالطاغوت كله طاعوت إن الأرض لله ويجب أن تخلص لله ولا تخلص لله إلا أن ترتفع عليها راية لا إله إلا الله وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي إلى طاغوت عربي فالطاغوت كله طاغوت إن الناس عبيد لله وحده ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية لا إله إلا الله لا اله الا الله كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته لا حاكمية إلا لله ولا شريعة إلا من الله ولا سلطان لأحد على أحد لأن السلطان كله لله ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة التي يتساوي فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله وهذا هو الطريق وبعث رسول الله ص بهذا الدين والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة قلة قليلة تملك المال والتجارة ; وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة ; وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا وكان في استطاعة محمد ص أن يرفعها راية اجتماعية ; وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف ; وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء ولو دعا يومها رسول الله ص هذه الدعوة لانقسم المجتمع العربي صفين الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة في وجه طغيان المال والشرف بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه لا إله إلا الله التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس وربما قيل إن محمدا ص كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة ; وتوليه قيادها ; فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه ولكن الله سبحانه وهو العليم الحكيم لم يوجهه هذا التوجيه لقد كان الله سبحانه يعلم أن هذا ليس هو الطريق كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل ; يرد الأمر كله لله ; ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع ومن تكافل بين الجميع ; ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله ; ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء فلا تمتلى ء قلوب بالطمع ولا تمتلىء قلوب بالحقد ; ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا ; وبالتخويف والإرهاب ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح ; كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير لا إله إلا الله وبعث رسول الله ص والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية كان التظالم فاشيا في المجتمع تعبر عنه حكمة الشاعر زهير بن أبى سلمى ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه % يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم ويعبر عنه القول المتعارف انصر أخاك ظالما أو مظلومًا وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخرة كذلك يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته كالذي يقوله طرفة بن العبد فلولا ثلاث هن من زينة الفتى % وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة % كميت متى ما تعل بالماء تزبد الخ وكانت الدعارة في صور شتى من معالم هذا التجمع كالذي روته عائشة رضي الله عنها إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته فيصدقها ثم ينكحها والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرآة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك أخرجه البخاري في كتاب النكاح وكان في استطاعة محمد ص أن يعلنها دعوة إصلاحية تتناول تقويم الأخلاق وتطهير المجتمع وتزكية النفوس وتعديل القيم والموازين وكان واحدا وقتها كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة نفوسا طيبة يؤذيها هذا الدنس ; وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير وربما قال قائل إنه لو صنع رسول الله ص ذلك فاستجابت له في أول الأمر جمهرة صالحة ; تتطهر أخلاقها وتزكو أرواحها فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة القوية منذ أول الطريق ولكن الله سبحانه وهو العليم الحكيم لم يوجه رسوله ص إلى مثل هذا الطريق لقد كان الله سبحانه يعلم أن ليس هذا هو الطريق كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة تضع الموازين وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم ; كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة ; وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك ; بلا ضابط وبلا سلطان وبلا جزاء فلما تقررت العقيدة بعد الجهد الشاق وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده لما تحرر الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات سواء لما تقررت في القلوب لا إله إلا الله صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون تطهرت الأرض من الرومان والفرس لا ليتقرر فيها سلطان العرب ولكن ليتقرر فيها سلطان الله لقد تطهرت من الطاغوت كله رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله ويزن بميزان الله ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده ; ويسميها راية الإسلام لا يقرن إليها اسما آخر ; ويكتب عليها لا إله إلا الله وتطهرت النفوس والأخلاق وزكت القلوب والأرواح ; دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله إلا في الندرة النادرة لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ; ولأن الطمع في رضى الله وثوابه والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات وارتفعت البشرية في نظامها وفي أخلاقها وفي حياتها كلها إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط ; والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام ; كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا لا يدخل فيه الغلب والسلطان ولا حتى لهذا الدين على أيديهم وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا وعدا واحدا هو الجنة هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني والابتلاء الشاق والمضي في الدعوة ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان في كل زمان وفي كل مكان وهو لا إله إلا الله فلما أن ابتلاهم الله فصبروا ; ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ; ولما أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم ولا اعتزاز بوطن ولا أرض ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت لما أن علم الله منهم ذلك كله علم أنهم قد أصبحوا إذن أمناء على هذه الأمانة الكبرى أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها الله سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر وفي الأرواح والأموال وفي الأوضاع والأحوال وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها وعلى عدل الله يقيمونه دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولا لجنسهم ; إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله ولدينه وشريعته لأنهم يعلمون أنه من الله هو الذي آتاهم إياه ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها راية لا إله إلا الله ولا