قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ
القول في تأويل قوله تعالى : { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } قال أبو جعفر : يعني بقوله : { قالوا } قال قوم موسى الذين أمروا بذبح البقرة لموسى . فترك ذكر موسى وذكر عائد ذكره اكتفاء بما دل عليه ظاهر الكلام . وذلك أن معنى الكلام : قالوا له : " ادع ربك " , فلم يذكر له لما وصفنا . وقوله : { يبين لنا ما هي } خير من الله عن القوم بجهلة منهم ثالثة , وذلك أنهم لو كانوا إذ أمروا بذبح البقرة ذبحوا أيتها تيسرت مما يقع عليه اسم بقرة كانت عنهم مجزئة , ولم يكن عليهم غيرها , لأنهم لم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة , فلما سألوا بيانها بأي صفة هي , فبين لهم أنها بسن من الأسنان دون سن سائر الأسنان , فقيل لهم : هي عوان بين الفارض والبكر الضرع . فكانوا إذا بينت لهم سنها لو ذبحوا أدنى بقرة بالسن التي بينت لهم كانت عنهم مجزئة , لأنهم لم يكونوا كلفوها بغير السن التي حددت لهم , ولا كانوا حصروا على لون منها دون لون . فلما أبوا إلا أن تكون معرفة لهم بنعوتها مبينة بحدودها التي تفرق بينها وبين سائر بهائم الأرض فشددوا على أنفسهم شدد الله عليهم بكثرة سؤالهم نبيهم واختلافهم عليه , ولذلك قال نبينا لأمته : " ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم , فإذا أمرتكم بشيء فأتوه , وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما أستطعتم " . قال أبو جعفر : ولكن القوم لما زادوا نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم أذى وتعنتا , زادهم الله عقوبة وتشديدا , كما : 1026 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا عثام بن علي , عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال : لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها لكنهم شددوا فشدد الله عليهم . 1027 - حدثنا عمر بن عبد الأعلى , قال : ثنا المعتمر , قال : سمعت أيوب , عن محمد بن سيرين , عن عبيدة قال : لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم . 1028 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر عن أيوب , وحدثني المثنى , قال : ثنا آدم , قال : ثنا أبو جعفر , عن هشام بن حسان جميعا , عن ابن سيرين , عن عبيدة السلماني , قال : سألوا وشددوا فشدد الله عليهم . 1029 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال , أخبرنا ابن عيينة , عن عمرو بن دينار , عن عكرمة , قال : لو أخذ بنو إسرائيل بقرة لأجزأت عنهم , ولولا قولهم : { وإنا إن شاء الله لمهتدون } لما وجدوها . 1030 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : { وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } لو أخذوا بقرة ما كانت لأجزأت عنهم . { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر } قال : لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لأجزأت عنهم . { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين } قال : لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم . { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث } الآية . * - حدثني المثنى بن إبراهيم , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بنحوه , وزاد فيه : ولكنهم شددوا فشدد عليهم . 1031 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثتي حجاج , قال : قال ابن جريج , قال مجاهد : لو أخذوا بقرة ما كانت أجزأت عنهم . قال ابن جريج : قال لي عطاء : لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم . قال ابن جريج : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شدوا على أنفسهم شدد الله عليهم وايم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد " . 1032 - حدثني المثنى , قال : ثنا آدم , قال : ثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية , قال : لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها , ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم , ولولا أن القوم استثنوا فقالوا : { وإنا إن شاء الله لمهتدون } لما هدوا إليها أبدا . 1033 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إنما أمر القوم بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد عليهم , والذي نفس محمد بيده لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد " . * - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره , عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , قال : لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم . * حدثنا أبو كريب قال : قال أبو بكر بن عياش , قال ابن عباس : لو أن القوم نظروا أدنى بقرة , يعني بني إسرائيل لأجزأت عنهم , ولكن شددوا فشدد عليهم , فاشتروها بملء جلدها دنانير . 