وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
القول في تأويل قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } يعني تعالى ذكره بذلك : ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل . فحمل تعالى ذكره بذلك أكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل , ونظير ذلك قوله تعالى : { ولا تلمزوا أنفسكم } 49 11 وقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } 4 29 بمعنى : لا يلمز بعضكم بعضا , ولا يقتل بعضكم بعضا ; لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة , فقاتل أخيه كقاتل نفسه , ولامزه كلامز نفسه , وكذلك تفعل العرب تكني عن أنفسها بأخواتها , وعن أخواتها بأنفسها , فتقول : أخي وأخوك أينا أبطش , تعني أنا وأنت نصطرع فننظر أينا أشد , فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه , لأن أخا الرجل عندها كنفسه ; ومن ذلك قول الشاعر :
أخي وأخوك ببطن النسير
ليس لنا من معد عريب
فتأويل الكلام : ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل , وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه . وأما قوله : { وتدلوا بها إلى الحكام } فإنه يعني : وتخاصموا بها , يعني بأموالكم إلى الحكام لتأكلوا فريقا , طائفة من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون . ويعني بقوله : { بالإثم } بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم , { وأنتم تعلمون } أي وأنتم تتعمدون أكل ذلك بالإثم على قصد منكم إلى ما حرم الله عليكم منه , ومعرفة بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم . كما : 2503 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام } فهذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة فيجحد المال فيخاصمهم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه , وهو يعلم أنه آثم آكل حراما . 2504 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : { وتدلوا بها إلى الحكام } قال : لا تخاصم وأنت ظالم . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . 2505 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام } وكان يقال : من مشى مع خصمه وهو له ظالم فهو آثم حتى يرجع إلى الحق . واعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما ولا يحق لك باطلا , وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشهود , والقاضي بشر يخطئ ويصيب . واعلموا أنه من قد قضي له بالباطل , فإن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة , فيقضي على المبطل للمحق , ويأخذ مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا . 2506 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { وتدلوا بها إلى الحكام } قال : لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم , فإن قضاءه لا يحل لك شيئا كان حراما عليك . 2507 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } أما الباطل , يقول : يظلم الرجل منكم صاحبه , ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم , فذلك قوله : { وتدلوا بها إلى الحكام } 2508 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني خالد الواسطي , عن داود بن أبي هند , عن عكرمة قوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } قال : هو الرجل يشتري السلعة فيردها ويرد معها دراهم . 2509 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام } يقول : يكون أجدل منه وأعرف بالحجة , فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل . وقرأ : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } 4 29 قال : هذا القمار الذي كان يعمل به أهل الجاهلية . وأصل الإدلاء : إرسال الرجل الدلو في سبب متعلقا به في البئر , فقيل للمحتج بدعواه أدلى بحجة كيت وكيت إذ كان حجته التي يحتج بها سببا له هو به متعلق في خصومته كتعلق المستقي من بئر بدلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة , يقال فيهما جميعا , أعني من الاحتجاج , ومن إرسال الدلو في البئر بسبب : أدلى فلان بحجته فهو يدلي بها إدلاء , وأدلى دلوه في البئر فهو يدليها إدلاء . فأما قوله : { وتدلوا بها إلى الحكام } فإن فيه وجهين من الإعراب , أحدهما : أن يكون قوله : { وتدلوا } جزما عطفا على قوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي ولا تدلوا بها إلى الحكام , وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بتكرير حرف النهي , ولا تدلوا بها إلى الحكام . والآخر منهما النصب على الظرف , فيكون معناه حينئذ : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وأنتم تدلون بها إلى الحكام , كما قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
يعني : لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله , وهو أن يكون في موضع جزم على ما ذكر في قراءة أبي أحسن منه أن يكون نصبا .