الأسوار ثقافة، والجدران العازلة ثقافة، وهى ثقافة قديمة منذ الإمبراطورية الرومانية، كما أنها نشأت فى عصور لاحقة عندما بنوا سور برلين، الذى كان يفصل بين الألمانيتين الشرقية والغربية، ثم جرى تحطيمه، وعادت ألمانيا موحدة.. ومنذ سنوات نشأت فكرة الجدار العازل، على يد الاحتلال الإسرائيلى فى الأراضى المحتلة.. وللأسف هذه الثقافة تجد لها مكاناً الآن فى مصر بطريقة أو بأخرى، لكن الفكرة لم تتجسد عندى بشكل كامل، إلا حينما زرت روما منذ أيام!
كنا قد استعنا بصديق مقيم فى روما بهدفين: رؤية المدينة العتيقة من جهة، ومن جهة أخرى شراء بعض الهدايا.. ركبنا سيارته الخاصة، واتجه بنا إلى قلب المدينة، وراح يشرح لنا بعض معالمها الأثرية.. نحن الآن أمام سور الفاتيكان.. وهذه كنيسة العذراء.. هذه منطقة حديثة بناها موسولينى.. نحن الآن بمحاذاة نهر التيبر، وهو يقسم روما قسمين.. هنا على الشمال سور العذاب، الذى كان يفصل بين النبلاء، وطبقة العمال والفلاحين.. استوقفنى اسم السور، وبعدها انفصلت ذهنياً عن الأصدقاء والمرشد معاً!
لم يعد يشغلنى شىء عما رحت أفكر فيه.. الأسوار قديماً وحديثاً.. كيف كانت فكرة عنصرية وطبقية؟! العالم كله يتخلص منها إلا المحتل أو المستعمر.. الأغرب لماذا أصبحت فكرة الأسوار فى مصر بهذه البشاعة وهذه الطبقية.. هل المجتمع المصرى أصبح قسمين: نبلاء وعمال وفلاحون.. أثرياء وفقراء.. هل الإسكان فى مصر أصبح نمطين فقط ولا ثالث لهما: الأول داخل سور يطلق عليه الكومباوند.. والثانى منخفض التكاليف لمحدودى الدخل.. هل سيعود سور العذاب من جديد؟!
كادت متعة الشوبنج تنهار، وكادت متعة التنزه فى روما تتلاشى.. هكذا الصحفيون إذا زاروا العواصم أو المتاحف أو حتى الشواطئ.. كل شىء يصلح عملاً صحفياً.. على أى حال دارت برأسى مقارنات عديدة هنا وهناك.. العنوان الرئيسى فيها سور العذاب.. العذاب الذى كان يلاقيه المزارعون فى روما القديمة، حتى يصعدوا السور ليروا النبلاء ويتجسسوا عليهم، أو العذاب الذى كانوا يلاقونه فى تدبير لقمة العيش من مخلفات النبلاء بالطبع!
المقارنات كانت تسعفنى طوال الوقت.. الكومباوند الآن فى كل مكان.. فى القاهرة الجديدة والشروق والعبور.. فى مدينتى والرحاب.. على الطريق الصحراوى وفى الشيخ زايد و٦ أكتوبر.. أسوار العذاب تتمدد على خريطة مصر.. تميز شريحة صغيرة من نبلاء العصر الحديث، والإقطاع الجديد.. والطبقة التى تسكن القصور والفيلات، داخل أسوار العذاب فى الكومباوندز، هى نفسها التى تسكن صيفاً فى مارينا ومراقيا وماربيلا وشرم والغردقة أيضاً، بينما ٩٥% خارج السياق تماماً!
لا شىء يختلف فى مصر ٢٠١٠ عن روما القديمة.. كان مقصدنا عتبة روما، أو حتى وكالة البلح هناك.. نريد أن نمارس متعة الشوبنج، ثم نعود لنكتب: «أيام فى روما».. وفجأة تبدد كل شىء، انفجر البركان أمام سور العذاب.. تذكرنا أسواراً عالية تفصل المصريين، تهامسنا أن الديمقراطية هى الحل، وأن تداول السلطة لازم لإعادة توزيع الثروة.. الديمقراطية هى التى جعلت بلاداً تطرد حكوماتها وتهدم الأسوار، ويصبح سور العذاب مجرد مزار.. بينما تنشأ فى مصر ثقافة جديدة اسمها أسوار العذاب!
هناك فى روما لا يعرفون من الأسوار غير سور واحد، أصبح فى ذمة التاريخ.. أزاحوا جميع الأسوار.. حتى قصر الرئاسة، لا أحد يمنعهم من أن يتجولوا فيه.. يحدث هذا فى قصور الرئاسة الأوروبية، كما يحدث فى البيت الأبيض.. وهنا فى مصر تشيع ثقافة الجدران، والأسوار العازلة.. فلماذا يبنون الأسوار.. ولماذا يخافون؟!