1034 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : لو أخذوا بقرة كما أمرهم الله كفاهم ذلك , ولكن البلاء في هذه المسائل , ف { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } فشدد عليهم , فقال : { إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك } , { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين } قال : وشدد عليهم أشد من الأول فقرأ حتى بلغ : { مسلمة لا شية فيها } فأبوا أيضا . { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون } فشدد عليهم ف { قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها } . قال : فاضطروا إلى بقرة لا يعلم على صفتها غيرها , وهي صفراء , ليس فيها سواد ولا بياض . قال أبو جعفر : وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه من الصحابة والتابعين والخالفين بعدهم من قولهم : إن بني إسرائيل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم , من أوضح الدلالة على أن القوم كانوا يرون أن حكم الله فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على العموم الظاهر دون الخصوص الباطن , إلا أن يخص , بعض ما عمه ظاهر التنزيل كتاب من الله أو رسول الله , وأن التنزيل أو الرسول إن خص بعض ما عمه ظاهر التنزيل بحكم خلاف ما دل عليه الظاهر , فالمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التي عمت ذلك الجنس خاصة , وسائر حكم الآية على العموم , على نحو ما قد بيناه في كتابنا كتاب " الرسالة من لطيف القول في البيان عن أصول الأحكام " في قولنا في العموم والخصوص , وموافقة قولهم في ذلك قولنا , ومذهبهم مذهبنا , وتخطئتهم قول القائلين بالخصوص في الأحكام , وشهادتهم على فساد قول من قال : حكم الآية الجائية مجيء العموم على العموم ما لم يختص منها بعض ما عمته الآية , فإن خص منها بعض , فحكم الآية حينئذ على الخصوص فيما خص منها , وسائر ذلك على العموم . وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفا ممن عاب على بني إسرائيل مسألتهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن صفة البقرة التي أمروا بذبحها وسنها وحليتها , رأوا أنهم كانوا في مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مخطئين , وأنهم لو كانوا استعرضوا أدنى بقرة من البقر إذ أمروا بذبحها بقوله : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } فذبحوها كانوا للواجب عليهم من أمر الله في ذلك مؤدين وللحق مطيعين , إذ لم يكن القوم حصروا على نوع من البقر دون نوع , وسن دون سن ورأوا مع ذلك أنهم إذا سألوا موسى عن سنها , فأخبرهم عنها وحصرهم منها على سن دون سن , ونوع دون نوع , وخص من جميع أنواع البقر نوعا منها , كانوا في مسألتهم إياه في المسألة الثانية بعد الذي خص لهم من أنوع البقر من الخطأ على مثل الذي كانوا عليه من الخطأ في مسألتهم إياه المسألة الأولى . وكذلك رأوا أنهم في المسألة الثالثة على مثل الذي كانوا عليه من ذلك في الأولى والثانية , وأن اللازم كان لهم في الحالة الأولى استعمال ظاهر الأمر وذبح أي بهيمة شاءوا مما وقع عليها اسم بقرة . وكذلك رأوا أن اللازم كان لهم في الحال الثانية استعمال ظاهر الأمر , وذبح أي بهيمة شاءوا مما وقع عليها اسم بقرة عوان لا فارض ولا بكر . ولم يروا أن حكمهم إذ خص لهم بعض البقر دون البعض في الحالة الثانية انتقل عن اللازم الذي كان لهم في الحالة الأولى من استعمال ظاهر الأمر إلى الخصوص , ففي إجماع جميعهم على ما روينا عنهم من ذلك مع الرواية التي رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموافقة لقولهم دليل واضح على صحة قولنا في العموم والخصوص , وأن أحكام الله جل ثناؤه في آي كتابه فيما أمر ونهى على العموم ما لم يخص ذلك ما يجب التسليم له , وأنه إذا خص منه شيء فالمخصوص منه خارج حكمه من حكم الآية العامة الظاهر , وسائر حكم الآية على ظاهرها العام , ويؤيد حقيقة ما قلنا في ذلك , وشاهد عدل على فساد قول من خالف قولنا فيه . وقد زعم بعض من عظمت جهالته واشتدت حيرته , أن القوم إنما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر ; لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك , كما خصت عصا موسى في معناها , فسألوه أن يحليها لهم ليعرفوها . ولو كان الجاهل تدبر قوله هذا , لسهل عليه ما استصعب من القول ; وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبيهم ما سألوه تشددا منهم في دينهم , ثم أضاف إليهم من الأمر ما هو أعظم مما استنكره أن يكون كان منهم , فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله عليهم فرضا ويتعبدهم بعبادة , ثم لا يبين لهم ما يفرض عليهم ويتعبدهم به حتى يسألوا بيان ذلك لهم . فأضاف إلى الله تعالى ذكره ما لا يجوز إضافته إليه , ونسب القوم من الجهل إلى ما لا ينسب المجانين إليه , فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض عليهم الفرائض . فنعوذ بالله من الحيرة , ونسأله التوفيق والهداية .
إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا
وأما قوله : { إن البقر تشابه علينا } فإن البقر جماع بقرة . وقد قرأ بعضهم : { إن الباقر } وذلك وإن كان في الكلام جائزا لمجيئه في كلام العرب وأشعارها , كما قال ميمون بن قيس :
وما ذنبه إن عافت الماء باقر
وما إن تعاف الماء إلا ليضربا
وكما قال أمية :
ويسوقون باقر الطود للسه
ل مهازيل خشية أن تبورا
فغير جائزة القراءة به لمخالفته القراءة الجائية مجيء الحجة بنقل من لا يجوز عليه فما نقلوه مجمعين عليه الخطأ والسهو والكذب . وأما تأويل : { تشابه علينا } فإنه يعني به : التبس علينا . والقراء مختلفة في تلاوته , فبعضهم كانوا يتلونه : تشابه علينا , بتخفيف الشيء ونصب الهاء على مثال تفاعل , ويذكر الفعل وإن كان البقر جماعا , لأن من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وحدانه بالهاء وجمعه بطرح الهاء وتأنيثه كما قال الله تعالى في نظيره في التذكير : { كأنهم أعجاز نخل منقعر } 54 20 فذكر المنقعر وهو من صفة النخل لتذكير لفظ النخل , وقال في موضع آخر { كأنهم أعجاز نخل خاوية } 69 7 فأنث الخاوية وهي من صفة النخل بمعنى النخل ; لأنها وإن كانت في لفظ الواحد المذكر على ما وصفنا قبل فهي جماع نخلة . وكان بعضهم يتلوه : { إن البقر تشابه علينا } بتشديد الشين وضم الهاء , فيؤنث الفعل بمعنى تأنيث البقر , كما قال : { أعجاز نخل خاوية } ويدخل في أول تشابه تاء تدل على تأنيثها , ثم تدغم التاء الثانية في شين تشابه لتقارب مخرجها ومخرج الشين فتصير شيئا مشددة وترفع الهاء بالاستقبال والسلام من الجوازم والنواصب . وكان بعضهم يتلوه : { إن البقر يشابه علينا } فيخرج يشابه مخرج الخبر عن الذكر لما ذكرنا من العلة في قراءة من قرأ ذلك : { تشابه } بالتخفيف , ونصب الهاء , غير أنه كان يرفعه بالياء التي يحدثها في أول تشابه التي تأتي بمعنى الاستقبال , وتدغم التاء في الشين كما فعله القارئ في تشابه بالتاء والتشديد . والصواب في ذلك من القراءة عندنا : { إن البقر تشابه علينا } بتخفيف شين تشابه ونصب هائه , بمعنى تفاعل . لإجماع الحجة من القراء على تصويب ذلك ورفعهم ما سواه من القراءات , ولا يعترض على الحجة بقول من يجوز عليه فيما نقل السهو والغفلة والخطأ .
وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
وأما قوله : { وإنا إن شاء الله لمهتدون } فإنهم عنوا : وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها . ومعنى اهتدائهم في هذا الموضع معنى تبينهم أي ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر .