بتـــــاريخ : 10/13/2009 9:52:15 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 892 0


    الوحدة الخامسة مواساة الرسول وبيان طريق الدعوة - في ظلال القرآن

    الناقل : elmasry | العمر :42 | المصدر : www.khayma.com

    كلمات مفتاحية  :

    مقدمة الوحدة

    في هذه الموجة من موجات السياق المتدفق في السورة ; يتجه الحديث إلى رسول الله ص يطيب الله سبحانه خاطره في أوله مما يلاقيه من تكذيب قومه له وهو الصادق الأمين فإنهم لا يظنون به الكذب إنما هم مصرون على الجحود بآيات الله وعدم الاعتراف بها وعدم الإيمان لأمر آخر غير ظنهم به الكذب كما يواسيه بما وقع لإخوانه الرسل قبله من التكذيب والأذى وما وقع منهم من الصبر والاحتمال ثم ما انتهى إليه أمرهم من نصر الله لهم وفق سنته التي لا تتبدل حتى إذا انتهى من المواساة والتسرية والتطمين التفت إلى النبي ص يقرر له الحقيقية الكبرى في شأن هذه الدعوة إنها تجري بقدر الله وفق سنته وليس للداعية فيها إلا التبليغ والبيان إن الله هو الذي يتصرف في الأمر كله فليس على الداعية إلا أن يمضي وفق هذا الأمر لا يستعجل خطوة ولا يقترح على الله شيئا حتى ولو كان هو النبي الرسول ولا يستمع إلى مقترحات المكذبين ولا الناس عامة في منهج الدعوة ولا في اقتراح براهين وآيات معينة عليه والأحياء الذين يسمعون سيستجيبون أما موتى القلوب فهم موتى لا يستجيبون والأمر إلى الله إن شاء أحياهم وإن شاء أبقاهم موتى حتى يرجعوا إليه يوم القيامة وهم يطلبون آية خارقة على نحو ما كان يقع للأقوام من قبلهم والله قادر على أن ينزل آية ولكنه سبحانه لا يريد لحكمة يراها فإذا كبر على الرسول إعراضهم فليحاول هو إذن بجهده البشري أن يأتيهم بآية إن الله سبحانه هو خالق الخلائق جميعا وعنده أسرار خلقهم وحكمة اختلاف خصائصهم وطباعهم وهو يترك المكذبين من البشر صما وبكما في الظلمات ويضل من يشاء ويهدي من يشاء وفق ما يعلمه من حكمة الخلق والتنويع

     

    الدرس الأول مواساة الرسول على ما يلاقيه من قومه وبيان طريق الدعوة

    قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون إن مشركي العرب في جاهليتهم وخاصة تلك الطبقة التي كانت تتصدى للدعوة من قريش لم يكونوا يشكون في صدق محمد ص فلقد عرفوه صادقا أمينا ولم يعلموا عنه كذبة واحدة في حياته الطويلة بينهم قبل الرسالة كذلك لم تكن تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة لدعوته تشك في صدق رسالته وفي أن هذا القرآن ليس من كلام البشر ولا يملك البشر أن يأتوا بمثله ولكنهم على الرغم من ذلك كانوا يرفضون إظهار التصديق ويرفضون الدخول في الدين الجديد إنهم لم يرفضوا لأنهم يكذبون النبي ص ولكن لأن في دعوته خطرا على نفوذهم ومكانتهم وهذا هو السبب الذي من أجله قرروا الجحود بآيات الله والبقاء على الشرك الذي كانوا فيه والأخبار التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا وحقيقة ظنهم بهذا القرآن كثيرة قال ابن اسحاق حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله ص وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبة فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الصبح تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائهم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد قال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها قال الأخنس وأنا والذي حلفت به ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه في بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد قال ماذا سمعت قال تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه قال فقام عنه الأخنس وتركه وروى ابن جرير من طريق أسباط عن السدي في قوله قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة يا بني زهرة إن محمدا ابن أختكم فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته فإن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد رجعتم سالمين وإن غلب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئا فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبي فالتقى الأخنس بأبي جهل فخلا به فقال يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا فقال أبو جهل ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فذلك قوله فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ونلاحظ أن السورة مكية وهذه الآية مكية لا شك في ذلك ; بينما