يرتبط اسم حماة بالنواعير منذ أقدم العصور، وتنفرد بها عن سائر مدن العالم، والنواعير كما هو معروف دواليب خشبية مائية ذات حركة دائمة تعمل بقوة دفع الماء الهادر عبر فتحة في سد صغير فترفع الماء من المنخفضات إلى المرتفعات بوساطة صناديق معدة على محيطها، فتسقي البساتين والحمامات والدور والمساجد والخانات، واسم الناعورة مشتق من نعيرها وهو صوتها، ويطلق عليها أيضاً اسم الدولاب والساقية والشادية. وهي ذات أجسام مختلفة، ولكنها متشابهة في الصنع. ..
فهناك نواعير صغيرة تقوم على أفواه الآبار، ونواعير كبيرة تستند على حجريّات فوق مجاري الأنهار. وتعد حماة أقدم موطن للنواعير، وأكبر ناعورة ما تزال قائمة حتى اليوم في حماة هي "ناعورة المحمدية" إذ يبلغ قطرها واحداً وعشرين متراً، وعدد صناديقها مائة وعشرون صندوقاً.
ونحن لا نستطيع أن نحدد تاريخ ظهورها بدقة، لأن أهل العلم اختلفوا في ذلك، فمنهم من يرى أنها تعود إلى العهد الآرامي، ومنهم من يرى أنها ظهرت في العصر الهلنستي، وآخرون يرون أنها رومانية، وقد ذهبت المستشرقة الإنكليزية مسز بل بعيداً عندما أصدرت كتابها "الصحراء والمعمورة" عام 1907 في أعقاب زيارتها لمدينة حماة..
فذكرت أنها فارسية، وهذا القول لا سند له، ولعل أقدم مصدر لتاريخ النواعير هو صورة من الفسيفساء عثر عليها المنقبون بين أطلال أفاميا تمثل ناعورة ترقى إلى العصر الروماني، ويرى بعضهم أنها تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد. وقد ذكر الرحالة والجغرافيون العرب نواعير حماة في مؤلفاتهم أمثال ابن جبير وابن بطوطة وياقوت الحموي وأبي الفداء، كما ذكرها الشعراء في قصائدهم عند نزولهم في حماة أو مرورهم بها باستثناء امرئ القيس.
ويشير سوبرنهايم صاحب المعلمة الإسلامية أن فيما اقتبسه الصليبيون من بلاد الشام صناعة النواعير، ويدلل على ذلك بوجود نواعير في فرانكفورت بألمانية على مقربة من بايروت كالتي في حماة لا تزال دائرة. كما تشير بعض المصادر الأندلسية إلى وجود نواعير في مدينة مالقة، وتبدو صورة طبق الأصل عن نواعير حماة. وفي كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس لأبي عبد الله محمد بن الكتاني الطبيب بعض المقطعات لنفرٍ من شعراء قرطبة والزاهرة أمثال: عبد الملك بن سعيد المرادي 366ه وأبي بكر بن هذيل 389ه ومحمد بن الحسين الطاري 394ه ويوسف بن هارون الرمادي 403ه وآخرين غيرهم ذكرهم صاحب نفح الطيب، وفي كتابه زيادة لمستزيد.
أما كتب أهل المشرق فقد أوردت طائفة من الأشعار، ومعظمها قيل في نواعير الفرات، وما أكثر النواعير على شط الفرات كما يقول الزمخشري في أساس البلاغة. غير أن الأشعار التي قيلت في نواعير حماة هي التي حفظتها الرواة ودوَّنها المدونون. وسوف نتحدث هنا عن كتاب الأنوار في محاسن الأشعار لأبي الحسن الشمشاطي وكتاب بدائع البدائة لابن ظافر الأزدي، وهما غريبان في بابهما لاشتمالهما على مجموعة من شعر القدماء في نواعير الفرات ومصر، كما نتحدث عن نواعير حماة في شعر ابن نباتة المصري.
1ً ـ النواعير في كتاب الأنوار في محاسن الأشعار:
أبو الحسن علي بن محمد العدوي المعروف بالشمشاطي من أعلام القرن الرابع الهجري، مالك لأعنة البيان شعراً ونثراً، غير أن أخباره وآثاره نادرة في كتب الأدب والتراجم.. لذا لا نعرف منها إلا القليل [انظر على سبيل المثال معجم الأدباء 13: 240].
