قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
القول في تأويل قوله تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام } يعني بذلك جل ثناؤه : قد نرى يا محمد نحن تقلب وجهك في السماء . ويعني بالتقلب : التحول والتصرف . ويعني بقوله : { في السماء } نحو السماء وقبلها . وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا , لأنه كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة . كما : 1844 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } قال : كان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء يحب أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة حتى صرفه الله إليها . * حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : حدثنا سعيد , عن قتادة قوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس , يهوى ويشتهي القبلة نحو البيت الحرام , فوجهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها . 1845 - حدثنا المثنى , قال : حدثني إسحاق , قال : حدثني ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } يقول نظرك في السماء . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس , وكان يهوى قبلة البيت الحرام , فولاه الله قبلة كان يهواها . 1846 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : كان الناس يصلون قبل بيت المقدس , فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره , كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر , وكان يصلي قبل بيت المقدس . فنسختها الكعبة . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يصلي قبل الكعبة فأنزل الله جل ثناؤه : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } الآية ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان يهوى قبلة الكعبة . قال بعضهم : كره قبلة بيت المقدس , من أجل أن اليهود قالوا . يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا . ذكر من قال ذلك : 1847 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , قال : قالت اليهود : يخالفنا محمد , ويتبع قبلتنا ! فكان يدعو الله جل ثناؤه , ويستفرض للقبلة , فنزلت : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام } وانقطع قول يهود : يخالفنا ويتبع قبلتنا ! في صلاة الظهر . فجعل الرجال مكان النساء , والنساء مكان الرجال . 1848 - حدثني يونس , قال , أخبرنا ابن وهب , قال : سمعته , يعني ابن زيد يقول : قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم . { فأينما تولوا فثم وجه الله } قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله " لبيت المقدس " ولو أنا استقبلناه " , فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا , فبلغه أن يهود تقول . والله ما درى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم . فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم , ورفع وجهه إلى السماء , فقال الله جل ثناؤه : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام } الآية . وقال آخرون : بل كان يهوى ذلك من أجل أنه كان قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام . ذكر من قال ذلك : 1849 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثنا معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس , ففرحت اليهود , فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم , فكان يدعو وينظر إلى السماء , فأنزل الله عز وجل : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } الآية . فأما قوله : { فلنولينك قبلة ترضاها } فإنه يعني : فلأصرفنك عن بيت المقدس إلى قبلة ترضاها , تهواها وتحبها . وأما قوله : { فول وجهك } يعني اصرف وجهك وحوله . وقوله : { شطر المسجد الحرام } يعني بالشطر : النحو والقصد والتلقاء , كما قال الهذلي :
إن العسير بها داء مخامرها
فشطرها نظر العينين محسور
يعني بقوله شطرها : نحوها . وكما قال ابن أحمر :
تعدو بنا شطر جمع وهي عاقدة
قد كارب العقد من إيفادها الحقبا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 1850 - حدثني سفيان بن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن داود بن أبي هند , عن ابن أبي العالية : { شطر المسجد الحرام } يعني تلقاءه . 1851 - وحدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { شطر المسجد الحرام } نحوه . 1852 - حدثنا محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } نحوه . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . 1853 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } أي تلقاء المسجد الحرام . * - حدثنا الحسين بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } قال : نحو المسجد الحرام . 1854 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } أي تلقاءه . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , قال : قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال : شطره : نحوه . 1855 - حدثني المثنى , قال : ثنا الحماني , قال : ثنا شريك , عن أبي إسحاق , عن البراء : { فولوا وجوهكم شطره } قال : قبله . 1856 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : { شطره } ناحيته جانبه , قال : وجوانبه : شطوره . ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه من المسجد الحرام . فقال بعضهم : القبلة التي حول إليها النبي صلى الله عليه وسلم وعناها الله تعالى ذكره بقوله : { فلنولينك قبلة ترضاها } حيال ميزاب الكعبة . ذكر من قال ذلك : 1857 - حدثني عبد الله بن أبي زياد , قال : ثنا عثمان , قال : أنا شعبة , عن يعلى بن عطاء , عن يحيى بن قمطة , عن عبد الله بن عمرو : { فلنولينك قبلة ترضاها } حيال ميزاب الكعبة . 1858 - وحدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : ثنا هشيم , عن يعلى بن عطاء , عن يحيى بن قمطة , قال : رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب , وتلا هذه الآية : { فلنولينك قبلة ترضاها } قال : هذه القبلة هي هذه القبلة . 1859 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثنا هشيم بإسناده عن عبد الله بن عمرو نحوه , إلا أنه قال : استقبل الميزاب فقال : هذا القبلة التي قال الله لنبيه : { فلنولينك قبلة ترضاها } . وقال آخرون : بل ذلك البيت كله قبلة , وقبلة البيت الباب . ذكر من قال ذلك : 1860 - حدثني يعقوب , قال : ثنا ابن علية , عن عطاء بن السائب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , : البيت كله قبلة , وهذه قبلة البيت , يعني التي فيها الباب . والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } فالمولي وجهه شطر المسجد الحرام هو المصيب القبلة . وإنما على من توجه إليه النية بقلبه أنه إليه متوجه , كما أن على من ائتم بإمام فإنما عليه الائتمام به وإن لم يكن محاذيا بدنه بدنه , وإن كان في طرف الصف والإمام في طرف آخر عن يمينه أو عن يساره , بعد أن يكون من خلفه مؤتما به مصليا إلى الوجه الذي يصلي إليه الإمام . فكذلك حكم القبلة , وإن لم يكن يحاذيها كل مصل ومتوجه إليها ببدنه غير أنه متوجه إليها , فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلها فهو مستقبلها بعد ما بينه وبينها , أو قرب من عن يمينها أو عن يسارها بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووجهه . كما : 1861 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : ثنا أبو أحمد الزبيري , قال : أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عميرة بن زياد الكندي , عن علي : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } قال : شطره قبله قال أبو جعفر : وقبلة البيت : بابه . كما : 1862 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , والفضل بن الصباح , قالا : ثنا هشيم , قال : أخبرنا عبد الملك , عن عطاء قال : قال أسامة بن زيد : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب فقال : " هذه القبلة , هذه القبلة " 1863 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا : ثنا جرير , عن عبد الملك بن أبي سليمان , عن عطاء , قال : حدثني أسامة بن زيد , قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت , فصلى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة , فقال : " هذه القبلة " مرتين . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا عبد الرحيم بن سليمان , عن عبد الملك , عن عطاء , عن أسامة بن زيد , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه . 1864 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي , قال : ثنا أبي , قال : ثنا ابن جريج , قال : قلت لعطاء : سمعت ابن عباس يقول : إنما أمرتم بالطواف , ولم تؤمروا بدخوله . قال : لم يكن ينهى عن دخوله , ولكني سمعته يقول : أخبرني أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها , ولم يصل حتى خرج , فلما خرج ركع في قبل القبلة ركعتين وقال : " هذه القبلة " قال أبو جعفر : فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت هو القبلة , وأن قبلة البيت بابه .
وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
القول في تأويل قوله تعالى : { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } يعني جل ثناؤه بذلك : فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحولوا وجوهكم في صلاتكم نحو المسجد الحرام وتلقاءه . والهاء التي في " شطره " عائدة إلى المسجد الحرام . فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى . وأدخلت الفاء في قوله : { فولوا } جوابا للجزاء , وذلك أن قوله : { حيثما كنتم } جزاء , ومعناه : حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره .
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } يعني بقوله جل ثناؤه : وإن الذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وعلماء النصارى . وقد قيل إنما عنى بذلك اليهود خاصة . ذكر من قال ذلك : 1865 - حدثنا موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { وإن الذين أوتوا الكتاب } أنزل ذلك في اليهود . وقوله : { ليعلمون أنه الحق من ربهم } يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب , يعلمون أن التوجه نحو المسجد الحق الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده . ويعني بقوله : { من ربهم } أنه الفرض الواجب على عباد الله تعالى ذكره , وهو الحق من عند ربهم فرضه عليهم .
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
القول في تأويل قوله تعالى : { وما الله بغافل عما تعملون } يعني بذلك تبارك وتعالى : وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون في اتباعكم أمره وانتهائكم إلى طاعته فيما ألزمكم من فرائضه وإيمانكم به في صلاتكم نحو بيت المقدس ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر المسجد الحرام , ولا هو ساه عنه , ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدخره لكم عنده حتى يجازيكم به أحسن جزاء , ويثيبكم عليه أفضل ثواب .