ترفع معها سواها وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره ; المبارك الميسر في حقيقته وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية أو دعوة اجتماعية أو دعوة أخلاقية أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد لا إله إلا الله لماذا بدأ القرآن بالعقيدة ثم بالتشريعات وطريق الدعوة ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير لا إله إلا الله في القلوب والعقول واختيار هذا الطريق على مشقته في الظاهر وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى ; والإصرار على هذا الطريق فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها والشرائع التي تنظم المعاملات فيها فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان الضاربة في الهواء لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة وفي مساحات واسعة ; تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء فكذلك هذا الدين إن نظامه يتناول الحياة كلها ; ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها ; وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها ولكن كذلك في الدار الآخرة ; ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ; ولا في المعاملات الظاهرة المادية ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته ; يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ; ويجعل بناء العقيدة وتمكينها وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء والضارب من جذورها في الأعماق ومتى استقرت عقيدة لا إله إلا الله في أعماقها الغائرة البعيدة استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه لا إله إلا الله ; وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته وقبل أن تعرض عليها تشريعاته فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له وهكذا أبطلت الخمر وأبطل الربا وأبطل الميسر وأبطلت العادات الجاهلية كلها أبطلت بآيات من القرآن أو كلمات من رسول الله ص بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وأوضاعها وجندها وسلطانها ودعايتها وإعلامها فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات ; بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد جاء ليحكم الحياة في واقعها ; ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره يقره أو يعدله أو يغيره من أساسه ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض إنه منهج يتعامل مع الواقع فلا بد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا الله وأن الحاكمية ليست إلا لله ; ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله ; ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة وحين يقوم هذا المجتمع فعلا تكون له حياة واقعية تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع لقوم مستسلمين أصلا للنظم والشرائع رافضين ابتداء لغيرها من النظم والشرائع ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع ; حتى تكون للنظام هيبته ويكون للشريعة جديتها فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من الواقعية ما يقتضي الأنظمة والشرائع من فورها والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة الله ومن ثم لم ينزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع ; وإنما نزل لهم عقيدة وخلقا منبثقا من العقيدة بعد اسقرارها في الأعماق البعيدة فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع ; وتقرر لهم النظام ; الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية ; والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة ليختزنوها جاهزة حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة إن هذه ليست طبيعة هذا الدين إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص وفق حجمه وشكله وملابساته والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام وأن يصوغ تشريعات حياة بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها ورفض كل شريعة سواها مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين ولا كيف يعمل في الحياة ; كما يريد له الله إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية ومناهج بشرية ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض تواجه مستقبلا غير موجود والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده عقيدة تملأ القلب وتفرض سلطانها على الضمير عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا لله ولا يتلقوا الشرائع إلا من الله وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة فإذا دخل في هذا الدين بمفهومه هذا الأصيل عصبة من الناس فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلام في حياتها الاجتماعية ; لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها على هذا الأساس ; وألا تحكم في حياتها كلها إلا الله وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه ; كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد ولقد يخيل إلى بعض المخلصين المتعجلين ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الرباني القويم المؤسس على حكمه العليم الحكيم وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة نقول لقد يخيل لبعض هؤلاء أن عرض أسس النظام الإسلامي بل التشريعات الإسلامية كذلك على الناس مما ييسر لهم طريق الدعوة ويحبب الناس في هذا الدين وهذا وهم تنشئه العجلة وهم كالذي كان يقترحه المقترحون أن تقوم دعوة رسول الله ص في أولها تحت راية قومية أو اجتماعية أو أخلاقية تيسيرا للطريق إن النفوس يجب أن تخلص أولا لله وتعلن عبوديتها له بقبول شرعه وحده ورفض كل شرع غيره من ناحية المبدأ قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه إن الرغبة يجب أن تنبثق من الرغبة في إخلاص العبودية لله والتحرر من سلطان سواه لا من أن النظام المعروض عليها في ذاته خير مما لديها في كذا وكذا على وجه التفصيل إن نظام الله خير في ذاته لأنه من شرع الله ولن يكون شرع العبيد يوما كشرع الله ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع الله وحدة ورفض كل شرع غيره هو ذاته الإسلام وليس للإسلام مدلول سواه فمن رغب في الإسلام فقد فصل في هذه القضية ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته فهذه إحدى بديهيات الإيمان منهج القرآن في عرض العقيدة وبعد فلا بد أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاما إنه لم يعرضها في صورة نطرية ولم يعرضها في صورة لاهوت ولم يعرضها في صورة جدل كلامي كالذي زاوله فيما بعد ما سمي ب علم التوحيد أو علم الكلام كلا لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة الإنسان بما في وجوده هو وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات كان يستنقذ فطرته من الركام ; ويخلص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران عليها وعطل وظائفها ; ويفتح منافذ الفطرة لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها والسورة التي بين أيدينا نموذج كامل من هذا المنهج المتفرد وسنتحدث عن خصائصها بعد قليل هذا بصفة عامة وبصفة خاصة كان القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حية واقعية كان يخوض بها معركة مع الركام المعطل للفطرة في نفوس آدمية حاضرة واقعة ومن ثم لم يكن شكل النظرية هو الشكل الذي يناسب هذا الواقع الحاضر إنما كان هو شكل المواجهة الحية للعقابيل والسدود والحواجز والمعوقات النفسية والواقعية في النفوس الحاضرة الحية ولم يكن الجدل الذهني الذي انتهجه في العصور المتأخرة علم التوحيد هو الشكل المناسب كذلك فلقد كان القرآن يواجه واقعا بشريا كاملا بكل ملابساته الحية ; ويخاطب الكينونة البشرية بجملتها في خضم هذا الواقع وكذلك لم يكن اللاهوت هو الشكل المناسب فإن العقيدة الإسلامية ولو أنها عقيدة إلا أنها عقيدة تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي ; ولا تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها الأبحاث اللاهوتية النظرية كان القرآن وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة يخوض بهذه الجماعة المسلمة معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها ; كما يخوض بها معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في ضميرها وأخلاقها وواقعها ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة لا في صورة نظرية ولا في صورة لاهوت ولا في صورة جدل كلامي ولكن في صورة تكوين تنظيمي مباشر للحياة ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها وكان نمو الجماعة المسلمة في تصورها الاعتقادي وفي سلوكها الواقعي وفق هذا التصور وفي دربتها على مواجهة الجاهلية كمنظمة محاربة لها كان هذا النمو ذاته ممثلا تماما لنمو البناء العقيدي وترجمة حية له وهذا هو منهج الإسلام الذي يمثل طبيعته كذلك وإنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على هذا النحو الذي بيناه ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد المكي على هذا النحو لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركة الإسلامية والبناء الواقعي للجماعة المسلمة لم تكن مرحلة تلقي النظرية ودراستها ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معا وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة ; وأن تتم خطواتها على مهل وفي عمق وتثبت وهكذا ينبغي ألا تكون مرحلة بناء العقيدة مرحلة دراسة نظرية للعقيدة ; ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة في صورة حية متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة ; ومتمثلة في بناء جماعي يعبر نموه عن نمو العقيدة ذاتها ; ومتمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك ; لتتمثل العقيدة حية وتنمو نموا حيا في خضم المعركة وخطأ أي خطأ بالقياس إلى الإسلام أن تتبلور النظرية في صورة نظرية مجردة للدراسة النظرية المعرفية الثقافية بل خطر أي خطر كذلك إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاما كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى كلا فلو أراد الله لأنزل هذا القرآن جملة واحدة ; ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشر عاما أو أكثر أو أقل حتى يستوعبوا النظرية الإسلامية ولكن الله سبحانه كان يريد أمراً آخر كان يريد منهجا معينا متفردا كان يريد بناء الجماعة وبناء الحركة وبناء العقيدة في وقت واحد كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الفعلي وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو صورة العقيدة وكان الله سبحانه يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة فلم يكن بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج هذه هي طبيعة هذا الدين كما تستخلص من منهج القرآن المكي ولا بد أن نعرف طبيعته هذه ; ولا نحاول أن نغيرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود كما أخرجها الله أول مرة يجب أن ندرك خطأ المحاولة وخطرها معا في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي يجب أن تتمثل في واقع تام حي متحرك إلى نظرية للدراسة والمعرفة الثقافية لمجرد أننا نريد أن نواجه النظريات البشرية الهزيلة بنظرية إسلامية إن العقيدة الإسلامية يجب أن تتمثل في نفوس حية وفي تنظيم واقعي وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها بوصفهم كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم وتنتزعها من الوسط الجاهلي وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقول ومن الحياة أيضا مساحة أضخم وأوسع وأعمق مما تشغله النظرية ; وتشمل فيما تشمل مساحة النظرية ومادتها ولكنها لا تقتصر عليها إن التصور الإسلامي للألوهية وللوجود الكوني وللحياة وللإنسان تصور شامل كامل ولكنه كذلك تصور واقعي إيجابي وهو يكره بطبيعته أن يتمثل في مجرد تصور ذهني معرفي لأن هذا يخالف طبيعته وغايته ويجب أن يتمثل في أناسي وفي تنظيم حي وفي حركة واقعية وطريقته في التكون أن ينمو من خلال الأناسي والتنظيم الحي والحركة الواقعية ; حتى يكتمل نظريا في نفس الوقت الذي يكتمل فيه واقعيا ; ولا ينفصل في صورة نظرية ; بل يظل ممثلا في الصورة الواقعية وكل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي ولا يتمثل من خلاله هو خطأ وخطر كذلك بالقياس إلى طبيعة هذا الدين وغايته وطريقة تركيبه الذاتي والله سبحانه يقول وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلًا فالفرق مقصود والمكث مقصود كذلك ليتم البناء التكويني المؤلف من عقيدة في صورة منظمة حية لا في صورة نظرية معرفية يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدا أنه كما أن هذا الدين دين رباني فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك متواف مع طبيعته وأنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل ويجب أن يعرفوا كذلك أن هذا الدين كما أنه جاء ليغير التصور الاعتقادي ومن ثم يغير الواقع الحيوي فكذلك هو قد جاء ليغير المنهج الفكري والحركي الذي يبني به التصور الاعتقادي ويغير به الواقع الحيوي جاء ليبني عقيدة وهو يبني أمة ثم لينشىء منهج تفكير خاصا به بنفس الدرجة التي ينشىء بها تصورا اعتقاديا وواقعا حيويا ولا انفصال بين منهج تفكيره الخاص وتصوره الاعتقادي وبنائه الحيوي فكلها حزمة واحدة فإذا عرفنا منهجه في العمل على النحو الذي بيناه فلنعرف أن هذا المنهج أصيل ; وليس منهج مرحلة ولا بيئة ولا ظروف خاصة بنشأة الجماعة المسلمة الأولى إنما هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين إلا به إنه لم تكن وظيفة الإسلام أن يغير عقيدة الناس وواقعهم فحسب ولكن كانت وظيفته أن يغير طريقة تفكيرهم وتناولهم للتصور وللواقع ذلك أنه منهج رباني مخالف في طبيعته كلها لمناهج البشر القاصرة الهزيلة ونحن لا نملك أن نصل إلى التصور الرباني والحياة الربانية إلا عن طريق منهج تفكير رباني كذلك منهج أراد الله أن يقيم منهج الناس في التفكير على أساسه ليصح تصورهم وتكوينهم الحيوي ونحن حين نريد من الإسلام أن يجعل من نفسه نظرية للدراسة نخرج عن طبيعة