الحادثة المذكورة كانت في المدينة يوم بدر ولكن إذا عرفنا أنهم كانوا يقولون أحيانا عن آية ما فذلك قوله كذا ويقرنون إليها حادثا ما لا للنص على أنها نزلت بسبب الحادث الذي يذكرونه ; ولكن بسبب انطباق مدلولها على الحادث بغض النظر عما إذا كان سابقا أو لاحقا فإننا لا نستغرب هذه الرواية وقال ابن إسحاق حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله ص جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله ص يزيدون ويكثرون فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله ص فقال يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها قال فقال له رسول الله ص قل يا أبا الوليد أسمع قال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع امرا دونك وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله ص يستمع منه قال < أفرغت يا أبا الوليد > قال نعم قال < فاستمع مني > قال أفعل قال بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ثم مضى رسول الله ص فيها وهو يقرؤها عليه فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله ص إلى السجدة منها فسجد ثم قال < قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك > فقام عتبة إلى أصحابة فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي خلوا بين الرجل وما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم وقد روى البغوي في تفسيره حديثا بإسناده عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله ص مضى في قراءته إلى قوله فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم إلى آخره ثم لما حدثوه في هذا قال فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب وقال ابن اسحاق إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قولكم بعضه بعضا قالوا فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقل به قال بل أنتم فقولوا أسمع قالوا نقول كاهن قال لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا فنقول مجنون قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا فنقول شاعر قال ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا فنقول ساحر قال ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم قالوا فما نقول يا أبا عبد الشمس قال والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا له أمره وقال ابن جرير حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثورة عن معمر عن عبادة بن منصور عن عكرمة أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي ص فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام فأتاه فقال له أي عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا قال لم قال يعطونكه فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله يريد الخبيث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أنه أشد بها اعتزازا قال قد علمت قريش أني أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال وأنك كاره له قال فماذا أقول فيه فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى قال والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه قال فدعني حتى أفكر فيه فلما فكر قال إن هذا إلا سحر يؤثر يؤثره عن غيره فنزلت ذرني ومن خلقت وحيدا حتى بلغ عليها تسعة عشر وفي رواية أخرى أن قريشا قالت لئن صبأ الوليد لتصبون قريش كلها فقال أبو جهل أنا أكفيكموه ثم دخل عليه وأنه قال بعد التفكير الطويل إنه سحر يؤثر أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه فهذه الروايات كلها تبين أن هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون أن رسول الله ص يكذبهم فيما يبلغه لهم وإنما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الأسباب التي وردت بها الروايات وما وراءها من السبب الرئيسي وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوة من سلب السلطان المغتصب الذي يزاولونه وهو سلطان الله وحده كما هو مدلول شهادة أن لا إله إله إلا الله التي يقوم عليها الإسلام وهم كانوا يعرفون جيدا مدلولات لغتهم ; وكانوا لا يريدون أن يسلموا بمدلول هذه الشهادة وهو إنما يمثل ثورة كاملة على كل سلطان غير سلطان الله في حياة العباد وصدق الله العظيم قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون والظالمون في هذا الموضع هم المشركون كما يغلب في التعبير القرآني الكريم ويستطرد من تطييب خاطر الرسول ص وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق حتى جاءهم نصر الله ليقرر أن هذه هي سنة الدعوات التي لا تتبدل ولا يغير منها اقتراحات المقترحين كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم ضارب في شعاب الزمن ماض في الطريق اللاحب ماض في الخط الواصب مستقيم الخطي ثابت الأقدام يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد والعاقبة هي العاقبة مهما طال الزمن ومهما طال الطريق إن نصر الله دائما في نهاية الطريق ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين كلمات يقولها الله سبحانه لرسوله ص كلمات للذكرى وللتسرية وللمواساة والتأسية وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله ص طريقهم واضحا ودورهم محددا كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة كما انها كذلك وحدة وحدة لا تتجزأ دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب وتتلقى أصحابها بالأذى وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى وسنة تجري بالنصر في النهاية ولكنها تجيء في موعدها لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حبا في هدايتهم ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والأخرة لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه ولا مبدل لكلماته سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم أم تعلقت بالأجل المرسوم إنه الجد الصارم والحسم الجازم إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية ثم يبلغ الجد الصارم مداه في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله ص من الرغبة البشرية المشتاقة إلى هداية قومه المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق وهي رغبة بشرية طبيعية ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها ودور الناس أجمعين تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة وما يملك الإنسان إن يدرك حقيقة هذا الأمر إلا حين يستحضر في كيانه كله أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم النبي الصابر من أولي العزم من الرسل الذي لقي ما لقي من قومه صابرا محتسبا لم يدع عليهم دعوة نوح عليه السلام وقد لقي منهم سنوات طويلة ما يذهب بحلم الحليم تلك سنتنا يا محمد فإن كان قد كبر عليك إعراضهم وشق عليك تكذيبهم وكنت ترغب في إتيانهم بآية إذن فإن استطعت فابتغ لك نفقا في الأرض أو سلما في السماء فأتهم بآية إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول ولو شاء الله لجمعهم على الهدى إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى كالملائكة وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعا وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها ولكنه سبحانه لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان لوظيفة معينة تقتضي في تدبيره العلوي الشامل أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة من بينها التنوع في الاستعدادات والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات في حدود من القدرة على الاتجاه بالقدر الذي يكون عدلا معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف فأعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين يا لهول الكلمة ويا لحسم التوجيه ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه وبعد ذلك بيان للفطرة التي فطر الله الناس عليها ولمواقفهم المختلفة في مواجهة الهدى الذي لا تنقصه البينة ولا ينقصه الدليل إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون إن الناس يواجهون هذا الحق الذي جاءهم به الرسول من عند الله وهم فريقان فريق حي أجهزة الاستقبال الفطرية فيه حية عاملة مفتوحة وهؤلاء يستجيبون للهدى فهو من القوة والوضوح والاصطلاح مع الفطرة والتلاقي معها إلى الحد الذي يكفي أن تسمعه فتستجيب له إنما يستجيب الذين يسمعون وفريق ميت معطل الفطرة لا يسمع ولا يستقبل ومن ثم لا يتأثر ولا يستجيب ليس الذي ينقصه أن هذا الحق لا يحمل دليله فدليله كامن فيه ومتى بلغ إلى الفطرة وجدت فيها مصداقه فاستجابت إليه حتما إنما الذي ينقص هذا الفريق من الناس هو حياة الفطرة وقيام أجهزة الاستقبال فيها بمجرد التلقي وهؤلاء لا حيلة فيهم للرسول ولا مجال معهم للبرهان إنما يتعلق أمرهم بمشيئة الله إن شاء بعثهم إن علم منهم ما يستحق أن يحييهم وإن شاء لم يبعثهم في هذه الحياة الدنيا وبقوا أمواتا بالحياة حتى يرجعوا إليه في الآخرة والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون هذه هي قصة الاستجابة وعدم الاستجابة تكشف حقيقة الموقف كله وتحدد واجب الرسول وعمله وتترك الأمر كله لصاحب الأمر يقضي فيه بما يريد

     