وربما كان كتاب الأنوار في محاسن الأشعار هو الكتاب الوحيد الذي وصلنا من تصانيفه الكثيرة التي قاربت الأربعين كتاباً، معظمها يتعلق بالأدب وأخبار أهله، ومنها ما يتعلق باللغة والنحو و التاريخ والأنساب، ومنها ما ذهب في بيان فضيلة التشيع والانتصار له، وهناك رسائل في موضوعات متفرقة. ويدل كتاب الأنوار على دراية تامة بأيام العرب، ورواية ضافية وافية لطائفة من شعرائهم. وقد تفرد برواية أخبار وأشعار لم ترد في أي كتاب سواه، وبخاصة مقطعات من شعر أبي العباس النامي والحسين بن الضحاك وديك الجن وأبي نواس.
ومن المعروف أنه جمع ديوان ديك الجن، ولكن هذا الديوان لم يصل إلينا. ويذكر محقق الكتاب الدكتور السيد محمد يوسف أن هذا الكتاب لم يخل من أبيات نادرة للقدماء أمثال النابغة الذبياني وعمرو بن كلثوم والأخنس بن شهاب.
ولعل أجمل ما أطرفنا به الشمشاطي نخبة مجموعة من أشعار العرب في النواعير وحنينها، فقد قدّم لنا اثني عشر نصاً فريداً في هذا الموضوع الذي لم يعرض له كاتب سواه قبله. وهذه النصوص هي أقدم ما وصل إلينا في النواعير، ثم أضاف إليها نصاً من شعره. وهي: نص لأعرابي مجهول، وللمجنون نص، ولعبيد الله بن مسعود ثلاثة نصوص، ولأبي العباس النامي نص، ولصالح الديلمي نص، وللخباز البلدي نص، ولأبي طالب الحسين بن علي الإنطاكي نصان، ولابن الرومي نص، ولمصنف الكتاب أبي الحسن الشمشاطي نص. والنواعير المقصودة في تلك النصوص هي نواعير الفرات ودجلة، وليست نواعير العاصي، وهي أصغر حجماً وأقل حمولة من نواعير العاصي. ونعيرها وإن كان متشابهاً في تلحينه.. إلا أنه مختلف في تلوينه، ارتفاعاً وانخفاضاً. ونواعير العاصي أبعد مدى وأعظم صدى، على أن تأثيرها في النفس واحد، وكلاهما حزين مثير للوجد والشجن.
يربط أعرابي في النص الأول بين حنين النواعير وحنين الإبل، غير أن حنين الإبل له أسبابه وبواعثه، فهي تحن إلى معاطنها ومواطنها، في حين كان حنين النواعير مبهماً لا وجه له، سوى أنه يشجي الحزين، فينثر المدامع على الخدّين إظهاراً لوجده الدفين.
يقول الشمشاطي في كتابه: أُنشدت لبعض الأعراب:
ولما نزلنا الساحلينِ تجاوبت * أبا عرُنا لما ازدهتْها النواعرُ
وحنّت نواعيرُ الفرات بأرضها * فلما استحنّت جاوبتْها الأباعر
أباعِرنا .. بعض الحنين.. فإنه * إلى غير شيء ما تحنّ النواعر
سوى أنها تُشجي الحزينَ الذي به * إلى رؤية الأحباب داءٌ مُخامر
إذا نحن أخفينا الدفينَ الذي بنا * من الوجدِ نمّته الدموعُ البوادر(1)
ومثله فعل المجنون في حديثه عن النواعير، فهو يحن من وجده إلى ربى نجد، وهي تحن من غير وجد، ولكن الفرق بينهما أن دموعها تسقي الرياض، ودموعه تقرح الخدود. يقول المجنون:
باتت تحنّ وما بها وجْد * وأحنّ من وجد إلى نجد
فدموعُها تسقي الرياضَ بها * ودموعُ عيني أقرحتْ خدي(2)
وإني لأظن أن نص الأعرابي ونص المجنون، كلاهما رائد في بابه، غير أن الأول عليه مسحة البداوة، والثاني عليه نفحة الحضارة، وما تلاهما من نصوص كان تبعاً لهما، وتفصيلاً لما كان مجملاً.
