هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ
القول في تأويل قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } يعني بذلك جل ثناؤه : هل ينظر المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به , إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة . ثم اختلفت القراء في قراءة قوله { والملائكة } . فقرأ بعضهم : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } بالرفع عطفا بالملائكة على اسم الله تبارك وتعالى , على معنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام . ذكر من قال ذلك : 3204 - حدثني أحمد بن يوسف عن أبي عبيد القاسم بن سلام , قال : ثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي , عن أبيه , عن الربيع بن أنس , عن أبي العالية قال : في قراءة أبي بن كعب : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام " قال : تأتي الملائكة في ظلل من الغمام , ويأتي الله عز وجل فيما شاء . 3205 - وقد حدثت هذا الحديث عن عمار بن الحسن , عن عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } الآية . وقال أبو جعفر الرازي : وهي في بعض القراءة : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام " , كقوله : { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } 25 25 وقرأ ذلك آخرون : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " بالخفض عطفا بالملائكة على الظلل ; بمعنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة . وكذلك اختلفت القراء في قراءة " ظلل " , فقرأها بعضهم : " في ظلل " , وبعضهم : " في ظلال " . فمن قرأها " في ظلل " , فإنه وجهها إلى أنها جمع ظل , والظلة تجمع ظلل وظلال , كما تجمع الخلة خلل وخلال , والجلة جلل وجلال . وأما الذي قرأها في ظلال فإنه جعلها جمع ظلة , كما ذكرنا من جمعهم الخلة خلال . وقد يحتمل أن يكون قارئه كذلك وجهه إلى أن ذلك جمع ظل , لأن الظلة والظل قد يجمعان جميعا ظلالا . والصواب من القراءة في ذلك عندي { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } لخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفا " فدل بقوله طاقات على أنها ظلل لا ظلال , لأن واحد الظلل ظلة , وهي الطاق . واتباعا لخط المصحف . وكذلك الواجب في كل ما اتفقت معانيه واختلفت في قراءته القراء ولم يكن على إحدى القراءتين دلالة تنفصل بها من الأخرى غير اختلاف خط المصحف , فالذي ينبغي أن تؤثر قراءته منها ما وافق رسم المصحف . وأما الذي هو أولى القراءتين في : { والملائكة } فالصواب بالرفع عطفا بها على اسم الله تبارك وتعالى على معنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام , وإلا أن تأتيهم الملائكة ; على ما روي عن أبي بن كعب , لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في غير موضع من كتابه أن الملائكة تأتيهم , فقال جل ثناؤه : { وجاء ربك والملك صفا صفا } 89 22 وقال : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } 6 158 فإن أشكل على امرئ قول الله جل ثناؤه : { والملك صفا صفا } فظن أنه مخالف معناه معنى قوله { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } إذ كان قوله " والملائكة " في هذه الآية بلفظ جمع , وفي الأخرى بلفظ الواحد . فإن ذلك خطأ من الظان , وذلك أن الملك في قوله : { وجاء ربك والملك } بمعنى الجميع , ومعنى الملائكة , والعرب تذكر الواحد بمعنى الجميع , فتقول : فلان كثير الدرهم والدينار , يراد به الدراهم والدنانير , وهلك البعير والشاة بمعنى جماعة الإبل والشاء , فكذلك قوله : { والملك } بمعنى الملائكة . ثم اختلف أهل التأويل في قوله : { ظلل من الغمام } وهل هو من صلة فعل الله جل ثناؤه , أو من صلة فعل الملائكة , ومن الذي يأتي فيها ؟ فقال بعضهم : هو من صلة فعل الله , ومعناه : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام , وأن تأتيهم الملائكة . ذكر من قال ذلك : 3206 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله عز وجل : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } قال : هو غير السحاب لم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا , وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة . 3207 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } قال : يأتيهم الله وتأتيهم الملائكة عند الموت . 