    الدرس الثاني الرد على طلب الكفار آيات والإشارة إلى الآيات في المخلوقات

    ومن خطاب رسول الله ص بهذه الحقيقة ينتقل السياق إلى حكاية ما يطلبه المشركون من إنزال خارقة وإلى بيان ما في هذا الطلب من الجهالة بسنة الله ومن سوء إدراك لرحمته بهم ألا يستجيب لهذا الإقتراج الذي في أعقابه التدمير لهم لو أجيبوا إليه ويعرض جانبا من دقة التدبير الإلهي وإحاطته بالأحياء جميعا يوحي بحكمة السنة الشاملة للأحياء جميعا وينتهي بتقرير ما وراء الهدى والضلال من أسرار وسنن تجري بها مشيئة الله طليقة وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم لقد كانوا يطلبون آية خارقة كالخوارق المادية التي صاحبت الرسالات السابقة ولا يقنعون بآية القرآن الباقية التي تخاطب الإدراك البشري الراشد وتعلن عهد الرشد الإنساني وتحترم هذا الرشد فتخاطبه هذا الخطاب الراقي ; والتي لا تنتهي بانتهاء الجيل الذي يرى الخارقة المادية ; بل تظل باقية تواجه الإدراك البشري بإعجازها إلى يوم القيامة وكانوا يطلبون خارقة ولا يفطنون إلى سنة الله في أخذ المكذبين بالدعوة بعد مجيء الخارقة وإهلاكهم في الدنيا ولا يدركون حكمة الله في عدم مجيئهم بهذه الخارقة وهو يعلم أنهم سيجحدون بها بعد وقوعها كما وقع في الأقوام قبلهم فيحق عليهم الهلاك بينما يريد الله أن يمهلهم ليؤمن منهم من يؤمن فمن لم يؤمن استخرج الله من ظهره ذرية مؤمنة ولا يشكرون نعمة الله عليهم في إمهالهم وذلك بعدم الاستجابة لاقتراحهم الذي لا يعلمون جرائره والقرآن يذكر اقتراحهم هذا ويعقب عليه بأن أكثرهم لا يعلمون ما وراءه ولا يعلمون حكمه الله في عدم الاستجابة ويقرر قدرة الله على تنزيل الآية ولكن حكمته هي التي تقتضي ورحمته التي كتبها على نفسه هي التي تمنع البلاء وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل أية ولكن أكثرهم لا يعلمون ويأخذ السياق القرآني طريقه إلى قلوبهم من مدخل آخر لطيف ويوقظ فيها قوى الملاحظة والتدبر لما في الوجود حولهم من دلائل الهدى وموحيات الإيمان لو تدبروه وعقلوه وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون إن الناس ليسوا وحدهم في هذا الكون حتى يكون وجودهم مصادفة وحتى تكون حياتهم سدى إن حولهم أحياء أخرى كلها ذات أمر منتظم يوحي بالقصد والتدبير والحكمة ويوحي كذلك بوحدة الخالق ووحدة التدبير الذي يأخذ به خلقه كله إنه ما من دابة تدب على الأرض وهذا يشمل كل الأحياء من حشرات وهوام وزواحف وفقاريات وما من طائر يطير بجناحية في الهواء وهذا يشمل كل طائر من طير أو حشرة غير ذلك من الكائنات الطائرة ما من خلق حي في هذه الأرض كلها إلا وهو ينتظم في أمة ذات خصائص واحدة وذات طريقة في الحياة واحدة كذلك شأنها في هذا شأن أمة الناس ما ترك الله شيئا من خلقه بدون تدبير يشمله وعلم يحصيه وفي النهاية تحشر الخلائق إلى ربها فيقضي في أمرها بما يشاء إن هذه الآية القصيرة فوق تقريرها الحاسم في حقيقة الحياة والأحياء لتهز القلب بما ترسم من آفاق الإشراف الشامل والتدبير الواسع والعلم المحيط والقدرة القادرة لله ذي الجلال وكل جانب من هذه الجوانب لا نملك التوسع في الحديث عنه حتى لا نخرج عن منهج الظلال فنجاوزه إذن لنتمشى مع السياق إذ المقصود الأول هنا هو توجيه القلوب والعقول إلى أن وجود هذه الخلائق بهذا النظام وشمولها بهذا التدبير وإحصاءها في علم الله ثم حشرها إلى ربها في نهاية المطاف توجيه القلوب والعقول إلى ما في هذه الحقيقة الهائلة الدائمة من دلائل وأمارات أكبر من الآيات والخوارق التي يراها جيل واحد من الناس وتختم هذه الجولة أو هذه الموجة بتقرير ما وراء الهدى والضلال من مشيئة الله وسنته وما يدلان عليه من فطرة الناس في حالات الهدى وحالات الضلال والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وهو إعادة لتقرير الحقيقة التي مضت في هذه الجولة عن استجابة الذين يسمعون وموت الذين لا يستجيبون ولكن في صورة أخرى ومشهد آخر إن الذين كذبوا بآيات الله هذه المبثوثة في صفحات الوجود وآياته الأخرى المسجلة في صفحات هذا القرآن إنما كذبوا لأن أجهزة الاستقبال فيهم معطلة إنهم صم لا يسمعون بكلم لا يتكلمون غارقون في الظلمات لا يبصرون