ويبدو لي من قراءة نصوص عبيد الله بن مسعود (98)ه أنها متشابهة، فألفاظها واحدة، ومعانيها متقاربة. فمفردات [الحنين والشجو والصبابة والدموع] وردت في النصوص الثلاثة، وبالتالي فإن معانيها أقارب وشكول. على حين تميز النص الأول بشيء من الإيضاح [مياه النواعير تسقي الحلو من الثمر، والدموع تسقي ما كان غير حلو].
أما النص الثاني فيجعل الشاعر دموعها ودموعه سواء. وفي النص الثالث نجد أن الشاعر والنواعير كلاهما يبكي، فهو يتوحد بالناعورة، ولكن بكاءه قرّح الجفون، وجفونها سلمت من التقريح.
يقول عبيد الله بن مسعود في النص الأول:
حَننْت إليك من شجو وحنّت * نواعيرُ الفرات لغير شجو
خلونَ من الهوى ومُلئت منه * وليس أخو صباباتٍ كخِلْوِ
سقينَ الحلوَ من ثمرٍ وتسقي * دموعي من همومي غيرَ حُلْوِ(3)
ويقول في النص الثاني:
نزلنا بالفرات ضُحىً وحنّت * نواعرُه حنينَ المُعْولاتِ
وظَلْتُ أحنُّ من شوق وليست * تحنُّ لـه نواعيرُ الفرات
وبتُّ من الصبابة مستهاماً * إليك وبتْن منها خاليات
سواءٌ ما سقينَ وما جرتْه * جفوني من دموعي الهاطلات(4)
ويقول في النص الثالث:
ولما استحنّت بالفرات عشية * نواعيرُه كاد الفؤادُ يبينُ
تحن بلا حزن وشوق أصابها * وللقلب من شوق إليك حنين
سواء بكاء العين مني والذي * بكين ولكنْ ما لهن عيون
على أنني والله قد أقرح البكا * جفوني ولم تقرح لهن جفون(5)
وهذه النصوص الثلاثة المنسوبة لعبيد الله بن مسعود تحملني على الشك في صحة نسبتها إليه، لأنه أحد الفقهاء السبعة في عصره، وهو شاعر ضرير، وهيهات أن يرى ما يرى من حسن ورواء، وبينه وبينها حجاب. والشمشاطي في كتاب الأنوار ينسب النص الأول لعبد الله بن مسعود، وهذا خطأ أو وهم من الناسخ.
ويتناول ابن الرومي (283)ه موضوع الناعورة تناولاً مختلفاً، فهو يلجأ إلى الوصف مستخدماً بعض معطيات العلم والفن، حيث نجد ألفاظاً ذات مظهر حضاري مثل [السماريّة، البربط، القينة، اللحن، الزامر، الفلك الدائر] فيشبه الناعورة قرب السمارية (سفينة) بالبرط (العود) تارة، وبالقينة (المغنية) تارة أخرى، وكيزانها (جمع كوز) أنجم دائرة في فلك دائر. ويشتق ابن الرومي من لفظة الناعورة صوتاً لها، فهي تنعر بالماء إذا أخرجت صوتاً. يقول:
كم صوّبت فيه سماريةٌ * موجفةٌ كالنقنق النافرِ
ونعرتْ بالماء ناعورة * حنينُها كالبَرْبَط الناعر
كأنما كيزانُها أنجمٌ * دائرةٌ في فلك دائر( 6)
ولابن الرومي في الناعورة بيتان مفردان قائمان على التشبيه فحسب، وكأنما اصطنعهما اصطناعاً للتدليل على مقدرته البيانية، وقد وردا في ديوانه يقول:
وناعورة شبّهتُها حين أُلبست * من الشمس ثوباً فوقَ أثوابها الخُضر
بطاووسِ بستانٍ يدور وينجلي * وينفضُّ عن أرياشه بَللُ القطْر( 7)
ويقترب صالح الديلمي من ابن الرومي في تشبيه الناعورة بالفلك الدائر، وكيزانها بالنجوم، غير أن الديلمي أضاف ما أضاف توضيحاً لما ذهب إليه، فمنح الناعورة حياة، وجعلها تتحرك وهي بلا روح، وجعل كيزانها وهي تصبّ الماء كالنجوم المنقضة من السماء. يقول:
ومستديرٍ بلا روح تدبّره * يديرُه قُطُبٌ في الأرض مركوزُ
كأنه فَلك تنقضّ أنجمُه * إذا تصوّب من كيزانها كوزُ( 8)