3208 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قال عكرمة في قوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } قال : طاقات من الغمام والملائكة حوله . قال ابن جريج وقال غيره : والملائكة بالموت . وقول عكرمة هذا وإن كان موافقا قول من قال : إن قوله في ظلل من الغمام من صلة فعل الرب تبارك وتعالى الذي قد تقدم ذكرناه , فإنه له : مخالف في صفة الملائكة ; وذلك أن الواجب من القراءة على تأويل قول عكرمة هذا في الملائكة الخفض , لأنه تأول الآية : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة , لأنه زعم أن الله تعالى يأتي في ظلل من الغمام والملائكة حوله . هذا إن كان وجه قوله والملائكة حوله , إلى أنهم حول الغمام , وجعل الهاء في حوله من ذكر الغمام ; وإن كان وجه قوله : والملائكة حوله إلى أنهم حول الرب تبارك وتعالى , وجعل الهاء في حوله من ذكر الرب عز جل , فقوله نظير قول الآخرين الذين قد ذكرنا قولهم غير مخالفهم في ذلك . وقال آخرون : بل قوله { في ظلل من الغمام } من صلة فعل الملائكة , وإنما تأتي الملائكة فيها , وأما الرب تعالى ذكره فإنه يأتي فيما شاء . ذكر من قال ذلك : 3209 - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } . . . الآية , قال : ذلك يوم القيامة , تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام . قال : الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام , والرب تعالى يجيء فيما شاء . وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من وجه قوله : { في ظلل من الغمام } إلى أنه من صلة فعل الرب عز وجل , وأن معناه : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام , وتأتيهم الملائكة . كما : 3210 - حدثنا به محمد بن حميد , قال : ثنا إبراهيم بن المختار , عن ابن جريج , عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام , عن عكرمة , عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفا " وذلك قوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر } وأما معنى قوله : { هل ينظرون } فإنه ما ينظرون , وقد بينا ذلك بعلله فيما مضى من كتابنا هذا قبل . ثم اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } فقال بعضهم : لا صفة لذلك غير الذي وصف به نفسه عز وجل من المجيء والإتيان والنزول , وغير جائز تكلف القول في ذلك لأحد إلا بخبر من الله جل جلاله , أو من رسول مرسل . فأما القول في صفات الله وأسمائه , فغير جائز لأحد من جهة الاستخراج إلا بما ذكرنا . وقال آخرون : إتيانه عز وجل نظير ما يعرف من مجيء الجائي من موضع إلى موضع وانتقاله من مكان إلى مكان . وقال آخرون : معنى قوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } يعني به : هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمر الله , كما يقال : قد خشينا أن يأتينا بنو أمية , يراد به حكمهم . وقال آخرون : بل معنى ذلك : هل ينظرون إلا أن يأتيهم ثوابه وحسابه وعذابه , كما قال عز وجل : { بل مكر الليل والنهار } 34 33 وكما يقال : قطع الوالي اللص أو ضربه , وإنما قطعه أعوانه . وقد بينا معنى الغمام فيما مضى من كتابنا هذا قبل فأغنى ذلك عن تكريره , لأن معناه ههنا هو معناه هنالك . فمعنى الكلام إذا : هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة والمتبعون خطوات الشيطان إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام , فيقضي في أمرهم ما هو قاض . 3211 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي , عن إسماعيل بن رافع المديني , عن يزيد بن أبي زياد , عن رجل من الأنصار , عن محمد بن كعب القرظي , عن أبي هريرة , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " توقفون موقفا واحدا يوم القيامة مقدار سبعين عاما لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم , قد حصر لكم فتبكون حتى ينقطع الدمع , ثم تدمعون دما , وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان , أو يلجمكم فتصيحون , ثم تقولون : من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا ؟ فيقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم ؟ جبل الله تربته , وخلقه بيده , ونفخ فيه من روحه , وكلمه قبلا , فيؤتى آدم , فيطلب ذلك الله , فيأبى , ثم يستقرئون الأنبياء نبيا نبيا , كلما جاءوا نبيا أبى " , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حتى يأتوني , فإذا جاءوني خرجت حتى آتي الفحص " , قال أبو هريرة : يا رسول الله : وما الفحص ؟ قال : " قدام العرش , فأخر ساجدا , فلا أزال ساجدا حتى يبعث الله إلي ملكا , فيأخذ بعضدي فيرفعني , ثم يقول الله لي : يا محمد ! فأقول : نعم وهو أعلم , فيقول : ما شأنك ؟ فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة , فشفعني في خلقك فاقض بينهم ! فيقول : قد شفعتك , أنا آتيكم فأقضي بينكم " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأنصرف حتى أقف مع الناس , فبينا نحن وقوف سمعنا حسا من السماء شديدا , فهالنا , فنزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهن , وأخذوا مصافهم , فقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا وهو آت ثم نزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة , وبمثلي من فيها من الجن والإنس , حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم , وأخذوا مصافهم , فقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا وهو آت . ثم نزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة , وبمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم , وأخذوا مصافهم , فقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا وهو آت , ثم نزل أهل السموات على عدد ذلك من التضعيف حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة ولهم زجل من تسبيحهم يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت , سبحان رب العرش ذي الجبروت , سبحان الحي الذي لا يموت , سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت , سبوح قدوس , رب الملائكة والروح , قدوس قدوس , سبحان ربنا الأعلى , سبحان ذي السلطان والعظمة , سبحانه أبدا أبدا , فينزل تبارك وتعالى يحمل عرشه يومئذ ثمانية , وهم اليوم أربعا , أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والسموات إلى حجزهم , والعرش على مناكبهم , فوضع الله عز وجل عرشه حيث شاء من الأرض . ثم ينادي مناد نداء يسمع الخلائق , فيقول : يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا , أسمع كلامكم , وأبصر أعمالكم , فأنصتوا إلي , فإنما هو صحفكم وأعمالكم تقرأ عليكم , فمن وجد خيرا فليحمد الله , ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه , فيقضي الله عز وجل بين خلقه الجن والإنس والبهائم , فإنه ليقتص يومئذ للجماء من ذات القرن " . وهذا الخبر يدل على خطأ قول قتادة في تأويله قوله : { والملائكة } أنه يعني به : الملائكة تأتيهم عند الموت , لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنهم يأتونهم بعد قيام الساعة في موقف الحساب حين تشقق السماء . وبمثل ذلك روي الخبر عن جماعة من الصحابة والتابعين كرهنا إطالة الكتاب بذكرهم وذكر ما قالوا في ذلك . ويوضح أيضا صحة ما اخترنا في قراءة قوله : { والملائكة } بالرفع على معنى : وتأتيهم الملائكة , ويبين عن خطأ قراءة من قرأ ذلك بالخفض ; لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تأتي أهل القيامة في موقفهم حين تفطر السماء قبل أن يأتيهم ربهم في ظلل من الغمام , إلا أن يكون قارئ ذلك ذهب إلى أنه عز وجل عنى بقوله ذلك : إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام , وفي الملائكة الذين يأتون أهل الموقف حين يأتيهم الله في ظلل من الغمام فيكون ذلك وجها من التأويل وإن كان بعيدا من قول أهل العلم ودلالة الكتاب وآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة .
وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
القول في تأويل قوله تعالى : { وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور } يعني جل ثناؤه بذلك : وفصل القضاء بالعدل بين الخلق , على ما ذكرناه قبل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من أخذ الحق لكل مظلوم من كل ظالم , حتى القصاص للجماء من القرناء من البهائم " . وأما قوله : { وإلى الله ترجع الأمور } فإنه يعني : وإلى الله يئول القضاء بين خلقه يوم القيامة والحكم بينهم في أمورهم التي جرت في الدنيا من ظلم بعضهم بعضا , واعتداء المعتدي منهم حدود الله , وخلاف أمره , وإحسان المحسن منهم , وطاعته إياه فيما أمره به , فيفصل بين المتظالمين , ويجازي أهل الإحسان بالإحسان , وأهل الإساءة بما رأى , ويتفضل على من لم يكن منهم كافرا فيعفو ; ولذلك قال جل ثناؤه : { وإلى الله ترجع الأمور } وإن كانت أمور الدنيا كلها والآخرة من عنده مبدؤها وإليه مصيرها , إذ كان خلقه في الدنيا يتظالمون , ويلي النظر بينهم أحيانا في الدنيا بعض خلقه , فيحكم بينهم بعض عبيده , فيجور بعض , ويعدل بعض , ويصيب واحد , ويخطئ واحد , ويمكن من تنفيذ الحكم على بعض , ويتعذر ذلك على بعض لمنعة جانبه وغلبته بالقوة . فأعلم عباده تعالى ذكره أن مرجع جميع ذلك إليه في موقف القيامة , فينصف كلا من كل , ويجازي حق الجزاء كلا , حيث لا ظلم ولا ممتنع من نفوذ حكمه عليه , وحيث يستوي الضعيف والقوي , والفقير والغني , ويضمحل الظلم وينزل سلطان العدل . وإنما أدخل جل وعز الألف واللام في الأمور لأنه جل ثناؤه عنى بها جميع الأمور , ولم يعن بها بعضا دون بعض , فكان ذلك بمعنى قول القائل : يعجبني العسل , والبغل أقوى من الحمار , فيدخل فيه الألف واللام , لأنه لم يقصد به قصد بعض دون بعض , إنما يراد به العموم والجمع .