الفرق بين أوروبا وأمريكا حسب أحد المفكرين, أن الماضي الطويل يحول دون نجاح أن يجذب الأوروبيين للوراء, بينما نقص الماضي عند الأمريكيين, أي عدم وجود تاريخ عريق لديهم, يدفعهم لاحتضان المستقبل باعتباره تاريخهم الحقيقي.
الأمر عندنا يختلف.. نحن نشد الماضي شدا إلي حاضرنا ونتحدث عنه وإليه كما لو أنه يسكن في غرفة مجاورة. نناجيه ونتمني أن يكون معنا دائما, وإذا لم نستطع إلي ذلك سبيلا, تصورنا أنفسنا وقد عدنا إلي الوراء. نعيش عصر الزعيم العظيم, والفن الجميل والأدب الرفيع, بل وحتي الأسعار الرخيصة.
ونحن ننتظر حلول ذكري حادثة كبري أو زعيم كبير لكي نجتر تلك العبارة الخالدة مازال حاضرا برغم مرور30 أو40 أو حتي مائة عام علي وفاته, وهي عبارة نكاد ننفرد بها بين العالمين. فالرئيس الأمريكي الراحل ريجان, ورئيسة الوزراء البريطانية ثاتشر اللذان أحدثا ثورة اقتصادية عالمية في الثمانينيات لم يعد أحد يتذكرهما في بلديهما, لأن أحداثا كبري وشخصيات أخري ملأت الساحة, أما ديجول الذي كان في زمنه منقذ فرنسا, فقد بات تاريخا وأصبح الفرنسيون يعيشون زمنا شديد الاختلاف عن فترة الستينيات وثورة الطلبة.
وقبل أسابيع كنت في زيارة لجمهورية التشيك التقيت خلالها بمجموعة صحفيين, وحاولت إظهار اهتمامي ببلادهم متحدثا عن ربيع براج1968 الانتفاضة الإصلاحية التي قمعتها الدبابات السوفيتية, والثورة المخملية التي أخرجت البلاد من الحكم الشيوعي عام1989.
وقد أبدي الزملاء امتنانهم لكنهم أشعروني أنني أعيش في الماضي, وأن تلك الأحداث أضحت تاريخا مكانه قاعات الدرس والمتاحف. قالوا لي إنهم يعيشون حاضرهم ويقضون الساعات الطويلة في انتقاد السياسات الحالية واقتراح بدائل لها, أما مكانة هذا الزعيم السابق أو تلك الثورة فلا تشغلهم لأن الصحافة تتعامل مع الحاضر والمستقبل فقط.
وحبذا لو أن مثقفينا وصحافتنا وإعلامنا أعادوا الأمور إلي نصابها ونقلوا الماضي من كونه حاضرا الآن إلي مكانه الطبيعي, وهو رفوف المكتبات, وتوجهوا إلي الحاضر الحقيقي دراسة وانتقادا وتصميما علي تغييره للأفضل, فلا يعقل أن تبتعد الأحداث عنا عقودا من الزمن ونحن مازلنا نتعلق بأهدابها ونتغزل فيها, مؤكدين أنها مازالت حاضرة, إذن أين هو حاضرنا؟ هل نشطبه أم نقوم بترحيله إلي المستقبل؟
عبارة مازال حاضرا ينبغي أن تختفي لأن كل زعيم أدي دوره ولن يعود وكل حادثة كبري لها ملابساتها ولن تتكرر, والأهم أننا نحن الحاضرين فعلا, ويجب ألا نسلب أنفسنا صفة الحضور ونقدمها لشخص أو مناسبة مهما علت القيمة, وزادت المكانة.