المنهج الرباني للتكوين ; وعن طبيعة المنهج الرباني للتفكير ونخضع الإسلام لطرائق التفكير البشرية كأنما المنهج الرباني أدنى من المناهج البشرية وكأنما نريد لنرتقي بمنهج الله في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد والأمر من هذه الناحية يكون خطيرا والهزيمة تكون قاتلة إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا نحن أصحاب الدعوة الإسلامية منهجا خاصا للتفكير نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الأرض ; والتي تضغط على عقولنا وتترسب في ثقافتنا فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا الدين بمنهج تفكير غريب عن طبيعته من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية ; وحرمنا أنفسنا فرصة الخلاص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا وفرصة الخلاص من رواسبه في عقولنا وتكويننا والأمر من هذه الناحية كذلك يكون خطيرا والخسارة تكون قاتلة إن منهج التفكير والحركة في بناء الإسلام لا يقل قيمة ولا ضرورة عن منهج التصور الاعتقادي والنظام الحيوي ; ولا ينفصل عنه كذلك ومهما يخطر لنا أن نقدم ذلك التصور وهذا النظام في صورة تعبيرية فيجب ألا يغيب عن بالنا أن هذا لا ينشى ء الإسلام في الأرض في صورة حركة واقعية بل يجب ألا يغيب عن بالنا أنه لن يفيد من تقديمنا الإسلام في هذه الصورة إلا المشتغلون فعلا بحركة إسلامية واقعية وأن قصارى ما يفيده هؤلاء من تقديم الإسلام لهم في هذه الصورة هو أن يتفاعلوا معها بالقدر الذي وصلوا إليه هم فعلا في أثناء الحركة ومرة أخرى أكرر أن التصور الاعتقادي يجب أن يتمثل من فوره في تجمع حركي ; وأن يكون التجمع الحركي في الوقت ذاته تمثيلا صحيحا وترجمة حقيقية للتصور الاعتقادي ومرة أخرى أكرر كذلك أن هذا هو المنهج الطبيعي للإسلام الرباني وأنه منهج أعلى وأقوم وأشد فاعلية وأكثر انطباقا على الفطرة البشرية من منهج صياغة النظريات كاملة مستقلة وتقديمها في الصورة الذهنية الباردة للناس قبل أن يكون هؤلاء الناس مشتغلين بالفعل بحركة واقعية ; وقبل أن يكونوا هم أنفسهم ترجمة تنمو خطوة خطوة لتمثيل ذلك المفهوم النظري وإذا صح هذا في أصل النظرية فهو أصح بطبيعة الحال فيما يختص بتقديم أسس النظام الذي يتمثل فيه التصور الإسلامي أو تقديم التشريعات المفصلة لهذا النظام إن الجاهلية التي حولنا كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية فتجعلهم يستعجلون خطوات المنهج الإسلامي كذلك هي تتعمد أحيانا أن تحرجهم فتسألهم أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن تفصيلات ومن مشروعات وهي في هذا تتعمد أن تعجلهم عن منهجهم وأن تجعلهم يتجاوزون مرحلة بناء العقيدة ; وأن يحولوا منهجهم الرباني عن طبيعته التي تتبلور فيها النظرية من خلال الحركة ويتحدد فيها النظام من خلال الممارسة وتسن فيها التشريعات في ثنايا مواجهة الحياة الواقعية بمشكلاتها الحقيقية ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم من واجبهم ألا يستخفهم من لا يوقنون ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج وأن يستعلوا عليها ; وأن يتحركوا بدينهم وفق منهج هذا الدين في الحركة فهذا من أسرار قوته وهذا هو مصدر قوتهم كذلك إن المنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ; ولا انفصام بينهما وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية والمناهج الغربية الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية ; ; ولكنها لا يمكن أن تحقق نظامنا الرباني فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية لا في الحركة الإسلامية الأولى كما يظن بعض الناس هذه هي كلمتي الأخيرة وإنني لأرجو أن أكون بهذا البيان لطبيعة القرآن المكي ولطبيعة المنهج الرباني المتمثل فيه قد بلغت ; وأن يعرف أصحاب الدعوة الإسلامية طبيعة منهجهم ويثقوا به ويطمئنوا إليه ; ويعلموا أن ما عندهم خير وأنهم هم الأعلون إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم صدق الله العظيم ونمضي بعد ذلك لمواجهة السورة موضوع سورة الأنعام وطريقتها في عرضه هذه السورة وهي أولى السور المكية التي نتعرض لها هنا في سياق هذه الظلال نموذج كامل للقرآن المكي الذي تحدثنا عن طبيعته وخصائصه ومنهجه في الصفحات السابقة ; وهي تمثل طبيعة هذا القرآن وخصائصه ومنهجه في موضوعها الأساسي وفي منهج التناول وفي طريقة العرض سواء ذلك مع احتفاظها بشخصيتها الخاصة ; وفق الظاهرة الملحوظة في كل سور القرآن ; والتي لا تخطئها الملاحظة البصيرة في أية سورة فلكل سورة شخصيتها وملامحها ومحورها وطريقة عرضها لموضوعها الرئيسي ; والمؤثرات الموحية المصاحبة للعرض ; والصور والظلال والجو الذي يظللها ; والعبارات الخاصة التي تتكرر فيها ; وتكون أشبه باللوازم المطردة فيها حتى وهي تتناول موضوعا واحدا أو موضوعات متقاربة فليس الموضوع هو الذي يرسم شخصية السورة ; ولكنه هذه الملامح والسمات الخاصة بها وهذه السورة مع ذلك تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة إنها في كل لمحة منها وفي كل موقف وفي كل مشهد تمثل الروعة الباهرة الروعة التي تبده النفس وتشده الحس وتبهر النفس أيضا ; وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهورا نعم هذه حقيقة حقيقة أجدها في نفسي وحسي وأنا أتابع سياق السورة ومشاهدها وإيقاعاتها وما أظن بشرا ذا قلب لا يجد منها لونا من هذا الذي أجد إن الروعة فيها تبلغ فعلا حد البهر حتى لا يملك القلب أن يتابعها إلا مبهورا مبدوها إنها في جملتها تعرض حقيقة الألوهية تعرضها في مجال الكون والحياة كما تعرضها في مجال النفس والضمير وتعرضها في مجاهيل هذا الكون المشهود كما تعرضها في مجاهيل ذلك الغيب المكنون وتعرضها في مشاهد النشأة الكونية والنشأة الحيوية والنشأة الإنسانية كما تعرضها في مصارع الغابرين واستخلاف المستخلفين وتعرضها في مشاهد الفطرة وهي تواجه الكون وتواجه الأحداث وتواجه النعماء والضراء كما تعرضها في مظاهر القدرة الإلهية والهيمنة في حياة البشر الظاهرة والمستكنة وفي أحوالهم الواقعة والمتوقعة وأخيرا تعرضها في مشاهد القيامة ومواقف الخلائق وهي موقوفة على ربها الخالق إن موضوعها الذي تعالجه من مبدئها إلى منتهاها هو موضوع العقيدة بكل مقوماتها وبكل مكوناتها وهي تأخذ بمجامع النفس البشرية وتطوف بها في الوجود كله وراء ينابيع العقيدة وموحياتها المستسرة والظاهرة في هذا الوجود الكبير إنها تطوف بالنفس البشرية في ملكوت السماوات والأرض تلحظ فيها الظلمات والنور وترقب الشمس والقمر والنجوم وتسرح في الجنات المعروشات وغير المعروشات والمياه الهاطلة عليها والجارية فيها ; وتقف بها على مصارع الأمم الخالية وآثارها البائدة والباقية ثم تسبح بها في ظلمات البر والبحر وأسرار الغيب والنفس والحي يخرج من الميت والميت يخرج من الحي والحبة المستكنة في ظلمات الأرض والنطفة المستكنة في ظلمات الرحم ثم تموج بالجن والإنس والطير والوحش والأولين والآخرين والموتى والأحياء والحفظة على النفس بالليل والنهار إنه الحشد الكوني الذي يزحم أقطار النفس وأقطار الحس ثم إنها اللمسات المبدعة المحيية التي تنتفض بعدها المشاهد والمعاني