إنهم كذلك لا من ناحية التكوين الجثماني المادي فإن لهم عيونا وآذانا وأفواها ولكن إدراكهم معطل فكأنما هذه الحواس لا تستقبل ولا تنقل وإنه لكذلك فهذه الآيات تحمل في ذاتها فاعليتها وإيقاعها وتأثيرها لو أنها استقبلت وتلقاها الإدراك وما يعرض عنها معرض إلا وقد فسدت فطرته فلم يعد صالحا لحياة الهدى ولم يعد أهلا لذلك المستوى الراقي من الحياة ووراء ذلك كله مشيئة الله المشيئة الطليقة التي قضت أن يكون هذا الخلق المسمى بالإنسان على هذا الاستعداد المزدوج للهدى والضلال عن اختيار وحكمة لا عن اقتضاء أو إلزام وكذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم بمشيئته تلك التي تعين من يجاهد وتضل من يعاند ولا تظلم أحدا من العباد إن اتجاه الإنسان إلى طلب الهدى أو اتجاهه إلى الضلال كلاهما ينشأ من خلقته التي فطره الله عليها بمشيئته فهذا الاتجاه وذاك مخلوق ابتداء بمشيئة الله والنتائج التي تترتب على هذا الاتجاه وذاك من الاهتداء والضلال إنما ينشئها الله بمشيئته كذلك فالمشيئة فاعلة ومطلقة والحساب والجزاء إنما يقومان على اتجاه الإنسان الذي يملكه وإن كان الاستعداد للاتجاه المزدوج هو في الأصل من مشيئة الله تعقيب على الوحدة طريق الدعوة إلى الله شاق لكن الدعوة تسير بقدر الله والآن بعد الانتهاء من استعراض هذه الموجة من السياق نقف وقفة قصيرة لاستخلاص عبرة التوجيه فيها لكافة أصحاب الدعوة إلى هذا الدين في كل جيل فإن مدى التوجيه فيها يتجاوز المناسبة التاريخية الخاصة وينسحب على جميع الأجيال وجميع الدعاة ويرسم منهجا للدعوة إلى هذا الدين لا يتقيد بالزمان والمكان ونحن لا نملك هنا أن نفصل كل جوانب هذا المنهج فنقف منه إذن عند معالم الطريق إن طريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله وفق علمه وحكمته وهو غيب لا يعلم موعده أحد حتى ولا الرسول والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين من التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر والحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه وعرف طعمه والحماسة للحق والرغبة في استعلانه وهذه الرغبة لا تقل مشقة عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى فكلها من دواعي مشقة الطريق والتوجيه القرآني في هذه الموجه من السياق يعالج هذه المشقة من جانبيها ذلك حين يقرر أن الذين يكذبون بهذا الدين أو يحاربون دعوته يعلمون علم اليقين أن ما يدعون إليه هو الحق وأن الرسول الذي جاء به من عندالله صادق ولكنهم مع هذا العلم لا يستجيبون ويستمرون في جحودهم عنادا وإصرارا لأن لهم هوى في الإعراض والتكذيب وأن هذا الحق يحمل معه دليل صدقه وهو يخاطب الفطرة فتستجيب له متى كانت هذه الفطرة حية وأجهزة الاستقبال فيها صالحة إنما يستجيب الذين يسمعون فأما الذين يجحدون فإن قلوبهم ميتة وهم موتى وهو صم وبكم في الظلمات والرسول لا يسمع الموتى ولا يسمع الصم الدعاء والداعية ليس عليه أن يبعث الموتى فذلك من شأن الله هذا كله من جانب ومن الجانب الآخر فإن نصر الله آت لا ريب فيه كل ما هنالك أنه يجري وفق سنة الله وبقدر الله وكما أن سنة الله لا تستعجل وكلماته لا تتبدل من ناحية مجيء النصر في النهاية فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية الموعد المرسوم والله لا يعجل لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة ولو كانوا هم الرسل فإن استسلام صاحب الدعوة نفسه لقدر الله بلا عجلة وصبره على الأذى بلا تململ ويقينه في العاقبة بلا شك كلها مطلوبة من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم ويحدد هذا التوجيه القرآني دور الرسول في هذا الدين ودور الدعاة بعده في كل جيل إنه التبليغ والمضي في الطريق والصبر على مشاق الطريق أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته والهدى والضلال إنما يتبعان سنة إلهية لا تتبدل ولا يغير منها رغبة الرسول في هداية من يحب كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب إن شخصه لا اعتبار له في هذه القضية وحسابه ليس على عدد المهتدين إنما حسابه على ما أدى وما صبر وما التزم وما استقام كما أمر وأمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ولو شاء الله لجمعهم على الهدى إنما يستجيب الذين يسمعون وقد بينا من قبل علاقة مشيئة الله الطليقة في الهدى والضلال باتجاه الناس وجهادهم بما فيه الكفاية من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجه إليهم الدعوة في تحوير منهج