وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
القول في تأويل قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } اختلف أهل التأويل في هذه الآية : هل نزلت مرادا بها كل مشركة , أم مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض ؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : نزلت مرادا بها تحريم نكاح كل مشركة على كل مسلم من أي أجناس الشرك كانت عابدة وثن أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك , ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } إلى . { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } 5 4 : 5 . ذكر من قال ذلك : 3368 - حدثني علي بن واقد , قال : ثني عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال : { والمؤمنات من الذين أوتوا الكتاب } حل لكم { إذا آتيتموهن أجورهن } 5 5 . 3369 - حدثنا محمد بن حميد , قال : ثنا يحيى بن واضح , عن الحسين بن واقد , عن يزيد النحوي , عن عكرمة والحسن البصري , قالا : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } فنسخ من ذلك نساء أهل الكتاب أحلهن للمسلمين . 3370 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } قال : نساء أهل مكة ومن سواهن من المشركين , ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , مثله . 3371 - حدثنا عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله : { ولا تنكحوا المشركات } إلى قوله : { لعلهم يتذكرون } قال : حرم الله المشركات في هذه الآية , ثم أنزل في سورة المائدة , فاستثنى نساء أهل الكتاب , فقال : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن } 5 5 . وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية مرادا بحكمها مشركات العرب لم ينسخ منها شيء ولم يستثن , إنما هي آية عام ظاهرها خاص تأويلها . ذكر من قال ذلك : 3372 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه . 3373 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبر معمر , عن قتادة قوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } قال : المشركات من ليس من أهل الكتاب ; وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية . * - حدثت عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن قتادة في قوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه . 3374 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا وكيع , عن سفيان , عن حماد , عن سعيد بن جبير قوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } قال : مشركات أهل الأوثان . وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية مرادا بها كل مشركة من أي أصناف الشرك كانت غير مخصوص منها مشركة دون مشركة , وثنية كانت أو مجوسية أو كتابية , ولا نسخ منها شيء . ذكر من قال ذلك : 3375 - حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني , قال : ثنا أبي , قال : ثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري , قال : ثنا شهر بن حوشب , قال : سمعت عبد الله بن عباس , يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات , وحرم كل ذات دين غير الإسلام , وقال الله تعالى ذكره : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } . 5 5 وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية , ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبا شديدا حتى هم بأن يسطو عليهما , فقالا : نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب , فقال : لئن حل طلاقهن , لقد حل نكاحهن , ولكن أنتزعهن منكم صغرة قماء . وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات , وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها لم ينسخ منها شيء , وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها . وذلك أن الله تعالى ذكره أحل بقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } للمؤمنين من نكاح محصناتهن , مثل الذي أباح لهم من نساء المؤمنات . وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا , وفي كتابنا " كتاب اللطيف من البيان " أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيا حكم الآخر في فطرة العقل , فغير جائز أن يقضي على أحدهما بأنه ناسخ حكم الآخر إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مجيئه , وذلك غير موجود أن قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } 5 5 ناسخ ما كان قد وجب تحريمه من النساء بقوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } . فإن لم يكن ذلك موجودا كذلك , فقول القائل : " هذه ناسخة هذه " دعوى لا برهان له عليها , والمدعي دعوى لا برهان له عليها متحكم , والتحكم لا يعجز عنه أحد . وأما القول الذي روي عن شهر بن حوشب , عن ابن عباس , عن عمر رضي الله عنه من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين , فقول لا معنى له لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب الله تعالى ذكره , وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك بإسناد هو أصح منه , وهو ما : 3376 - حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي , قال : ثنا محمد بن بشر , قال : ثنا سفيان بن سعيد , عن يزيد بن أبي زياد , عن زيد بن وهب , قال : قال عمر : المسلم يتزوج النصرانية , ولا يتزوج النصراني المسلمة . وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة رحمه الله عليهم نكاح اليهودية والنصرانية , حذرا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك فيزهدوا في المسلمات , أو لغير ذلك من المعاني , فأمرهما بتخليتهما . كما : 3377 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا ابن إدريس , قال : ثنا الصلت بن بهرام , عن شقيق , قال : تزوج حذيفة يهودية , فكتب إليه عمر : خل سبيلها , فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام , ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن . 3378 - وقد حدثنا تميم بن المنتصر , قال : أخبرنا إسحاق الأزرق , عن شريك , عن أشعث بن سوار , عن الحسن , عن جابر بن عبد الله , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا " . فهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه , فالقول به لإجماع الجميع على صحة القول به أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام , عن شهر بن حوشب . فمعنى الكلام إذا : ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركات غير أهل الكتاب حتى يؤمن , فيصدقن بالله ورسوله , وما أنزل عليه .
وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
القول في تأويل قوله تعالى : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } يعني تعالى ذكره بقوله : { ولأمة مؤمنة } بالله وبرسوله , وبما جاء به من عند الله خير عند الله , وأفضل من حرة مشركة كافرة وإن شرف نسبها وكرم أصلها . يقول : ولا تبتغوا المناكح في ذوات الشرف من أهل الشرك بالله , فإن الإماء المسلمات عند الله خير منكحا منهن . وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل نكح أمة , فعذل في ذلك وعرضت عليه حرة مشركة . ذكر من قال ذلك : 3379 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم } قال : نزلت في عبد الله بن رواحة , وكانت له أمة سوداء , وأنه غضب عليها فلطمها ثم فزع , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما هي يا عبد الله ؟ " قال : يا رسول الله هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء , وتشهد أن لا إله إلا الله , وأنك رسول الله . فقال : " هذه مؤمنة " فقال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ! ففعل , فطعن عليه ناس من المسلمين , فقالوا : تزوج أمة . وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين , وينكحوهم رغبة في أحسابهم . فأنزل الله فيهم : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } وعبد مؤمن خير من مشرك . 3380 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني الحجاج , قال : قال ابن جريج في قوله : { ولا تنكحوا إلى المشركات حتى يؤمن } قال : المشركات لشرفهن حتى يؤمن .
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { ولو أعجبتكم } يعني تعالى ذكره بذلك : وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب في الجمال والحسب والمال فلا تنكحوها , فإن الأمة المؤمنة خير عند الله منها وإنما وضعت " لو " موضع " إن " لتقارب مخرجيهما ومعنييهما , ولذلك تجاب كل واحدة منهما بجواب صاحبتها على ما قد بينا فيما مضى قبل .
وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ
القول في تأويل قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } يعني تعالى ذكره بذلك : أن الله قد حرم على المؤمنات أن ينكحن مشركا , كائنا من كان المشرك من أي أصناف الشرك كان . فلا تنكحوهن أيها المؤمنون منهم فإن ذلك حرام عليكم , ولأن تزوجوهن من عبد مؤمن مصدق بالله وبرسوله , وبما جاء به من عند الله , خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك ولو شرف نسبه وكرم أصله , وإن أعجبكم حسبه ونسبه . وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول : هذا القول من الله تعالى ذكره , دلالة على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة . 3381 - حدثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي , قال : أخبرنا حفص بن غياث عن شيخ لم يسمه , قال أبو جعفر : النكاح بولي في كتاب الله . ثم قرأ : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } برفع التاء . 3382 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة والزهري في قوله : { ولا تنكحوا المشركين } قال : لا يحل لك أن تنكح يهوديا أو نصرانيا , ومشركا من غير أهل دينك . 3383 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا حجاج , قال : قال ابن جريج : { ولا تنكحوا المشركين } لشرفهم { حتى يؤمنوا } . 3384 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا يحيى بن واضح , عن الحسين بن واقد , عن يزيد النحوي , عن عكرمة والحسن البصري : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } قال : حرم المسلمات على رجالهم يعني رجال المشركين .
أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
القول في تأويل قوله تعالى : { أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } يعني تعالى ذكره بقوله : { أولئك } هؤلاء الذين حرمت عليكم أيها المؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم يدعونكم إلى النار , يعني يدعونكم إلى العمل بما يدخلكم النار , وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بالله ورسوله . يقول : ولا تقبلوا منهم ما يقولون , ولا تستنصحوهم , ولا تنكحوهم , ولا تنكحوا إليهم , فإنهم لا يألونكم خبالا ; ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به , فاعملوا به , وانتهوا عما نهاكم عنه , فإنه يدعوكم إلى الجنة . يعني بذلك : يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار , وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم فيعفو عنها , ويسترها عليكم . وأما قوله : { بإذنه } فإنه يعني أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيله وطريقه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة ثم قال تعالى ذكره : { ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } يقول : ويوضح حججه وأدلته في كتابه الذي أنزله على لسان رسوله لعباده ليتذكروا فيعتبروا , ويميزوا بين الأمرين اللذين أحدهما دعاء إلى النار والخلود فيها والآخر دعاء إلى الجنة وغفران الذنوب , فيختاروا خيرهما لهم . ولم يجهل التمييز بين هاتين إلا غبي الرأي , مدخول العقل .