أحياء في الحس والخيال وإذا كل مكرور مألوف من المشاهد والمشاعر جديد نابض كأنما تتلقاه النفس أول مرة ; وكأنما لم يطلع عليه من قبل ضمير إنسان وهي تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات والصور والظلال مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة ما تكاد الموجة تصل إلى قرارها حتى تبدو الموجة التالية ملاحقة لها متشابكة معها ; في المجرى المتصل المتدفق وهي في كل موجة من هذه الموجات المتدافعة المتلاحقة المتشابكة تبلغ حد الروعة الباهرة التي وصفنا مع تناسق منهج العرض في شتى المشاهد كما سنبين وتأخذ على النفس أقطارها بالروعة الباهرة وبالحيوية الدافقة وبالإيقاع التصويري والتعبيري والموسيقي وبالتجمع والاحتشاد ومواجهة النفس من كل درب ومن كل نافذة ونحن سلفا على يقين أننا لسنا ببالغين شيئا في نقل إيقاعات هذه السورة إلى أي قلب إلا بأن ندع السورة ذاتها تنطلق بسياقها الذاتي وإيقاعها الذاتي إلى هذا القلب لسنا ببالغين شيئا بالوصف البشري والأسلوب البشري ولكنها مجرد المحاولة لإقامة القنطرة بين المعزولين عن هذا القرآن بحكم بعدهم عن الحياة في جو القرآن وبين هذا القرآن والحياة في جو القرآن لا تعني مدارسة القرآن ; وقراءته والاطلاع على علومه إن هذا ليس جو القرآن الذي نعنيه إن الذي نعنيه بالحياة في جو القرآن هو أن يعيش الإنسان في جو وفي ظروف وفي حركة وفي معاناة وفي صراع وفي اهتمامات كالتي كان يتنزل فيها هذا القرآن أن يعيش الإنسان في مواجهة هذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض اليوم وفي قلبه وفي همه وفي حركته أن ينشى ء الإسلام في نفسه وفي نفوس الناس وفي حياته وفي حياة الناس مرة أخرى في مواجهة هذه الجاهلية بكل تصوراتها وكل اهتماماتها وكل تقاليدها وكل واقعها العملي ; وكل ضغطها كذلك عليه وحربها له ومناهضتها لعقيدتها الربانية ومنهجه الرباني ; وكل استجاباتها كذلك لهذا المنهج ولهذه العقيدة ; بعد الكفاح والجهاد والإصرار هذا هو الجو القرآني الذي يمكن أن يعيش فيه الإنسان ; فيتذوق هذا القرآن فهو في مثل هذا الجو نزل وفي مثل هذا الخضم عمل والذين لا يعيشون في مثل هذا الجو معزولون عن القرآن مهما استغرقوا في مدارسته وقراءته والاطلاع على علومه والمحاولة التي نبذلها لإقامة القنطرة بين المخلصين من هؤلاء وبين القرآن ليست بالغة شيئا إلا بعد أن يجتاز هؤلاء القنطرة ; ويصلوا إلى المنطقة الأخرى ; ويحاولوا أن يعيشوا في جو القرآن حقا بالعمل والحركة وعندئذ فقط سيتذوقون هذا القرآن ; ويتمتعون بهذه النعمة التي ينعم الله بها على من يشاء مجالات عرض الألوهية والعبودية والحاكمية في الأنعام هذه السورة تعالج قضية العقيدة الأساسية قضية الألوهية والعبودية تعالجها بتعريف العباد برب العباد من هو ما مصدر هذا الوجود ماذا وراءه من أسرار من هم العباد من ذا الذي جاء بهم إلى هذا الوجود من أنشاهم من يطعمهم من يكفلهم من يدبر أمرهم من يقلب أفئدتهم وأبصارهم من يقلب ليلهم ونهارهم من يبدئهم ثم يعيدهم لأي شيء خلقهم ولأي أجل أجلهم ولأي مصير يسلمهم هذه الحياة المنبثقة هنا وهناك من بثها في هذا الموات هذا الماء الهاطل هذا البرعم النابغ هذا الحب المتراكب هذا النجم الثاقب هذا الصبح البازغ هذا الليل السادل هذا الفلك الدوار هذا كله من وراءه وماذا وراءه من أسرار ومن أخبار هذه الأمم وهذه القرون التي تذهب وتجيء وتهلك وتستخلف من ذا يستخلفها ومن ذا يهلكها لماذا تستخلف ولماذا يدركها البوار وماذا بعد الاستخلاف والابتلاء والوفاة من مصير وحساب وجزاء هكذا تطوف السورة بالقلب البشري في هذه الآماد والآفاق وفي هذه الأغوار والأعماق ولكنها تمضي في هذه كله على منهج القرآن المكي الذي أسلفنا الحديث عنه في الصفحات السابقة وعلى منهج القرآن كله إنها لا تهدف إلى تصوير نظرية في العقيدة ولا إلى جدل لاهوتي يشغل الأذهان والأفكار إنما تهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق ; لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق تعبيد ضمائرهم وأرواحهم وتعبيد سعيهم وحركتهم وتعبيد تقاليدهم وشعائرهم وتعبيد واقعهم كله لهذا السلطان المتفرد سلطان الله الذي لا سلطان لغيره في الأرض ولا في السماء ويكاد اتجاه السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد من أولها إلى آخرها فالله هو الخالق والله هو الرازق والله هو المالك والله هو صاحب القدرة والقهر والسلطان والله هو العليم بالغيوب والأسرار والله هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار وكذلك يجب أن يكون الله هو الحاكم في حياة العباد ; وألا يكون لغيره نهى ولا أمر ولا شرع ولا حكم ولا تحليل ولا تحريم فهذا كله من خصائص الألوهية ولا يجوز أن يزاوله في حياة الناس أحد من دون الله لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يضر ولا ينفع ولا يمنح ولا يمنع ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا في الدنيا ولا في الآخرة وسياق السورة يسوق على هذه القضية أدلته في تلك المشاهد والمواقف والإيقاعات البالغة حد الروعة الباهرة ; والتي تواجه القلب بالحشود الحاشدة من المؤثرات الموحية من كل درب ومن كل باب والقضية الكبيرة التي تعالجها السورة هي قضية الألوهية والعبودية في السماوات والأرض في محيطها الواسع وفي مجالها الشامل ولكن المناسبة الحاضرة في حياة الجماعة المسلمة حينذاك المناسبة التطبيقية لهذه القاعدة الكبيرة الشاملة هي ما تزاوله الجاهلية من حق التحليل والتحريم في الذبائح والمطاعم ومن حق تقرير بعض الشعائر في النذور من الذبائح والثمار والأولاد وهي المناسبة التي تتحدث عنها هذه الآيات في أواخر السورة فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم ; وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين هذه هي المناسبة الحاضرة في حياة الأمة المسلمة والجاهلية حولها التي تتمثل فيها تلك القضية الكبيرة قضية التشريع ومن ورائها القضية الكبرى قضية الألوهية والعبودية التي تعالجها السورة كلها ويعالجها القرآن المكي كله كما يعالجها القرآن المدني أيضا كلما جاء ذكر النظام فيه وذكر التشريع والحشد الذي يتدفق به سياق السورة من التقريرات والمؤثرات وهو يواجه الجاهلية وأهلها في أمر هذه الأنعام والذبائح والنذور وهي المناسبة التي تتمثل فيها قضية حق التشريع وربطها بقضية العقيدة كلها قضية الألوهية والعبودية وجعلها مسألة إيمان أو كفر ومسألة إسلام أو جاهلية هذا الحشد على النحو الذي سنحاول أن نستعرض نماذج منه في هذا التعريف المختصر بالسورة والذي سيتجلى على حقيقته في المواجهة التفصيلية للنصوص في السياق بعد ذلك يوقع في النفس تلك الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين وهي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعا مطلقا لحاكمية الله المباشرة الممثلة في شريعته وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة من أجل الخروج على حاكمية الله المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة كذلك يدل ذلك الحشد على مدى الأهمية التي ينوطها هذا الدين بتخليص مظهر الحياة كله من ظلال حاكمية البشر في أي شأن من