دعوته عن طبيعته الربانية ; ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق وفق مألوف زمانهم ومستوى مداركهم كما حكى عنهم القرآن في مواضع منه شتى منها في هذه السورة وقالوا لولا أنزل عليه ملك وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها وفي السور الأخرى ما هو أشد إثارة للعجب من هذه الاقتراحات ذلك كالذي حكاه عنهم في سورة الإسراء وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجه من السورة نهى رسول الله ص والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية أية آية مما يطلبون وقيل للرسول ص وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عندما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قيل لهم قل إنما الآيات عندالله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب افئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ليعلموا أولاأن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية والدليل على الحق ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون وأنهم موتى وأن الله لم يقسم لهم الهدى وفق سنة الله في الهدى والضلال كما اسلفنا ثم ليعلموا كذلك أن هذا الدين يجري وفق سنة لاتتبدل وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني إنه ليس خاصا بزمن ولا محصورا في حادث ولا مقيدا باقتراح معين فالزمن يتغير وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى وأصحاب الدعوة إلى دين الله ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر إن الرغبة في الاستجابة لمقترحات المقترحين هي التي تقود بعض أصحاب الدعوة الإسلامية اليوم إلى محاولة بلورة العقيدة الإسلامية في صورة نظرية مذهبية على الورق كالذي يجدونه في النظريات المذهبية الأرضية الصغيرة التي يصوغها البشر لفترة من الفترات ; ثم يمضي الزمن فإذا كلها عورات وشطحات ومتناقضات وهي التي تقود بعض أصحاب هذه الدعوة إلى محاولة بلورة النظام الإسلامي في صورة مشروع نظام على الورق أو صورة تشريعات مفصلة على الورق أيضا تواجه ما عليه أهل الجاهلية الحاضرة من أوضاع لا علاقة لها بإلاسلام لأن أهل هذه الجاهلية يقولون إن الإسلام عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام الواقعي للحياة وتنظم لهم هذه الأوضاع ; بينما هم باقون على جاهليتهم يتحاكمون إلى الطاغوت ولا يحكمون أو يتحاكمون إلى شريعة الله وكلها محاولات ذليلة لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة التي لا تثبت على حال باسم تطور وسائل الدعوة إلى الله وأذل من هذه المحاولة محاولة من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات كالاشتراكية والديمقراطية وما إليها ظانين أنهم إنما يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة إن الاشتراكية مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر ; قابل للصواب والخطأ وإن الديمقراطية نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضا والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي الاقتصادي والنظام التنفيذي والتشكيلي وهو من صنع الله المبرأ من النقص والعيب فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله سبحانه عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله سبحانه عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد لقد كان كل شرك المشركين في الجاهلية العربية أنهم يستشفعون عند الله ببعض خلقه يتخذونهم أولياء والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فهذا هو الشرك فما الوصف الذي يطلق إذن على الذين لا يستشفعون لأنفسهم عند الله بأولياء من عبيده ولكنهم ويا للنكر والبشاعة يستشفعون لله سبحانه عند العبيد بمذهب أو منهج من مذاهب العبيد ومناهجهم إن الإسلام هو الإسلام والاشتراكية هي الاشتراكية والديمقراطية هي الديمقراطية ذلك منهج الله ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله الله له والصفة التي وصفه بها وهذه وتلك من مناهج البشر ومن تجارب البشر وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين الله أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلب وهو يحسب أنه يحسن إلى دين الله على أننا نسأل هؤلاء الذين هان عليهم دينهم ولم يقدروا الله حق قدره إذا كنتم تقدمون الإسلام اليوم للناس باسم الاشتراكية وباسم الديمقراطية لأن هذين زيان من أزياء الاتجاهات المعاصرة فلقد كانت الرأسمالية