مذاهب أهل
العلم في جلسة الاستراحة
في الصلاة
الحمد لله على نعمة الإسلام، والصلاة والسلام على محمد خير الأنام، وعلى آله وصحبه وأزواجه الكرام، وعلى من اتبعهم بإحسان، وبعد..
ينبغي للمسلمين أن يسعهم ما وسع سلفهم الصالح، إذ الخلاف فيه سائغ وممنوع، والسائغ منه راجح ومرجوح، وعلى المسلم أن يدين الله - عز وجل - بما ترجح لديه، وأن لا يحمله التعصب والتقليد أن ينكر على إخوانه المسلمين ما أداه إليه اجتهادهم، واطمأنت إليه نفوسهم.
من تلكم الأمور التي اختلف فيها السلف الصالح بين مستحب لها وكاره
جلسة الاستراحة، ولكل من الفريقين دليله وحججه ومستنده، على الرغم من ذلك نجد البعض ينازع ويجادل في عدم مشروعيتها، أوفي استحبابها، لهذا أحببت أن أوضح مذاهب أهل العلم
في هذه المسألة مع ذكر أدلتهم وترجيحاتهم، والله أسأل أن ينفع بذلك الكاتب، والقارئ، والسامع، والمبلِّغ، إنه ولي ذلك والقادر عليه، فأقول:
تعريف
جلسة
الاستراحة
هي الجلسة التي يجلسها المصلي بعد الرفع من السجدة الثانية من الركعة الأولى في
الصلاة الثنائية، ومن الركعة الأولى والثالثة من الصلاة الرباعية قبل النهوض إلى القيام إلى الركعة التي تليها، سواء كانت الصلاة
فرضاً أو نفلاً.
حُكْمَها
الاستحباب لمن احتاج إليها.
الحِكْمَةُ منها
راحة المصلي المحتاج إليها، واستجمامه قبل النهوض إلى القيام.
مذاهب أهل العلم في جلسة
الاستراحة
بعد أن أجمع أهل
العلم على عدم وجوبها اختلفوا في استحبابها إلى ثلاثة مذاهب
أو أقوال، هي:
المذهب الأول: غير مستحبة
وهذا مذهب جمهور أهل
العلم
من الصحابة ومن بعدهم.
ذهب إلى ذلك من الصحابة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم -.
ومن الأئمـة أبو حنيفة، والثـوري، وأبو الزيـاد، ومالك، وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وإسحاق بن راهويه، وقول للشافعي - رحمهم الله -.
أدلة هذا المذهب
استدل القائلون بعدم استحبابها بالآتي:
1. حديث "المسيء صلاته"1، حيث لم يرد ذكر لها.
2. حديث وائل بن حُجْر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان إذا رفع رأسه من السجدة استوى قائماً بتكبيرة". 2
المذهب الثاني:
جلسة الاستراحة
مستحبة
وهذا مذهب طائفة من أهل
العلم
- رحمهم الله -.
من الصحابة: مالك بن الحويرث، وأبو حُمَيْد، وأبو قتادة - رضي الله عنهم -.
ومن التابعين أبو قِلابة - رحمه الله -.
ومن الأئمة فهو مشهور مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، ومذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه - رحمهم الله -.
أدلة هذا المذهب
استدل المستحبون لجلسة
الاستراحة
بالآتي:
1. عن أبي قلابة قال: جاءنا مالك بن الحويرث فصلى بنا، فقال: "إني لأصلي بكم، وما أريد الصلاة، أريد أن أريكم كيف رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي"، قال أيوب: قلت لأبي قِلابة: كيف كانت صلاته؟ فقال: مثل شيخنا، يعني عمرو بن سلمة؛ قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير، فإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض ثم قام". 3
2. وقال أبو حميد وهو يصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثم هوى ساجداً ثم ثنى رِجْلَه وقعد حتى رجع كل عظم موضعه، ثم نهض". 4
المذهب الثالث
وهو وسط بين القولين السابقين، فأجازوا الجلسة واستحبوها لمن احتاج إليها، ومنعوا منها القوي، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ومن وافقه.
أقوال أهل
العلم
في ذلك:
قال النعمان بن أبي عياش5: أدركتُ غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، أي لا يجلس.
قال الترمذي بعد أن روى هذا الأثر: وعليه العمل عند أهل العلم.
وقال أبو الزناد: تلك السنة، أي ترك
جلسة
الاستراحة.
وقال أحمد بن حنبل: أكثر الأحاديث على هذا، أي على تركها.
قال النووي: (مذهبنا الصحيح المشهور أنها مستحبة كما سبق، وبه قال مالك بن الحويرث، وأبو حُميد، وأبو قتادة، وجماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وأبو قِلابة وغيره من التابعين، قال الترمذي: وبه قال أصحابنا6، وهو مذهب داود ورواية عن أحمد.
وقال كثيرون أو الأكثرون: لا يستحب، بل إذا رفع رأسه من السجود نهض، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبي الزياد، ومالك، والثوري، وأصحاب الرأي7، وأحمد، وإسحاق.
إلى أن قال: واحتج لهم أي ابن المنذر بحديث "المسيء صلاته"، ولا ذكر لها فيه، وبحديث وائل بن حُجْر المذكور في الكتاب، قال الطحاوي: ولإنه لا دلالة في حديث أبي حُمَيد، قال: ولأنها لو كانت مشروعة لَسُنَّ لها ذكر كغيرها.
واحتج أصحابنا الشافعية بحديث مالك بن الحويرث.
إلى أن قال: والجواب عن حديث "المسيء صلاته" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما علمه الواجبات دون المسنونات، وهذا معلوم سبق ذكره مرات، وأما حديث وائل ولو صح8 وجب حمله على موافقة غيره في إثبات
جلسة
الاستراحة، لأنه ليس فيه تصـريح بتركهـا، ولو كان صحيحـاً لكان حديث مالك بن الحويرث وأبي حُميد وأصحابه مقدماً عليه لوجهين.
أحدهما: صحة أسانيدها.
والثاني: كثرة رواتها.
ويحتمل حديث وائل أن يكون رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت، أو أوقات تبييناً للجواز، وواظب على ما رآه الأكثرون، ويؤيد هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمالك بن الحويرث بعد أن قام يصلي معه، ويتحفظ
العلم
منه عشرين يوماً، وأراد الانصراف من عنده إلى أهله: "اذهبوا إلى أهليكم، ومروهم، وكلموهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي"، وهذا كله ثابت في صحيح البخاري من طرق، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا، وقد رآه يجلس للاستراحة، فلو لم يكن هذا هو المسنون لكل أحد لما أطلق - صلى الله عليه وسلم - قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وبهذا يحصل الجواب عن فرق أبي إسحاق المروزي من القوي والضعيف، ويجاب به أيضاً عن قول من لا معرفة له، ليس تأويل حديث وائل وغيره بأولى من عكسه، وأما قول الإمام أحمد: إن أكثر الأحاديث على هذا ليس فيها ذكر الجلسة إثباتاً لا نفياً، ولا يجوز أن يحمل كلامه على مراده أن أكثر الأحاديث تنفيها، لأن الموجود في كتب الحديث ليس كذلك، وهو أجل من أن يقول شيئاً على سبيل الإخبار عن الأحاديث ونجد فيها خلافه، وإذا تقرر أن مراده أن أكثر الروايات ليس فيها إثباتها ولا نفيها لم يلزم رد سُنَّة ثابتة من جهات عن جماعات من الصحابة، وأما قول الطحاوي: إنها ليست في حديث أبي حُمَيد فمن العجب الغريب، فإنها مشهورة فيه في سنن أبي داود، والترمذي، وغيرهما من كتب السنن والمسانيد للمتقدمين، وأما قوله: لو شرعت لكان لها ذكر، فجوابه أن ذكرها التكبير، فإن الصحيح أن يمد حتى يستوعبها ويصل إلى القيام، كما سبق، ولو لم يكن فيها ذكر لم يجز رد السنن الثابتة بهذا الاعتراض، والله أعلم). 9
وقال ابن قدامة: (اختلفت الرواية عن أحمد، هل يجلس للاستراحة؟ فرُوِيَ عنه: لا يجلس، وهو اختيار الخِرَقي، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وبه يقول مالك، والثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي.. والرواية الثانية: أنه يجلس، اختارها الخلال، وهو أحد قولي الشافعي، قال الخلال: رجع أبو عبد الله إلى هذا، يعني ترك قوله بترك الجلوس.
إلى أن قال: وقيل إن كان المصلي ضعيفاً جلس للاستراحة، لحاجته إلى الجلوس، وإن كان قوياً لم يجلس، لغناه عنه، وحُمِلَ جلوس النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه كان في آخر عمره، عند كبره وضعفه، وهذا فيه جمع بين الأخبار، وتوسط بين القولين). 10
وقال الخرقي: (ولا يجلس للاستراحة). 11
وقال الشيخ البَسَّام - حفظه الله -: (لا شك في صحة أدلة الطرفين، ولذا فإن الأفضل هو الجمع بين النصوص، فيكون استحبابها عند الحاجة إليه من كِبَر أو مرض أو عجز ونحو ذلك، ويكون تركها وعدم استحبابها عند الاستغناء عنها وعدم الحاجة إليها، وهذا هو نهج جماعة من المحققين.