شؤون البشر جل أم حقر كبر أم صغر وربط أي شأن من هذه الشؤون بالأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين وهو حاكمية الله المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصريف أمر هذا الكون كله بلا شريك إن سياق السورة يعقب على تلك الشعائر الجاهلية في شأن الأنعام والثمار والنذور منها ومن الأولاد تعقيبات منوعة بعضها مباشر لتصوير مدى السخف والتناقض في هذه الشعائر وبعضها للربط بين مزاولة البشر لحق التحريم والتحليل وقضية العقيدة الكبرى ولبيان أن اتباع أمر الله فيها هو صراطه المستقيم الذي يخرج من لا يتبعه عن هذا الدين على النحو التالي بعد ذكر تلك الشعائر في الآيات السابقة وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميته أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين قل هلم شهداءكم الذين يشهدون ان الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون وكذلك نرى أن هذه المسألة الجزئية الخاصة بالتحريم والتحليل في الأنعام والنذور في الأنعام والثمار وفي الأولاد على ما كان متبعا في الجاهلية يربطها السياق بتلك القضايا الكبيرة بالهدى والضلال واتباع منهج الله أو اتباع خطوات الشيطان وبرحمة الله أو بأسه وبالشهادة بوحدانية الله أو عدل غيرها به وباتباع صراطه مستقيما أو التفرق عنه ويستخدم نفس التعبيرات التي استخدمها وهو بصدد القضية الكبرى في محيطها الشامل كما نراه يحشد لها من المؤثرات والموحيات في هذا الموضع وحده مشهد الخلق والإحياء في الجنات المعروشات وغير المعروشات ومشهد النخل والزرع مختلفا ألوانه والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه وموقف الإشهاد والمفاصلة وموقف البأس والتدمير على المشركين وهي ذات المشاهد التي حشدها السياق في السورة كلها من قبل وهو يتناول قضية العقيدة بجملتها قبل أن يتعرض لهذه المناسبة الخاصة التي تتمثل فيها ولكل هذا دلالته التي لا تخطى ء على طبيعة هذا الدين ونظرته لقضية الحاكمية والتشريع في الكثير والقليل ولعلنا قد سبقنا سياق السورة ; ونحن نبين منهجها الموضوعي وهي تتناول قضية العقيدة بجملتها في مواجهة مناسبة جزئية تتعلق بأمر التشريع والحاكمية وهي المناسبة التي لا نقول إنها اقتضت ذلك الحشد المتجمع المتدفق من التقريرات والتأثيرات في سياق السورة كله وهذا البيان الرائع الباهر لحقيقة الألوهية في مجالها الواسع الشامل ولكننا نقول إنها المناسبة التي ربطت في سياق السورة بهذا كله ; فدل هذا الربط على طبيعة هذا الدين ; ونظرته لقضية التشريع والحاكمية في الكبير والصغير وفي الجليل والحقير من شؤون هذه الحياة الدنيا كما أسلفنا فالآن نمضي في التعريف المجمل بالسورة وخصائصها وملامحها على النحو الذي ألفناه في هذه الظلال قبل الدخول في الاستعراض المفصل للسياق مكية الأنعام ورد القول بمدنية بعض آياتها في روايات عن ابن عباس وعن أسماء بنت يزيد وعن جابر وعن أنس بن مالك وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنهم جميعا أن هذه السورة مكية وأنها نزلت كلها جملة واحدة وليس في هذه الروايات ما يعين تاريخ نزول السورة ; وليس في موضوعها كذلك ما يحدد زمن نزولها من العهد المكي وهي حسب الترتيب الراجح لسور القرآن يجيء ترتيبها بعد سورة الحجر ; وتكون هي السورة الخامسة والخمسين ولكننا كما بينا من قبل في التعريف بسورة البقرة لا نستطيع بمثل هذه المعلومات أن نجزم بشيء عن تاريخ محدد لنزول السور فالمعول عليه عندهم في الغالب في ترتيب السور على هذا النحو هو تاريخ نزول أوائلها لا جملتها وقد تكون هناك أجزاء من سورة متقدمة نزلت بعد أجزاء من سورة متأخرة إذ المعول في الترتيب على أوائل السورة أما في سورة الأنعام فقد نزلت كلها جملة ولكننا لا نملك تحديد تاريخ نزولها غير أننا نرجح أنها كانت بعد السنوات الأولى من الرسالة ربما الخامسة أو السادسة ولا نعتمد في هذا الترجيح على أكثر من رقم الترتيب ; ثم على سعة الموضوعات التي تناولتها والتوسع في عرضها على هذا النحو الذي يشي بأن الدعوة والجدل مع المشركين وطول الإعراض منهم والتكذيب لرسول الله أصبح يقتضي التوسع في عرض القضايا العقيدية على هذا النحو ; كما يقتضي تسلية رسول الله ص عن طول الصد والإعراض والتكذيب وفي رواية عن ابن عباس وقتادة أن السورة مكية كلها إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل لله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهي الآية نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين وقوله تعالى وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين وهي الآية نزلت في ثابت بن قيس شماس الأنصاري وقال ابن جريج والماوردي نزلت في معاذ ابن جبل والرواية عن الآية الأولى محتملة ; بسبب أن فيها ذكرا للكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ومواجهة لليهود في قوله تعالى تجعلونه قراطيس تبدونها وإن كان هناك روايات أخرى عن مجاهد وعن ابن عباس أن الذين قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء هم مشركو مكة وأن الآية مكية وهناك قراءة قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا فهي على هذه القراءة خبر عن اليهود وليست خطابا لهم وسياق الآية كله عن المشركين وقد رجح ابن جرير هذه الرواية واستحسن هذه القراءة وعلى هذا تكون الآية مكية وأما الآية الثانية فالسياق لا يحتمل أن تكون مدنية لأن السياق بدونها ينقطع ما قبلها فيه عما بعدها في المعنى وفي العبارة والحديث متصل عن إنشاء الله للجنات المعروشات وعن جعله حمولة وفرشا من الأنعام في الآية التي تليها ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثم يمضي السياق في تكملة الحديث عن الأنعام الذي كان قد بدأه قبل آية الثمار يجمعها كلها موضوع واحد هو الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة الخاصة بقضية التحريم والتحليل والنذور وإنما الذي جعل بعضهم يعتبرها مدنية هو ما جاء فيها من قوله تعالى كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده واعتبارهم هذا الأمر يعني الزكاة والزكاة لم تتقرر بأنصبتها المحددة في الزروع والثمار إلا في المدينة ولكن هذا المعنى ليس متعينا في الآية إذ أن هناك أقوالا مأثورة في تفسيرها بأنها تعني الصدقات أو بأنها تعني الإطعام منها لمن يمر بهم يوم الحصاد أو جني الثمار ; أو لقرابتهم وأن الزكاة حددت فيما بعد بالعشر ونصف العشر وعلى هذا تكون الآية مكية وقال الثعلبي سورة الأنعام مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وما قدروا الله حق قدره إلى آخر ثلاث آيات و قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر ثلاث آيات والآيات الأولى بينا مكيتها إذ ينطبق على الآيتين الثانية والثالثة من هذه المجموعة ما ينطبق على الآية الأولى منها أما المجموعة الثانية فليس هناك فيما وصل إليه اطلاعي رواية عن صحابي ولا تابعي عن كونها مدنية ; وليس في موضوعها ما يدعو إلى اعتبارها مدنية وهي تتحدث عن تصورات جاهلية ; وهي متصلة بموضوع التحريم والتحليل في الذبائح والنذور الذي سبق الحديث عنه اتصالا وثيقا لذلك نميل إلى اعتبارها مكية كذلك وفي المصحف الأميري أن الآيات مدنية وقد تحدثنا عن الآيات و و وليس في الآيات ما يدعو إلى الظن بأنها مدنية إلا ذكر أهل الكتاب فيها وهذا ليس دليلا فقد ورد مثل هذه في الآيات المكية لهذا كله نحن نميل إلى اعتبار الروايات المطلقة التي تنص على أن السورة نزلت بجملتها في مكة في ليلة واحدة وقد وردت عن ابن عباس وعن أسماء بنت يزيد وفي الرواية عن أسماء تحديد للرواية بحادث مصاحب على النحو التالي قال سفيان الثوري عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت نزلت سورة الأنعام على النبي ص جملة وأنا آخذة بزمام ناقة النبى ص إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة أما الرواية عن ابن عباس فقد رواها الطبراني قال حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال نزلت الأنعام بمكة ليلة ; جملة واحدة حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح وهاتان الروايتان أوثق من الأقوال التي جاء فيها أن بعض الآيات مدنية وذلك بالإضافة إلى التحليل الموضوعي الذي أسلفنا والواقع أن سياق السورة في تماسكه وفي تدافعه وفي تدفقه يوقع في القلب أن هذه السورة نهر يتدفق أو سيل يتدفع بلا حواجز ولا فواصل ; وإن بناءها ذاته ليصدق تماما هذه الروايات أو على الأقل يرجحها ترجيحا قويا عرض سورة الأنعام لموضوعاتها في موجات متدافقة وأمثلة على ذلك أما موضوع السورة الأساسي وشخصيتها العامة فقد أجملنا الإشارة إليهما في مطلع الحديث عنها ولكن لا بد من شيء من التفصيل في هذا التعريف روى أبو بكر بن مردويه بإسناده عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ص نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والأرض بهم ترتج ورسول الله يقول < سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم > هذا الموكب وهذا الارتجاج واضح ظلهما في السورة إنها هي ذاتها موكب موكب ترتج له النفس ويرتج له الكون إنها زحمة من المواقف والمشاهد والموحيات والإيقاعات وهي كما قلنا من قبل تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة ما تكاد الموجه تصل إلى قرارها حتى تبدو الموجة التالية ملاحقة لها ومتشابكة معها في المجرى المتصل المتدفق والموضوع الرئيسي الذي تعالجه متصل ; فلا يمكن تجزئة السورة إلى مقاطع كل مقطع منها يعالج جانبا من الموضوع إنما هي موجات وكل موجة تتفق مع التي قبلها وتكملها ومن ثم فلن نحاول عرض الموضوعات التي تحتويها السورة في هذا التعريف ; وإنما سنحاول فقط عرض نماذج من هذه الموجات المتلاحقة فيها تبدأ السورة بمواجهة المشركين الذين يتخذون مع الله آلهة أخرى بينما دلائل التوحيد تجبههم وتواجههم وتحيط بهم وتطالعهم في الآفاق وفي أنفسهم تبدأ بمواجهتهم بحقيقة الألوهية متجلية في لمسات عريضة تشمل الوجود كله ; وتشمل وجودهم كله تبدأ في لمسات ثلاث ترسم مجالي الوجود الكبيرة على أقصى عمق واتساع الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ثلاث آيات تذرع الوجود الكوني كله في الآية الأولى وتذرع الوجود الإنساني كله في الآية الثانية ثم تحيط الألوهية بالوجودين كليهما في الآية الثالثة أي إعجاز وأية روعة وأي شمول وأية إحاطة وأمام هذا الوجود الكوني الشاهد بوحدة الخالق وأمام هذا الوجود الإنساني الشاهد بتدبيره وأمام هذه الألوهية الحاكمة في السماوات وفي الأرض ; العالمة بالسر والجهر والكسب يبدو شرك المشركين وامتراء الممترين عجبا منكرا لا مكان له في نظام الكون ولا مكان له في فطرة النفس ولا سند له في القلب والعقل وفي هذه اللحظة تبدأ الموجة التالية تعرض موقف المكذبين بآيات الله هذه المبثوثة في الكون والحياة ; ومع عرض الموقف المنكر الغريب يجيء التهديد وتعرض مصارع الغابرين ويتجلى السلطان القاهر الذي تدل عليه هذه المصارع وهذه القوارع فيبدو عجيبا منكرا تعنت المنكرين أمام هذا الحق المبين ; ويبدو أن المنكرين ليس الذي ينقصهم هو الدليل ولكنه صدق النية وتفتح القلب للدليل وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلًا وللبسنا عليهم ما يلبسون ولقد استهزى ء برسل من قبلك ; فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ومن هنا تبدأ موجة ثالثة في التعريف بحقيقة الألوهية متجلية في ملكية الله سبحانه لما في السماوات وما في الأرض ولما سكن بالليل والنهار ومتجلية في كونه الرازق الذي يطعم ولا يطعم فهو من ثم الولي الذي لا ولي غيره الذي يجب أن يسلم العبيد أنفسهم إليه وحده وهو الذي يعذب العصاة في الآخرة وهو الذي يملك الضر والخير وهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير وتبلغ الموجة قمتها بعد هذا التمهيد كله في الإشهاد والمفاصلة بين الرسول ص وبين القوم وإنذارهم والتبرؤ من شركهم وإعلان التوحيد في مواجهتهم في رنة عالية فاصلة جازمة قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ثم تبدأ موجة رابعة تتحدث عن معرفة أهل الكتاب لهذا الكتاب الجديد الذي يكذب به المشركون ; وتصف هذا الشرك بأنه أظلم الظلم ; وتقف المشركين أمام مشهدهم يوم الحشر وهم يسألون عن شركائهم فينكرون الشرك ويذهب عنهم الافتراء ; وتصور حالهم وأجهزة الاستقبال الفطرية فيهم معطلة لا تلتقط موحيات الإيمان ولا تستجيب وقلوبهم محجوبة لا تدرك دلائل الإيمان وهم يدعون أن هذا القرآن أساطير الأولين ; وتقول لهم إنهم يهلكون أنفسهم وهم ينهون غيرهم عن الهدى وينأون عنه ثم تصور حالهم وهم موقوفون على النار يقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ثم تعود بهم إلى الدنيا وهم ينكرون البعث والمعاد ثم تعقب على هذا بتصوير حالهم وهم موقوفون على ربهم وهم يسألون عن هذا الإنكار ; وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم وتنتهي الموجة بتقرير خسارة المكذبين بلقاء الله وتفاهة الحياة الدنيا إلى جانب الدار الآخرة المدخرة للذين يتقون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ; إنه لا يفلح الظالمون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ثم تبدأ موجة خامسة يلتفت فيها السياق إلى رسول الله ص يسليه ويسري عنه ما يحزنه من تكذيبهم له ولما جاءهم من عند الله به ويجعل له أسوة في الرسل قبله ممن صبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله ويقرر أن سنة الله لا تتبدل ولكنها كذلك لا تستعجل فإن كان ص لا يصبر على إعراضهم فليبذل جهده البشري في إتيانهم بخارقة ولو شاء الله لجمعهم على الهدى إنما اقتضت مشيئته في خلقه وهو وحده صاحب الأمر المتصرف أن يستجيب الذين لا تتعطل أجهزتم الفطرية عن التلقي والموتى لا حياة فيهم فهم لا يستقبلون موحيات الهدى ولا يستجيبون والله يبعثهم وهم إليه يرجعون قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون وهكذا يمضي سياق السورة موجة في إثر موجة على هذا النسق الذي عرضنا منه نماذج لعلها تصور طبيعة السورة كما تصور موضوعها وهي تبلغ في بعض موجاتها ذروة أعلى من ذرى هذه الموجات التي استعرضناها ; كما أن تدفقها في بعض المسالك أشد جيشانا وأعلى إيقاعًا ولكننا لا نملك أن نستعرض السورة كلها في هذا التعريف المجمل وسيأتى شيء من ذلك في الفقرة التالية حقيقة الألوهية في مواقف ومشاهد مختارة من