|
|
|
صوت آخر يأتينا من زحمة الأصداء...يحمله النسيم من بلاد المهجر إلى موطن الجمال يصف طقوس الغربة وعذاباتها، فليس للبحر هناك سوى طعم الملوحة وليس للشمس لحظةٌ سوى الأُفول، وللقمر الغياب، والنسيم العليل الذي كان يُدغدغ مشاعره أصبح يمخر العظام، باردٌ و مُشبّعٌ بالبخار إنها الغربة التي تسرق الكثير منا ولا تعطينا سوى اليأس والشيخوخة والنسيان.
إنه صوت شاعر مهجري، الشاعر القروي لقبه، أما اسمه فهو رشيد سليم الخوري الذي ولد في لبنان عام 1887م، وهاجر إلى البرازيل هرباً من الضيق المادي وعمل في ظروف صعبة حتى عاد بعد أن لملم قصائده وجراحاته إلى وطنه لبنان، والقصيدة من البحر الخفيف.
يا نَسِيم البَحرِ البَليلَ سَلامُ
زارَكَ اليومَ صَبُّكَ المُسْتَهامُ
إنْ تَكُنْ ما عَرَفْتَني فَلَكَ
العُذْرُ فقدْ غَيَّرَ المُحِبَّ السِّقامُ
أَوَلا تَذْكُرُ الغُلامَ رَشيداً
إننّي يا نَسيمُ ذاكَ الغلامُ
طالَمازُرْتَني إذا انْتَصَفَ
الليلُ بِلُبنانَ والأَنامُ نِيامُ
ورَفَعْتَ الغِطاءَ عنّي قليلاً
فأَحَسَّتْ بِمَزْحِكَ الأَقدامُ
وتَنَبَّهْتُ فاتِحاً لكَ صَدْراً
شبَّ فيهِ إلى لِقاكَ ضِرامُ
فَتَغَلْغَلْتَ في الأَضالِعِ أَنفاساً
لِطافاً تَهْفو إليها العِظامُ
ولَثَمْتَ الفُؤادَ ثَغْراً لِثغرٍ
ولكَمْ حَجَّبَ الثُّغورَ لِثامُ
يا نسيمَ المُحيطِ ما هكذا في
ساحِلِ البَحْرِ عندَنا الأنْسامُ
أنتَ زُرْتَ في المَنامِ صَحيحاً
غَلْغَلَتْ في عِظامِهِ الأَسْقام
أنتَ زُرْتَ في المَنامِ صَحيحاً
غَلْغَلَتْ في عِظامِهِ الأَسْقام
مُشْبَعٌ بالبُخارِ روحٌ ثَقيلٌ
بارِدٌ تَسْتَعيذُ منكَ المَسامُ
لستَ ذاكَ الذي عَهِدْتُ يَفوحُ
الشِّيحُ إنْ جَرَّ ذَيلَهُ والثُّمامُ
ذاكَ أَزْكى شَمّاً وأَلْطَفُ ضَمّاً
ذاك تُشْفى بِلَمْسِهِ الأَجْسامُ
كَم شَفَتْ لي عُيونُ والِدِهِ
البحرِ أُواماً، يا حَبَّذاكَ الأُوامُ
كارِعاً من زُلالِها لا بِجامٍ
فهي ساقٌ وسَلْسَبيلٌ وجامُ
سارِحاً مارِحاً خَفيفاً لَطيفاً
كَمَلاكٍ جَناحُهُ الأحلامُ
أَسْبِقُ الفجرَ في الهُبوطِ إلى البحرِ
وكَم طابَ لي بهِ اسْتِحْمامُ
سابِحاً كالإِوَزِّ أَنْطَحُ
صَدْرَ المَوجِ زاخِرٌ لَطَّامُ
صاعِداً من جيوشِهِ في إكامٍ
تَتَجَلَّى في البرِّ منها الاكامُ
كلَّما ازْدَدْنَ هَيْبَةً وعلاءً
طابَ لي في صُفوفِهِنَّ اقْتِحامُ
طاهِرَ القلبِ لستُ أُوجِسُ شَرّاً
جاهِلاً ما تُخْبِئُ الأيامُ
شادِياً في النهارِ والليلِ حتى
أَدْهَشَ النّاسَ بُلْبُلٌ لا يَنامُ
غُرْفَتي السَّطْحُ زَيَّنَتْها سَماءٌ
تَتَدَلّى من سَقْفِها الأَجْرامُ
فكأَنَّ الفَضاءَ صدرٌ رَحيبٌ
وكأَنّ الهِلالَ فيهِ وِسامُ
وكأَنّ النّجومَ شِعرٌ بَديعٌ
لا غُموضٌ فيهِ و لا إبْهامُ
يا بَرازيلُ لو أَفَضْتِ عليَّ المالَ
فيضاً ما طابَ لي فيكِ المُقامُ
أينَ زَهرُ النُّجومِ فيكِ وأينَ الشَّمسُ،
أينَ الهِلالُ، أين التَّمامُ؟
أجميعُ الشُّهورِ فيكِ شباطٌ
أَو ما للشِّتاءِ عَنْكِ انْصِرامُ
أنتِ نِعمَ البِلادُ خصْباً وجوداً
غيرَ أَنَّ الهَناءَ فيكِ حَرامُ
مِثْلَما تَنْقَضي اللّيالي سِراعاً
هكذا تَنْقَضي بكِ الأعوامُ
نَصْرِفُ الخَمْسَ فيكِ والعَشْرَ
لا يَعْلَمُ إلاّ المُهَيْمِنُ العَلاّمُ
وكَأَنَّ الوَرى وُحوشٌ بِآجامٍ
وتِلكَ الشَّوارِعُ الآجامُ
مَنْكِبٌ حَكَّ مَنْكِباً وجَبينٌ
شَجَّ رَأْساً، عَلامَ هذا الزِّحامُ
جيَفٌ تلكَ أَمْ لَفائِفُ خامٍ
كثُرَ السَّبُّ حولَها والخِصامُ
خِرَقٌ في دَنِيءِ هَياكِلِها صَلُّوا ولو
لم يَسْتَرْخِصوا المَوزَ صاموا
يُنْفِقونَ الحَياةَ في جَمْعِها
للمَوتِ والمَوتُ طارِحٌ قَسَّامُ
يا لَشَوْقي إلى مَحاسِنِ قُطْرٍ
هَبَطَ الوَحْيُ فيهِ والإلْهامُ
وكُرومٍ إنْ مَرَّ فيها غَريبٌ
يَتَوارى من وجْهِهِ الكَرَّامُ
لَو قَضَمْتُ الرَّغيفَ فيهِ قَفاراً
فالرّضى والسّرورُ نِعمَ الادامُ
أَيُّها النَّازِحونَ عَوْداً إليهِ
حالَما يَسْتَتِبُّ فيهِ السّلامُ
كلُّ حَيِّ إلى الشَّآمِ سَيَمْضي
حينَ يُقْضى، إنَّ السَّماءَ الشَّآمُ