في فترة من الفترات هي الزي المحبوب عند الناس وهم يخرجون بها من النظام الإقطاعي كما كان الحكم المطلق في فترة من الفترات هو الزي المطلوب في فترة التجميع القومي للولايات المتناثرة كما في ألمانيا وإيطاليا أيام بسمرك وماتزيني مثلا وغدا من يدري ماذا يكون الزي الشائع من الأنظمة الاجتماعية الأرضية وأنظمة الحكم التي يضعها العبيد للعبيد فكيف يا ترى ستقولون غدا عن الإسلام لتقدموه للناس في الثوب الذي يحبه الناس إن التوجيه القرآني في هذه الموجة التي نحن بصددها وفي غيرها كذلك يشمل هذا كله إنه يريد أن يستعلي صاحب الدعوة بدينه ; فلا يستجيب لاقتراحات المقترحين ; ولا يحاول تزيين هذا الدين بغير اسمه وعنوانه ; ولا مخاطبة الناس به بغير منهجه ووسيلته إن الله غني عن العالمين ومن لم يستجب لدينه عبودية له وانسلاخا من العبودية لسواه فلا حاجة لهذا الدين به كما أنه لا حاجة لله سبحانه بأحد من الطائعين أو العصاة ثم إنه إذا كان لهذا الدين أصالته من ناحية مقوماته وخصائصه التي يريد الله أن تسود البشرية فإن له كذلك أصالته في منهجه في العمل وفي أسلوبه في خطاب الفطرة البشرية إن الذي نزل هذا الدين بمقوماته وخصائصه وبمنهجه الحركي وأسلوبه هو سبحانه الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وفي هذه الموجة من السورة نموذج من مخاطبته للفطرة الإنسانية نموذج من نماذج متنوعة شتى فهو يربط الفطرة البشرية بالوجود الكوني ويدع الإيقاعات الكونية تواجه الفطرة البشرية ويثير انتباه الكينونة البشرية لتلقي هذه الإيقاعات وهو يعلم أنها تستجيب لها متى بلغتها بعمقها وقوتها إنما يستجيب الذين يسمعون والنموذج الذي يواجهنا في هذه الموجة هو وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون وفي هذه الآية يحكي قول الذين يكذبون ويعارضون ويطلبون خارقة يراها جيلهم وتنتهي ثم يلمس قلوبهم بما يكمن وراء هذا الاقتراح لو أجيب إنه الأخذ والتدمير والله قادر على أن ينزل الآية ولكن رحمته هي التي اقتضت ألا ينزلها وحكمته هي التي اقتضت ألا يستجيب لهم فيها وفجأة ينقلهم من هذا الركن الضيق في التصور والتفكير إلى الكون الواسع إلى الآيات الكبرى من حولهم الآيات التي تتضاءل دونها تلك الآية التي يطلبونها الآيات الباقية في صلب الكون للأجيال كلها من قبلهم ومن بعدهم تراها وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحية إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون وهي حقيقة هائلة هي حقيقة تستطيع ملاحظتهم وحدها حينذاك حيث لم يكن لهم علم منظم أن تشهد بها حقيقة تجمع الحيوان والطير والحشرات من حولهم في أمم لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها كذلك وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر ولكن علمهم لا يزيد شيئا على أصلها وإلى جانبها الحقيقة الغيبية الموصولة بها وهي إحاطة علم الله اللدني بكل شيء وتدبير الله لكل شيء وهي الحقيقة التي تشهد بها تلك الحقيقة المشهودة فأين تذهب الخارقة المادية التي كانوا يطلبون أمام الخارقة الكبرى التي يرونها حيثما امتدت أبصارهم وملاحظتهم وقلوبهم فيما كان وفيما سيكون إن المنهج القرآني في هذا النموذج لا يزيد على أن يربط الفطرة بالوجود وأن يفتح النوافذ بين الوجود والفطرة وأن يدع هذا الوجود الهائل العجيب يوقع إيقاعاته الهائلة العميقة في الكيان الإنساني إنه لا يقدم للفطرة جدلا لاهوتيا ذهنيا نظريا ولا يقدم لها جدلا كلاميا كعلم التوحيد الغريب على المنهج الإسلامي ولا يقدم لها فلسفة عقلية أو حسية إنما يقدم لها هذا الوجود الواقعي بعالميه عالم الغيب وعالم الشهادة ويدعها تتفاعل معه وتتجاوب وتتلقى عنه وتستجيب ولكن في ظل منهج ضابط لا يدعها وهي تتلقى من الوجود تضل في المتاهات والدروب ثم يختم الفقرة بالتعقيب على موقف المكذبين بهذه الآيات الكبرى والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم فيقرر حقيقة حالة المكذبين وطبيعتهم إنهم صم وبكم في الظلمات ويقرر سنة الله في الهدى والضلال إنها تعلق مشيئة الله بهذا أو ذاك وفق الفطرة التي فطر الله عليها العباد بذلك تلتئم جوانب التصور الإسلامي للأمر كله إلى جانب وضوح المنهج في الدعوة وتقرير موقف صاحب الدعوة وهو يتحرك بهذه العقيدة ويواجه النفوس البشرية في كل حال وفي كل جيل ولعل هذه اللمسات إلى جانب ما تقدم في مقدمة السورة عن المنهج يكون فيها ما ينير الطريق وبالله التوفيق

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()