قال الشيرازي في المهذب: إن كان ضعيفاً جلس لأنه يحتاج إلى الاستراحة، وإن كان قوياً لم يجلس لأنه لا يحتاج إلى الاستراحة. انتهى.
وجاء في حاشية الشيخ أبي القاسم على "الروض"12: ثبت أن النبي صلى فعلها، ولكن لم يذكرها كل واصف لصلاته، ومجرد فعلها لا يدل على أنها من سنن الصلاة.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -:
جلسة الاستراحة
من الأشياء العارضة، لا الراتبة، فيكون فعلها من السنة العارضة، لا الراتبة، وبهذا تجتمع الأدلة. انتهى.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أصح الأقوال الثلاثة في
جلسة الاستراحة
استحبابها عند الحاجة، واستحباب تركها عند عدم الحاجة. انتهى.
إلى أن قال: والقول بهذا التفصيل هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية).
الخلاصة
أن القول الثالث هو أعدل الأقوال، أنها مستحبة لمن احتاج إليها لكِبَر أو مرض أو سمن، وغير مستحبة لمن لا يحتاج إليها.
وإن كان في الأمر سعة فمن ترجح لديه استحبابها فعلها، ومن ترجح لديه عدم استحبابها تركها ولا حرج عليه، والله أعلم.
كيفية
جلسة
الاستراحة
قولان لأهل العلم13:
1. يجلس مفترشاً على صفة الجلوس بين السجدتين، وهذا أرجحهما، لقول أبي حُمَيد السَّاعدي: "ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى رجع كل عضو إلى موضعه، ثم نهض"، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد.
2. يجلس على أليتيه، وهي رواية ثانية عن أحمد، قال الخلال: روي عن أحمد ما لا أحصيه كثرة أنه يجلس على أليتيه.
قال القاضي أبو يَعْلَى: يجلس على قدميه وأليتيه مفضياً بهما إلى الأرض.
كيف ينهض إلى القيام من
جلسة
الاستراحة؟
قولان لأهل العلم:
1. ينهض معتمداً على يديه، وهذه هي العلة والحكمة من
جلسة
الاستراحة، وهذا مذهب مالك والشافعي.
2. ينهض على صدور قدميه، معتمداً على ركبتيه، أو واضعاً كفيه على فخذيه، وهذا مذهب أحمد.
قال ابن قدامة: (ينهض إلى القيام على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه، ولا يعتمد على يديه، قال القاضي: لا يختلف قوله أي أحمد أنه لا يعتمد على الأرض، سواء قلنا يجلس للاستراحة أولا يجلس، وقال مالك والشافعي: السُّنة أن يعتمد على يديه في النهوض، لأن مالك بن الحويرث قال في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انه لما رفع رأسه من السجدة الثانية استوى قاعداً ثم اعتمد على الأرض، رواه النسائي14، ولأن ذلك أعون للمصلي، ولنا ما روى وائل بن حُجْر قال: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه"، رواه النسائي15 والأثرم، وفي لفظ: "وإذا نهض نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذيه"، وعن ابن عمر قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة"، رواهما أبوداود16، وقال علي رضي الله عنه: إن من السنة في
الصلاة
المكتوبة إذا نهض الرجل من الركعتين الأوليين أن لا يعتمد بيديه على الأرض، إلا أن يكون شيخاً كبيراً لا يستطيع، رواه الأثرم). 17
قلت: القولان أدلتهما صحيحة، وهذا من باب خلاف التنوع الجائز، وقد يكون أحدهما أرجح، والله أعلم.
هل ترفع الأيدي عند النهوض من
جلسة
الاستراحة؟
قولان لأهل العلم، أرجحهما لا ترفع الأيدي إلا في ثلاثة مواضع بعد تكبيرة الإحرام: عند الركوع، والرفع منه، وعند القيام من الجلوس الوسط، لقول ابن عمر رضي الله عنهما: "وكان لا يفعل ذلك في السجود"18، وفي رواية البخاري: "ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع من السجود".
وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما: "كان إذا دخل
الصلاة
كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه"، ورفع ابن عمر ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 19
روى بسند ضعيف كما قال النووي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يرفع يديه إذا ركع، وإذا سجد". 20
متى يكبر للنهوض من جلس للاستراحة؟
قولان لأهل العلم:
1. إذا نهض من
جلسة الاستراحة
قائماً.
2. ينهي تكبيره عند انتهاء جلوسه، ثم ينهض من غير تكبير.
3. ينهض مكبراً.
وقد رجح ابن قدامة القول الثاني، وخطَّأ الثالث.