الأنعام ولقد سبق القول بأن هذه السورة تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة إذ أنها في كل لمحة منها وفي كل موقف وفي كل مشهد تبلغ حد الروعة الباهرة التي تبده النفس وتشده الحس وتبهر النفس وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعاتها وموحياتها فالآن ندع نصوصا من السورة ذاتها تصور هذه الحقيقة بأسلوبها القرآني ذلك أن الوصف مهما بلغ لا يبلغ شيئا في نقل هذه الحقيقة إلى القلب البشري إن تقرير حقيقة الألوهية وتعريف الناس بربهم الحق وتعبيدهم له وحده هو الموضوع الأساسي للسورة فلنسمع إذن تقرير السياق القرآني لهده الحقيقة في مواقف منه شتى في موقف الإشهاد والمفاصلة حيث تتجلى تلك الحقيقة في القلب المؤمن بها ; وحيث يواجه بها المخالفين ويصدع بها في قوة وفي يقين قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون وفي موقف التهديد حيث يتجلى سلطان الله محيطا بالعباد ; وتتعرى أمامه الفطرة ويسقط عنها الركام وتتجه إلى ربها الحق وحده وتنسى الآلهة الزائفة أمام الهول وأمام مصارع المكذبين قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون وفي موقف التعريف بإحاطة الله بالغيوب والأسرار والأنفاس والأعمار مع القدرة والقهر والسيطرة في البر والبحر والنهار والليل والدنيا والأخرة والحياة والممات وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه لتقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين وفي موقف شهادة الفطرة واهتدائها الذاتي إلى ربها الحق بمجرد تفتحها لاستقبال دلائل الهدى وموحياته في صفحات الكون التي تخاطب الفطرة بلسان مفهوم الإيقاع في أعماقها المكنونة وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ; فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجة قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وفي مشهد الحياة النابضة في الفصائل والأنواع ومشهد الإصباح والإمساء ومشهد النجوم والظلمات في البر والبحر ومشهد الماء الهاطل والزرع النامي والثمر اليانع حيث تتجلى وحدانية الخالق بلا شريك المبدع بلا شبيه وحيث تبدو دعوى الشركاء والأبناء سخفا تنكره العقول والقلوب إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وأخيرا في موقف الابتهال والإنابة إلى الله الواحد بلا شريك والتجرد له صلاة ونسكا ومحيا ومماتا واستنكار ابتغاء غيره ربا وهو رب كل شيء ورد الأمر إليه كله في الدنيا في أمر الاستخلاف والابتلاء وفي الآخرة في أمر الحساب والجزاء حيث تختم السورة بهذا الابتهال الخاشع المنيب قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم وليست هذه النماذج الستة التي اخترناها إلا نماذج تصور حد الروعة الباهرة الذي يبلغه سياق السورة في كل موقف وفي كل مشهد وفي كل إيقاع وفي كل إيحاء كذلك سبق القول إن سياق السورة يبلغ حد الروعة الباهرة في كل مشهد وفي كل موقف ; مع تناسق في منهج العرض للمشاهد والمواقف ; ووعدنا أن نبين ما نعنيه بهذا التناسق ولن نعرض هنا إلا بعض النماذج في انتظار العرض التفصيلي للنصوص بعد التعريف المجمل ونكتفي من هذا التناسق بثلاثة ألوان منه بارزة في سياق السورة إن السياق يعرض المشاهد والمواقف منوعة ; ولكنها تلتقي في ظاهرة واحدة إنه في كل مشهد أو موقف كأنما يأخذ بالسامع ليقفه أمام المشهد يتملاه وأمام المواقف يتدبره يقفه أمامه بحركة تكاد الألفاظ تجسمها كما أن المشاهد والمواقف ذاتها فيها ناس موقوفون يراهم السامع في وقفتهم والسياق يقفه هو الآخر ليشاهدهم ويتملاهم ففي مشاهد القيامة ومشاهد الاحتضار ترد هذه الوقفات ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون وفي مواقف التهديد ببطش الله وأخذ المكذبين بسلطانه الذي لا يرد يقفهم أمام هذا البطش كأنهم يعاينونه قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة ; أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون وفي تمثيل حالة الضلال بعد الهدى والرجوع عن الحق بعد الاهتداء إليه يرسم مشهدا شاخصا يقف السامع أمامه يتملاه ولو لم يكن في اللفظ أمر بالنظر أو إشارة إلى الوقوف قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ; ائتنا كذلك يقف السياق السامع أمام مشهد الثمار اليانعة في الجنات التي تتمثل فيها الحياة والتي تتجلى فيها يد الله المبدعة للألوان والثمار وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون وهكذا كل مشاهد السورة ومواقفها يتجلى فيها هذا التناسق ويكون طابعها العام لون آخر من ألوان التناسق يمت إلى هذا اللون بصلة كذلك مواقف الإشهاد إن مشاهد القيامة في السورة تعرض كأنما هي مواقف إشهاد على ما كان من المشركين والمكذبين ; ومواقف تشهير بهم ; وتوجيه للأنظار إلى هذه المواقف وقد سبق عرض نماذج منها وفي كل منها ولو ترى وتلتقي بها مواقف الإشهاد على العقيدة ومواقف الإشهاد على الشريعة كلتاهما سواء في أول السورة عند الحديث عن العقيدة في محيطها الشامل يجيء هذا الموقف قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برىء مما تشركون حتى إذا جاء السياق إلى المناسبة الخاصة في السورة المتعلقة بالعقيدة في قضية التحريم والتحليل أقام مشهدا آخر ودعا إلى إشهاد على هذه القضية الخاصة كالإشهاد على تلك القضية العامة للدلالة على أنها هي هي من ناحية الموضوع ; ولضمان التناسق الذي هو طابع التعبير القرآني العام قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون لون ثالث من ألوان التناسق ; هو التناسق التعبيري الذي يقتضيه التقرير الموضوعي والذي يتمثل في تكرار عبارات بعينها للدلالة على أنها تعبيرعن حقيقة واحدة في صور متعددة وهذا كالتعبير في أول السورة عن الذين كفروا حين يشركون بالله غيره بأنهم بربهم يعدلون ثم التعبير كذلك في أواخرها عن الذين يشرعون لأنفسهم بأنهم كذلك بربهم يعدلون على النحو التالي الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون ففي الآية الأولى هم يعدلون بربهم لآنهم يشركون به وفي الثانية هم يعدلون بربهم لأنهم يشركون به كذلك ممثلا هذا الشرك في ادعاء حق الألوهية في التشريع ولهذا دلالته الموضوعية وجماله التعبيري أيضا كذلك يكرر كلمة الصراط وهو يعبر عن الإسلام جملة ; وهو يعبر عن قضية التشريع على هذا النحو فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون وبعد أن يتحدث عن الأنعام والحرث والحلال والحرام في نهاية السورة كما جاء في مقدمة التعريف بالسورة يقول وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون فيدل على أن هذه القضية هي قضية العقيدة وأن الالتزام فيها هو المضي على صراط الله وأن الانحراف فيها هو الخروج عن هذا الصراط وأنها قضية إيمان أو كفر وجاهلية أو إسلام كما فصلنا ذلك في مطلع الكلام وإلى هنا يحسن أن نكتفي في التعريف المجمل لنواجه نصوص السورة في سياقها القرآني بعون الله ووفق طبيعة السورة سنعرضها موجة موجة لا درسا درسا كما تعودنا ذلك في السور المدنية فهذه الطريقة في العرض أدنى إلى طبيعة السورة ; وإلى تحقيق التناسق بينها وبين ظلالها كذلك وبالله التوفيق

    كلمات مفتاحية  :
    مقدمة سورة الأنعام

    تعليقات الزوار ()