أما أبو بكر الصنوبري أحمد بن محمد (334)ه فقد جعل كواكب الفلك تنقضّ ساعة تطلع، كما جعل أصواتها ذات تلوين، فهي ترتفع وتنخفض، فيُسمع منها حيناً حنين الذئب مردداً، ويسمع منها حيناً آخر زئير الليث مرجّعاً. يقول الصنوبري:
فَلكٌ من الدولاب فيه كواكبٌ * من مائهِ ت تنقضُّ ساعةَ تطلعُ
متلوّنُ الأصوات يخفضُ صوته * بغنائه طوراً وطوراً يرفع
أبداً حنين الذئب فيه مردَّد * أبداً زئيرُ الليث فيه مرجَّع( 9)
ويتفرد الخبّاز البلدي محمد بن أحمد بن حمدان (القرن الرابع الهجري) بوصفٍ مخترع.. لا يخلو من غرابة عندما جعل دولاب الناعورة سحابة من خشب، والفلك الدائر يزمزم بأصوات لا تفهم كأنها أصوات الترك، وهو يدور.. فلا يكلّ ولا يملّ، ودوراته لا يحصيها حاصٍ.. ولو فعل لتعب من الإحصاء. يقول الخباز البلدي:
يسوقُ من دجلةَ الرّواء لـه * سحابة أنشِئتْ من الخشب
نجوم ماءٍ يديرها فلكٌ * يكثر منه تعجّبُ العجب
مزمزمٌ لا يبينُ منطقه * كقائد التركِ غدْوةَ الشغب
يتعب جداً مُحْصي تقلّبه * وهو مُعافى من شدّة التعب( 10)
ويكتفي أبو العباس النامي (399)ه بالتعجب من صنع الناعورة، واختلافها خلقة وخليقة، فأفواهها في أوساطها، وعيونها في جنوبها:
وصلتْ نواعير الجنان حنينها * (دهراً) فأذكرتِ الهوى أخلاقُها
وكأنما طفقتْ تُواصل أدمعي * يومَ النوى وقد انهمى مُهراقُها
أعجِبْ بأجسامٍ بدائعَ خالفت * في خَلْقها وتنكرت أخلاقُها
أفواهُها أوساطها، وعيونُها * بجنوبهنّ كثيرةٌ آماقُها( 11)
ولأبي طالب الحسين بن علي الأنطاكي (القرن الرابع الهجري) في الناعورة نصان متقاربان، اعتمد فيهما على من سبقه تصويراً وتعبيراً. وقد نلحظ فيهما قدراً من الإبانة، وقدراً من التفصيل فالناعورة تسير.. وهي ثابتة في مكانها.. فلا براح، وهي على الدوام تستعطي وتعطي، وتنشر محاسنها نفحة طيبة، وشجراً وظلاً، وفواكه دانية القطوف. يقول:
بمشمّر في السير إلا أنه * يسري فيمنعه السُّرى أن يبعدا
وصل الحنين بعبرةٍ مسفوحة * حتى حسبناهُ مَشُوقاً مُكْمدا
مسترفدٌ ماءَ الفرات ورافد * وجْهَ الثرى أكرِمْ به مسترفدا
ينفي الصّدى عن روضةٍ نفحاتُها * أرَجٌ وبردٌ يشفيان من الصدى
كملتْ محاسنُها فنشرٌ يُرتضى * وفواكهٌ تُجنى وظِلٌّ يُرتدى
ويقول أيضاً:
كأنّ دولابَها إذ حنّ مغتربٌ * ناءٍ يحنّ إلى أوطانِه طرَبا
باكٍ إذا عقّ زهرَ الروض والدُه * من الغمام غدا فيه أباً حَدِبا
مشمّر في مسيرٍ ليس يبعده * عن المحلّ ولا يهدي لـه تعبا
مازال يطلب رِفْدَ البحر مجتهداً * للبرّ حتى ارتدى النوّارَ والعشُبا(12)
ومثله فعل صاحب كتاب الأنوار أبو الحسن الشمشاطي حين يقول:
نزلنا بأكناف العراق فهيّجتْ * نواعيرُه أحزاننا حين حنّتِ
تحنّ وتسقي الروضَ ريّاً ولم تذق * هوايَ الذي منه دموعي استهلّتِ
ولم تعرف الشوقَ الذي في جوانحي * ولا حُرَقاً بين الضلوع استكنّت
ولو علمتْ ما قد لقيتُ ومُلِّكت * لساناً لباحت بالهوى وتشكّت( 13)
والبيت الأخير يذكرنا بما قاله عنترة في معاناة جواده إبان الحرب.. والكر والفر:
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى * ولكان لو علمَ الكلامَ مكلّمي
تلكم هي أقدم النصوص التي تحدثت عن نواعير دجلة والفرات في القرون الأربعة الأولى، أما الذين تحدثوا عن نواعير العاصي فلم يرد لهم ذكر في كتب الأدب والتراجم إلا بعد القرن الخامس الهجري.
2ً ـ النواعير في كتاب بدائع البدائه:
شهد العهد الأيوبي منذ قيام دولة الناصر صلاح الدين نشاطاً عقلياً واضحاً، شمل كل مناحي الفكر، من علم ودين، وأدب وفن، وتاريخ ولغة، ظهر في عدد من المؤلفات الحسان التي تركها لنا جهابذة العلم وأساتذة الفن أمثال: أسامة بن منقذ والعماد الأصفهاني والقاضي الفاضل وابن سناء الملك وابن الأثير وياقوت الحموي وغيرهم من جلة العلماء والأدباء والشعراء، وكان ما خلفوه لنا من إرث حميد خير شاهد على سمو مكانتهم العلمية في عصر اتسم بالصراعات الدائمة والحروب الطاحنة مع الصليبيين الغزاة طوال قرنين من الزمن.
ولعل أبا الحسن علي بن ظافر الأزدي كان واحداً من رجال هذا العهد الذين أغنوا تراثنا العلمي والأدبي، وأسهموا في قيام حضارة عربية ذات أصول راسخة، وظلال وارفة، وقطوف دانية.. نعم الشرق والغرب بخيراتها، فكانت للإنسانية هدى وخيراً، وخصباً وريّاً، وحسناً وإحساناً. فمن هو ابن ظافر الأزدي، وما هي أخباره وآثاره، وماذا قدّم لنا في كتابه "بدائع البدائه" من حديث عن النواعير..؟
ولد أبو الحسن علي بن ظافر الأزدي في القاهرة سنة 567ه، وهي السنة التي قطع فيها صلاح الدين بن أيوب خطبة العاضد آخر خلفاء الدولة الفاطمية، وخطب للخليفة العباسي المستضيئ، وأصبح سيّد الموقف في مصر، ونائباً لنور الدين محمود بن زنكي فيها، وقد تسنى لابن ظافر الأزدي أن يقرأ الأدب والأصول والتاريخ وأن يبرع فيها. ثم ما لبث أن نهد للتدريس بالمدرسة الكاملية بعد أبيه، وترسّل بعدها في الديوان العزيز بمصر. كما تمكن بحكم عمله أن يقيم صلات مودة مع عدد من أعلام عصره، نذكر منهم: القاضي الفاضل وزير صلاح الدين وكاتبه، وابن سناء الملك شاعر عصره، والعماد الأصفهاني صاحب خريدة القصر، وأبا اليمن الكندي اللغوي النحوي المشهور، وكان بينه وبينهم مساجلات ومطارحات أورد طائفة منها في كتبه. وكانت داره ملتقى القصّاد ومحط رجال العلم من شرق العالم الإسلامي وغربه.
وقد صحب ابن ظافر الأزدي الأشرف موسى بن الملك العادل إلى الديار الشرقية من بلاد الشام وزيراً، لتوطيد الأمن فيها، ولكن ابن ظافر الأزدي ما لبث أن نفر من الوزارة وأوزارها، وبرم بالغربة ووعثاء أسفارها، فانفصل عن خدمة الأشرف موسى، وعاد إلى القاهرة، حيث ديار الأهل ومواطن الأحبة، ومراتع السرور ومعاهد العلوم. وولي وكالة بيت المال مدة، ثم انصرف في آخر أيامه إلى التصنيف وقرض الشعر.. حتى وافاه الأجل المحتوم، وقد اختلف أصحاب التراجم في سنة وفاته، فمنهم من جعلها سنة 613ه مثل ياقوت في معجم الأدباء، ومنهم من جعلها سنة 623ه مثل ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات، والأول أصح لمعاصرته له.
ترك ابن ظافر الأزدي بعض المؤلفات، ذكر منها ياقوت وابن شاكر الكتبي عشرة، ولم يصل إلينا منها سوى ثلاثة.. هي: بدائع البدائه، وأخبار الشجعان، وأخبار الدول المنقطعة، وقد طبع كتاب البدائع والبدائه، أما الكتابان الآخران فما يزالان مخطوطين محفوظين في مكتبة المتحف البريطاني بلندن.
وما يهمنا من آثاره كتابه المطبوع، أعني بدائع البدائه، وقد طبع ثلاث مرات، الأولى طبعة بولاق سنة 1278ه بعناية الشيخ محمد قطة العدوي، والثانية على هامش معاهد التنصيص سنة 1316ه، والثالثة طبعة مصرية صدرت عام 1970 بتحقيق محمد أو الفضل إبراهيم، وهي أفضل الطبعات الثلاث وأتمها، وعليها اعتمادنا في هذا البحث.
ويعد كتاب بدائع البدائه من عيون الأدب، لأنه يشتمل على فوائد أدبية مختارة من كتب الأدب والنقد والتراجم، مما يوافق منهجه في التأليف، ومذهبه في التقسيم الذي التزم به. ولعل أجمل ما فيه من مطارحات وحكايات ما وقع في مجالسه، وما دار بينه وبين شعراء عصره في أثناء نزهاتهم بين الرياض والغياض، وعلى أصوات النواعير وخرير المياه عند ضفاف الأنهار، في غوطة دمشق وأرباض القاهرة، مما يذكي القرائح، ويقدح زناد البديهة والارتجال.
وقد مهد ابن ظافر الأزدي لكتابه بمقدمة أوضح فيها منهجه في التصنيف، وأبان عن تفرده فيه، مفتخراً بأن عمله لم يسبقه إليه أحد، ولم يرقمه في الطرس بنان. والكتاب مقسم إلى خمسة أبواب:
1 ـ في بدائع بدائه الأجوبة.
2 ـ في بدائع بدائه الإجازة.
3 ـ في بدائع بدائه التمليط.
4 ـ في بدائع بدائه الاجتماع على العمل في مقصود واحد.
5 ـ في بقية بدائع البدائه.
واستهل عمله بفصلين حول اشتقاق البديهة والارتجال، والفرق بينهما، ثم ختمه بمثل ما بدأ به. يقدم لنا ابن ظافر الأزدي في هذا الكتاب بعض الشواهد الشعرية حول النواعير، وهي شواهد قيلت على سبيل البديهة والارتجال، للتدليل على مقدرة أصحابها في فن الصنعة الشعرية، ولاختبار قرائحهم في إصابة المعنى بسرعة، أي بديهة لا رويّة فيها، انسجاماً مع منهج المؤلف في كتابه. ولا تخلو هذه الشواهد من فوائد، وبراعة في الوصف، وبداعة في التشبيه وكلما أغرب الشاعر في وصفه كان أبلغ في بيانه، وأقرب إلى الدقة في إحسانه.
ومن فوائد هذه الشواهد أنها ترصد لنا بعض التسميات للنواعير التي وردت على ألسن الشعراء، فمنهم من يطلق عليها اسم [النواعير] مثل أبي محمد النامي في وصف ناعورتي بشيناء إحدى قرى بغداد. ومنهم من يطلق عليها اسم [الساقية] أو [الدولاب] مثل القاضي الأعز علي بن المؤيد الغساني في مساجلته مع ابن ظافر الأزدي صاحب الكتاب. وهذه التسميات ما تزال تتردد على ألسنة الشعراء حتى يومنا هذا، ولكن تسمية [النواعير] هي أكثر شيوعاً واستعمالاً بسبب خصوصية هذه اللفظة، وعدم تعدد معناها. فالساقية مثلاً يمكن أن يكون لها أكثر من دلالة، وكذلك الدولاب، في حين لا تعني الناعورة أكثر من المعنى المقصود الدال على شيء بعينه.
