الزهراء في السُنّة الشريفة في السنة النبوية عدد ضخم من الأحاديث التي لا تخضع للحصر ، نطق بها الرسول محمد ( صلى الله عليه وآله ) ليبرز قيمة الزّهراء وبعلها أمير المؤمنين عليًّ ( عليه السلام ) وولديها الحسنين ( عليهم السلام ) وقد أجمع أهل السير والتأريخ على أكثرها ، ولكنّ هذا العدد الضخم من الأحاديث النبويّة التي طفحت بها كتب السيرة النبويّة وكتب الحديث قد ولّدت لدى بعض المرجفين وأعداء الحق نوعاً من رد الفعل مما جعلهم يفسّرون هذه الظاهرة ـ ظاهرة غزارة الأحاديث النبوية في فضل الزهراء ( عليها السلام ) على أنّها تمثّل موجاً عاطفياً ، دفع الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لمدح فاطمة ( عليها السلام ) كما مدح عليّاً ( عليه السلام ) بدافع عاطفي كذلك ، فهو ( صلى الله عليه وآله ) يبرز قيمة الزهراء ( عليها السلام ) وأبعاد فضلها على نساء العالمين لأنّها ابنة خديجة التي كان يحبُّها حبّاً مطلقاً ، سيّما وهي التي وقفت معه أيّام عسرته ، وبذلت كلّ ثروتها في سبيل دعوته . وهذا ما جعله يعطف على فاطمة ( عليها السلام ) لأنّها وديعة زوجته المخلصة خديجة ، فضلاً عن أنها ابنته ، مما جعل عاطفة الأُبُوّة ـ هي الأُخرى ـ تلعب دورها في أحاديثه ـ على حدّ تعبير المرجفين ـ. ويفسّر هؤلاء الأحاديث التي أطلقها الرّسول ( صلى الله عليه وآله ) في إبراز شخصية عليًّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) وكثرة الثناء عليه في أنّها أحاديث أملتها العاطفة على محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فالإنتصارات المستمرة التي أحرزها عليٌ ( عليه السلام ) والبطولات التي حقّقها في جهاد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وحروبه مع أعداء الإسلام ، هي التي دعت الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أن يذكر عليّاً ( عليه السلام ) في مناسبات كثيرة يضمنها مدحه وثناءه المنقطع النظير لعليًّ ( عليه السلام ) ما دام هو القائد لانتصاراته والماحق لصرح أعدائه (1). هذه التفسيرات أطلقها بعض الكتاب المحدثون عند استعراضهم لبعض معالم السنة النبوية ، لا سيما في الجانب الذي يتناول أهل البيت ( عليهم السلام ). ولكن هذا التفسير الجائر لهذه الأحاديث النبويّة يمثّل حملة عنيفة على شخصية الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بصفته حامل رسالة سماويّة. ونحن بدورنا نستطيع أن ندحض هذه الشُّبهات الوضيعة إذا رسمنا نقطتين في هذا المجال لتبيان بطلان هذه التفاسير التي لا يسندها منطق ولا يدعمها واقع : 1ـ إنّ ادعاء كون الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يتأثر تأثراً عاطفياً في أحاديثه يجعل القائلين به يخرجون الرسول ( صلى الله عليه وآله ) عن حدود العصمة ، مع أنّ الأدلة العقلية والنقلية مستفيضة في إثبات عصمة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في كافة ألوان نشاطه ، وفيما يصدر من أحكام وآراء ، فكيف يتأثر ـ يا ترى ـ بالعاطفة مع العلم أنّ العاطفة يتسرب الوهن والخطأ إلى أحكامها ؟ . والقرآن الكريم ـ كتاب الله العزيز ـ قد أمرنا بالإلتزام بكلّ تعليم يصدر عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أنّى كان لونه ـ كقوله تعالى : ... « وما آتاكم الرسول ، فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا » .(2) وقوله : « « قل إن كنتم تحبُّون الله فاتبعوني يحببكم الله » . (3) فلو لم يكن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بعيداً عن العاطفة في أقواله الشريفة ونشاطاته المتعدّدة ، لما ألزمنا الله تعالى باتباعه ، علماً بأنّ الآيات صريحة لم تستثن في أقوال الرسول أو افعاله شيئاً ، بل إنّنا ملزمون بأتّباع كلّ ما ألزمنا الرسول ( صلى الله عليه وآله ) باتّباعه ، وقد قرّر القرآن الكريم حقيقة عصمته قبل إلزامنا بالسير طبقاً لتعليماته ـ قوليّة كانت أم فعليّة ـ لقوله تعالى : ... « وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، علّمه شديد القوى ، ذو مرّة فاستوى » (4) . لأنّ العصمة تمثل ـ بدورها ـ المناعة الطبيعية التي تضفي على صاحبها لوناً خاصّاً من السلوك ، تبعده عن كلّ ما من شأنه أن يوقعه في سهو أو خطأ يخرجه في سلوكه ـ أنّى كان لونه ـ عن إطار المنهج الإلهي. 2ـ إنّ أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وآله ) التي أطلقها في مواقفه الكثار في التحدُّث عن أهل بيته وفي طليعتهم عليّ وفاطمة ـ مهما بلغت من مستوى عاطفيًّ ـ كما يدّعي المرجفون ـ فإنّها لم ترتفع في مستواها عن مستوى الآيات الكريمة التي نزلت لتبيان سمو منزلتهما العظيمة ، بل إنّ أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وآله ) التي وصفت عليّاً وفاطمة ، أو أثنت عليهما ـ كانت شرحاً لتلك الآيات أو عيشاً في ظلالها الوارفة دون خروج عن إطارها العام على الإطلاق. لنعش ـ قليلاً ـ في ظلال بعض الأحاديث النبويّة التي نطق بها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) للثّناء على أهل البيت أو تبيان فضائلهم ، ليتّضح لنا ـ بجلاء ـ المستوى العاطفي المزعوم في أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بعد أن نقرنها بالآيات الكريمة التي نزلت في أهل البيت ( عليهم السلام ). 1ـ ورد في ( صحيح البخاري ) عن أعور بن محزمة : أنّ رسول الله قال : « فاطمة مني ، فمن أغضبها أغضبني » . 2ـ ( مستدرك الصحيحين ) عن عليًّ ( عليه السلام ) قال رسول الله لفاطمة : « إنّ الله يغضب لغضبكِ ، ويرضى لرضاكِ » . 3ـ في ( مسند أحمد بن حنبل ) : أنّ رسول الله أخذ بيد حسن وحسين ، وقال : « من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأُمهما ، كان معي في درجتي في الجنة يوم القيامة » . 4ـ عن أبي هريرة ، قال : نظر النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى عليًّ وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : « أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم » . 5ـ روى أبو سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق » . 6ـ روى زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ». وبإيراد هذه الجملة من أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وآله ) التي تتّسم بطابع الثناء على أهل البيت ( عليهم السلام ) يجدر بنا أن نكشف المدى الذي بلغته هذه الأحاديث الكريمة التي تمثّل مجموعة ضخمة من السنّة النبويّة الشريفة في تبيان فضائل اهل البيت ( عليهم السلام ) : فالحديث الأول ، لم يرسل لنا إلا ما أكدته آية المودّة : « قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى » . حيث أنّ الآية ألزمت الأُمّة إلزاما شرعّياً بمحبّة أهل البيت والسير وفقاً لمنهجهم القويم. وعلى هذا الأساس الّذي تقرّره الآية الكريمة ، فإنّ اغضاب أهل البيت وإيذاءهم جريمة ، لأنّه يجرُّ إلى إغضاب الله تعالى ورسوله الكريم اللذين قرّرا وجوب محبّة أهل البيت والإلتزام بحبلهم. والحديث الثاني ، يلتزم ـ هو الآخر ـ بنفس القيود ، بل يؤكّد نفس المعالم التي رسمتها آية المودّة ، لأنّ الله سبحانه قد قرر محبّة الزهراء وإرضاءها ، إذ لا تتحقق أبعاد المحبّة إلا بإرضائها. ولما كان الله تعالى هو الّذي ألزم الأُمة بمحبة الزهراء ( عليها السلام ) وسائر أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فقد أصبح إرضاؤها إرضاءً لله الذي أوجبه ، كما أنّ إسخاطها سيجلب سخط الله تعالى الذي ألزم بالحنوّ عليها وسلوك منهجها. والحديث الثالث ، يبرز الحقيقة ـ عينها ـ فحين تتّم طاعة المرء للرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، التي تؤلف الرُّكن الثاني من أركان الإيمان في الرسالة الإسلامية ، وحيت تجتمع مع هذه الطاعة ، طاعة أهل البيت ومودّتهم ، فإنّما قد تتحقق بذلك السعادة ويتجسّد الإيمان في نفسية المرء وألوان سلوكه ممّا يحتّم بلوغ هذا الإنسان درجة رفيعة من التُّقى تقوده إلى الجنّة. وهذا الحديث الذي يطلقه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فإنّما يعيش فيه تحت ظلال الآيات الكريمة ، فالله سبحانه هو الذي ألزمنا بإتّباع الرسول وطاعة أهل بيته ، وحين نجسّد هذه الطاعة على سلوكنا ، فإنّما قد مثلنا مفهوماً ألزمنا الله بإتّباعه وحين نلتزم بهذا المفهوم الحيّ ، نكون قد حقّقنا الطاعة المطلقة لله سبحانه التي تقودنا إلى رضوانه ودخول جنّته. والحديث الرابع ، يعطينا نفس الإيحاء ويضرب على نفس الوتر في وجوب الاعتصام بأهل البيت ( عليهم السلام ) ، لأنّ عدوّهم معادٍ للرسول الذي سأل مودّتهم كأجرٍ تدفعه الأُمّة إلى رسولها ( صلى الله عليه وآله ) ، وهذا ما تقرره آية المودّة ـ عينها ـ. وأمّا الحديث الخامس ، فإنّه يعطي نفس التلقينات التي رسمتها آية التطهير من كلّ رجس. إذن فالأُمّة مكلّفة باتّباعهم ، لأنّهم على هذا الأساس : سبيل النجاة ، والطريق المستقيم الموصل إلى الله تعالى. وفي الحديث السادس ، يوضح الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : أن أهل بيته : ترجمان الكتاب ، والصورة الحيّة المتحركة لمنهج السماء. ولو لم يكن أمرهم هذا شأنه ، لما وصفهم الله تعالى بالمطهّرين من الرجس ، ولما أوجب مودتهم واقتفاء اثرهم. ونحن ـ حين نستعرض أبعاد الأحاديث التي نطق بها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) مشيداً فيها بأهل بيته ـ فإنّنا لا نشمُّ أيّة رائحةٍ للعاطفة التي يدّعيها المرجفون ، فهو ـ مرّة ـ يلزم بحبّهم ، ـ ومرّة ـ ينهى عن إسخاطهم ، ـ وأُخرى ـ يأمر بإرضائهم ـ وثالثة ـ يصفهم بسفينة نوح ، ـ ورابعة ـ يصفهم بترجمان القرآن والحي . وهذه النعوت التي يطلقها الرسول لم تكن لتخرج ـ على الإطلاق ـ عن إيحاء الآيات الكريمة التي ألزمت بحبهم ، وأعلنت طهارتهم من كلّ دنس جاهلي ، فما دام الله سبحانه قد جعل طاعة أهل البيت ( عليهم السلام ) كسائر الفرائض والأحكام الشرعية ، فإنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قد التزم بهذا التلقين السماوي ، لذا كانت أحاديثه غزيرة في هذا المضمار ، ولعلّه ( صلى الله عليه وآله ) ما اهتم بأهل بيته هذا الإهتمام ولم يولهم هذه العناية المنقطعة النظير إلا لأنّه واثق من أنّ كرامة الأمة وسؤددها منوطتان باحتضان أهل البيت ( عليهم السلام ) والسير وفقاً لمعالم منهجهم الإسلامي الرصين ، فأراد أن تردد الآفاق صدى أقواله لتوقد الأُمة إلى طاعة أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين يمثلون القادة المبدئيين الحقيقيين بعد محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وعلى أيديهم تتحقّق أصالة هذا المنهج الإلهي وكرامة هذه الأمّة ومجدها التالد. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) وعاظ السلاطين / الوردي. (2) سورة الحشر / آية 7. (3) سورة آل عمران آية / 31. (4) سورة النجم / آية 3 ـ 6. المصدر : كتاب / الزهراء / عبد الزهراء عثمان محمد