ويلاحظ أن ما قدمه ابن ظافر الأزدي في كتابه يتوافق مع ما ذهب إليه من إيراد النصوص التي يغلب عليها الارتجال كما قلنا آنفاً، فما جاء مرتجلاً أو على البديهة، إجازة أو تمليطاً (ضرب من الإجازة أو المساجلة) كان أدعى لوقدة الذهن وحدّة الخاطر من القول الذي يأتي بعد روية وإعمال فكر. والمرتجل أو الباده كما يقول ابن ظافر الأزدي يقنع منهما بالرديء اليسير، ولا يقنع من المروي إلا الجيد الكثير [انظر ص7]. ولذلك كانت شواهده الشعرية الخاصة بالنواعير مصطنعة، يبدو عليها أثر التكلف، وشتان بين الأثر المطبوع والأثر المصنوع على حين كانت مقدماتها النثرية ساطعة في بيانها بالرغم من زخارفها البديعية ومحسناتها اللفظية، لأن هذه الزخارف هي من سمات العصر. وهذا النقد لا يمس شواهد الكتاب الأخرى إلا في مواضع قليلة.
يقول ابن ظافر الأزدي في كتابه بدائع البدائه:
ومررت أنا وهو [يعني القاضي الأعز بن المؤيد] رحمه الله يوماً بدولاب يئن أنين ثكالى فقدت أطفالها، والنواعج أضلت آفالها، ويبكي بكاء صبّ آلمه هواه، وصارمه من يهواه، وفرّق البين بينه وبين محبوبته فراقاً لا يرجى انقطاعه، ولا يمكن استرداد ما سلبه منه ولا استرجاعه، فقلبه قد ملأته أوجاعه، وجفنه قد ضاق مجراه عن دمعه ففتحت به أضلاعه، فقلت:
وساقيةٍ تئنُّ أنينَ ثكلى * شكَتْ بأنينها حرَّ الأُوارِ
فقال:
تحنّ ولا تزال تطوفُ عَجلى * كرازمةٍ تحنُّ إلى حُوار
فقلت:
غدت تَحكي مُحباً ذا انتحابٍ * يطوّف باكياً في رسم دار
فقال:
حكت فلكاً ل جلْب اللهو دارت * عليه من قوادسِه دَراري
***
وبصرنا بساقية تتلوى تلوّيَ الأفعوان، وتخفق خفقات قلب الجبان، والزهر قد نظم بلبّتها عقوداً فوق أثوابها الممسّكة، والنسيم يكسوها ويلبسها غلائل مفركة، فقلت:
أساقية أم أرقمٌ فرّ هاربا
فقال: أم الريحُ قد هزّت من الماءِ قاضبا
فقلت:
حصىً مثلُ دُرّ الثغرِ أجرى زلالُه * رضباً وأبدى نبتُه النضرُ شاربا
فقال:
يوَشّحها زهرُ الرياض قلائداً * ويُلبسها مرُّ الرياح جلاببا( 14)
الحواشي:
([1])الأنوار ومحاسن الأشعار، ص3.
([2]) الأنوار ومحاسن الأشعار، ص3.
([3]) الأنوار ومحاسن الأشعار، ص4.
([4]) الأنوار ومحاسن الأشعار، ص4.
([5]) الأنوار ومحاسن الأشعار، ص5.
([6]) الأنوار ومحاسن الأشعار، ص9.
([7]) انظر ديوان ابن الرومي 3/1150.
([8]) الأنوار ومحاسن الأشعار، ص7.
([9]) الأنوار ومحاسن الأشعار، ص9.
([10]) الأنوار ومحاسن الأشعار، ص7.
([11]) الأنوار ومحاسن الأشعار، ص6.
([12]) الأنوار ومحاسن الأشعار، ص8 ـ 9.
([13]) الأنوار ومحاسن الأشعار، ص5.
([14]) بدائع البدائه، ص204.
مجلة التراثالعربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 93 و 94 - السنة الرابعةوالعشرون - آذار وحزيران 2004 - المحرم وربيع الثاني 1424